هل يخفف التباعد بين القوتين السنيتين الكبيرتين مصر وتركيا حدة التوتر المذهبي السني - الشيعي في المنطقة؟

نعم ... ولكن ثمة أسباب أخرى أهم وأشمل تساهم في تبريد الأجواء الإقليمية

TT

هذا السؤال يأخذنا إلى الدائرة السورية وما استجد فيها من تحولات. ومن الواضح أن الدول المؤثرة في الأزمة السورية، تشعر الآن بصعوبة الحسم المنفرد للموقف على هذه الساحة. لا الحكومة السورية ومن ورائها إيران وروسيا قادرة على استرجاع ما فقدته من أرض وهيبة، ولا المعارضة ومن ورائها تركيا والحلفاء الغربيين قادرة على تثبيت سيطرتها على أي جزء من الأرض السورية، بما يمكنها من الادعاء أنها تشكل بديلا جديا للنظام، ثم إن دخول «القاعدة» وتوسع نفوذ الإسلاميين الآخرين يثير القلق بين داعمي الثورة والجيران على حد سواء، بأن انتصارا حاسما للمعارضة سيضعهم أمام تحديات يستحيل استيعابها أو السيطرة على مساراتها.

الاتفاق المعلن بين واشنطن وموسكو على «حل سياسي» للأزمة السورية، ثم إعلان بريطانيا أن وزير خارجيتها سيلتقي الرئيس الإيراني حسن روحاني في نيويورك، وإشارة الولايات المتحدة إلى عدم استبعاد لقاء بين الرئيسين أوباما وروحاني، تشير كلها إلى أن المسار العام في المنطقة يتجه نحو تبريد النقاط المتفجرة.

صحيح أن الأزمة السورية هي موضوع النقاش الرئيس، مثلما هي نقطة الاشتباك المباشر، إلا أنها لم تعد موضوعا إقليميا بحتا. وبالتالي، فإنها لن تكون موضوع نقاش منفصل عن نقاط الاشتباك الأخرى بين الأطراف ذات العلاقة. ومن المؤكد أن لبنان والعراق والملف النووي والقضية الفلسطينية، وربما قضايا أخرى، ستكون حاضرة ومؤثرة.

هذا التوجه الإيجابي سينعكس بالتأكيد على مواقف الفاعلين المحليين وعلى نوعية الأسلحة التي يستخدمونها واستهدافاتهم المرحلية. وأعتقد أن التصاعد الشديد في النزاعات المذهبية خلال السنوات الثلاثة الماضية لم يكن استراتيجية معتمدة من جانب أي من دول الإقليم، بل هو سلاح تلجأ له القوى السياسية الصغيرة. وهي تستثمر، لهذا الغرض، أجواء الصراع المحتدم بين الكبار.

إن ميل القوى الرئيسة، سواء روسيا والولايات المتحدة أو تركيا وإيران إلى حلول سياسية لصراعاتها الإقليمية، سيؤدي بالضرورة إلى تفكيك أجواء الاحتقان التي تستثمرها القوى الصغيرة في إثارة صراع طائفي.

بكلمة أخرى، فإن التصارع المذهبي سيتراجع.. ليس بالضرورة نتيجة لانفكاك التحالف المصري - التركي، بل نتيجة للتحولات الجارية والمنتظرة في الساحة السورية.

من ناحية ثانية، الأزمة السورية هي نقطة الاشتباك الرئيس بين تركيا وإيران، وتحولات هذه الأزمة تؤثر مباشرة على الدور الإقليمي لكل منهما. لكن القضية السورية لم تعد صراعا محليا أو إقليميا، إذ إن تهديد الرئيس باراك أوباما بشن ضربة عسكرية على دمشق، ثم تراجعه تحت الضغط الروسي، يعني أن أوراق الحسم أصبحت خارج الإقليم. وصعود الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر، العام الماضي، أعطى دفعة قوية لمكانة تركيا كأبرز صناع المشهد السياسي في الشرق الأوسط الجديد. لكن هذا لم يدم طويلا. فسرعان ما سقط «الإخوان» وانضمت مصر إلى قائمة المطالبين بحل سياسي في سوريا، وهو موقف يضعها - بالضرورة - في مقابل تركيا، التي تمثل حاليا شريان الحياة الرئيس للمعارضة السورية المسلحة.

ربما يبدو هذا انتصارا للإيرانيين، لكنني أحتمل أن هذا الوصف فيه مبالغة، إذ كانت مصر هي المعادل السياسي - الاستراتيجي لإيران في نظام الأمن الإقليمي. ولقد بدا أن صعود الإسلاميين فيها يشكل بداية لما وصفه بعض المحللين بمحور «سني» مضاد للمحور «الشيعي» الذي تتزعمه إيران. وهذا يضعها بالضرورة في صف تركيا وضد إيران. غير أن هذا الوصف يتجاهل حقيقة أن صعود الإخوان المسلمين ولد معادلة أخرى نقيضة تخص العلاقة بين مصر ومحيطها العربي.

دور مصر المقابل لإيران كان موضع ترحيب خلال عهد الرئيس حسني مبارك، لكن الأمر ليس كذلك في ظل «الإخوان»، فحلفاء مصر العرب - في الخليج مثلا - يشعرون بالقلق من توجهات الإسلاميين. وظهر هذا الموقف بجلاء في شكل تأييد متحمس للإطاحة بـ«الإخوان».

بعبارة أخرى، فإن صعود «الإخوان» في مصر كان انتصارا لتركيا.. لكنه ليس خسارة لإيران، لأن طهران لم تكن على وفاق مع نظام مبارك من جهة، وبالتالي فسقوطه لم يكن خسارة لها، ولأن شكوك الخليجيين في «الإخوان» لم يكن ليسمح لمصر - مرحليا على الأقل - بأن تلعب دور المعادل السياسي لإيران في المنطقة. وبالمنطق نفسه فإن سقوط «الإخوان» كان ضربة للنفوذ التركي، لكنه ليس انتصارا لإيران.. لأن صعود الإسلام السني مع الإخوان أدى - كذلك مرحليا على الأقل - إلى تقليص تحالفات مصر الإقليمية السابقة.. وليس العكس. ومن هنا يمكن القول إن التنافر المصري - التركي المستجد هو أقرب إلى تغيير مواقع في ساحة الصراع الإقليمي بين إيران وتركيا، لكنه لم يكن انتصارا ملموسا للأولى.

* أكاديمي ومحلل سياسي سعودي خبير بالشؤون الإيرانية