وهل سنشهد انشقاقا ثانيا في الحزب الحاكم كانشقاق الترابي بعد رسالة قياديي «الإنقاذ» الـ31

نعم ... الانشقاق وارد.. إذا أصر بعض في القيادة على تجاهل الرأي الآخر

TT

هذه النتيجة متوقفة بصورة أساسية على ردة فعل قيادة الحزب الحالية. وهناك عدة عوامل ستحدد ردة الفعل تلك.

أولا، هناك النزعة المتمكنة لدى بعض القيادات التي تضيق بالرأي المعارض، بل تنكر حقه في الوجود أصلا. وهؤلاء يدفعون نحو المواجهة، على الرغم من أن الحجر على التعبير لم يعد مقبولا في الزمن الراهن، كما أنه غير قابل للتطبيق، مع وفرة المنافذ الإعلامية.

ثاني العوامل هو تبني بعض القيادات السياسة التشكيك في المؤهلات الأخلاقية والنية النفسية لدعاة الإصلاح. وهذا السلاح الذي غالبا ما تستخدمه الجهات الاستخبارية، بالربط بين أحداث ووقائع معينة تنسج منها قصصا تشكيكية قابلة للتسويق، هو أسوأ تكريس لانعدام الثقة.

ثالث العوامل هو إغلاق باب الحوار، والتعويل على تجريم أصحاب الأفكار ومعاقبتهم.

حتى الآن تنشط العوامل الثلاثة؛ فقد أنكرت بعض القيادات على دعاة الإصلاح تعبيرهم المفتوح عن آرائهم. وأسرع هؤلاء إلى استخدام سلاح العقوبات بتكوين لجنة محاسبة تشكلت بلغة تجريمية، تثبت التهم أولا، ثم تدعو إلى التحقق منها لاحقا.

لكن نتيجة البادرة الإصلاحية وأثرها على احتمالات الانقسام ستتحدد أيضا، بما يشكل نيات دعاة الإصلاح ويوجه مسلكهم. أول العوامل هو الهدف الحقيقي لدعاة الإصلاح، نحو تكوين تشكيل سياسي جديد؛ إذا كان ذلك هو خيارهم الدفين، فإن كل قراراتهم وأفعالهم ستخدم ذلك الخيار، وسيصبح الانقسام مسارا قهريا.

ثاني العوامل يتعلق بموقف القوى المكونة للمؤتمر الوطني، خاصة ذات الخلفية الإسلامية، من الموجة الإصلاحية. سلوك تلك الكتلة التي تشكل المحيط الحيوي لقوى الإصلاح سيكون له أثر قوي في تشكيل توجههم نحو تكوين تشكيل سياسي جديد.

بالنسبة للعامل الأول، أي الاستراتيجية الحقيقية للإصلاحيين، فقد أعلنوا في أكثر من مناسبة أن البقاء في المؤتمر الوطني هو خيارهم الأول. وهناك عدة أسباب تؤيد مصداقية إعلانهم هذا. أهمها أنه كان في مقدورهم إنشاء تشكيل جديد فاعل وذي قاعدة واسعة أكثر من مرة، كان آخرها في مؤتمر الحركة الإسلامية، نهاية العام الماضي، لكنهم تجنبوا ذلك الخيار طمعا في صلاح القائمين على الأمور، واتعاظهم بما يجري في السودان، وفي المنطقة حوله.

أما بالنسبة للعامل الثاني، وهو مزاج الإسلاميين داخل المؤتمر الوطني تجاه الإصلاح، فالواضح أنهم يؤيدون الأفكار الإصلاحية تأييدا قويا، بسبب اعتقادهم بأن تجربة المؤتمر الوطني حتى الآن قصرت كثيرا عن بلوغ المثال الحضاري الذي بشروا به. وهم يؤيدون الاحتكام إلى المرجعيات الأخلاقية التي عرفوها، ومع ذلك يتوقفون عند تبني خطوات تعزز من فرص الانقسام.

هناك مكوّن ثالث يكتسب قوة متزايدة، ويرجح أن يكون له أثر على خيارات الإصلاحيين، إذا أعياهم وأعجزهم الإصلاح من الداخل. ذلك هو الرأي العام الشعبي الذي تعبأ ضد سياسات الحكومة، خاصة بعد تطبيق الحزمة الاقتصادية الأخيرة، لكنه لا يعول على المعارضة السياسية القائمة، ويتخوف في الوقت ذاته من المعارضة المسلحة. بتعبير آخر، يتطلع هذا الرأي الشعبي إلى طرح جديد وقيادة جديدة. قوة هذا العامل تكمن في أنه يشجع بروز تيار جديد ناشئ، سواء من داخل المؤتمر الوطني أو من خارجه. إذا عدنا إذن إلى الإجابة عن سؤال فرص الانقسام مرة أخرى، فسنجد أن المشكلة التي تواجه الإصلاحيين هي أن مناوئيهم لم يغادروا دائرة التحفظات الإجرائية عليهم، على الرغم من أن ما يطرحه الإصلاحيون أفكار وليس إجراءات. هم تقدموا مثلا بأكثر من مبادرة تحوي استراتيجيات لمعالجة الأزمات السياسية والأمنية في البلاد، لكن تلك المبادرات لم تجد العناية الكافية والحماسة المرجوة، تقديرا لحساسية المواضيع التي يطرقونها. وقد ساهم ذلك في تعكير الأجواء حتى جاءت حادثة «الرسالة المفتوحة» الأخيرة، التي تعد المثال الأبرز لخلل التفاعل الداخلي مع مبادرات الأعضاء. أهم ما ميز تلك الرسالة كان محتواها لا طريقة تقديمها. فبإزاء المعالجة الأمنية لأزمة الإجراءات الاقتصادية، شعر كثير من أعضاء المؤتمر الوطني بالحاجة لإطلاق صيحة ضمير في وجه التساؤلات العميقة في الشارع، حول مصداقيتهم الأخلاقية إزاء الأحداث. وجاءت الرسالة لتبرئة المرجعية الإسلامية من أن تستخدم فقط لتسند مشروعية الحاكم، بينما تغفل عن ضمانات الشريعة في إحقاق حقوق العباد وتحريم حرماتهم. وكانت الحاجة لتلك الصيحة تدفعها بقوة المقارنات المصورة بما يأتي من بعض دول «الربيع العربي»، التي اختارت النهج الأمني في التعامل مع التعبير الشعبي. كان من الضروري عندئذ التحاكم إلى الأصول الأخلاقية المشتركة، حتى لا تتحول تجربة الحكم التي تستند إلى مصدرية شرعية إلى مجرد إدارة وضعية تسوقها مقاصد السياسة الواقعية في أنكر صورها.

إن فرص انقسام المؤتمر الوطني وإنشاء كيان سياسي جديد تعتمد بصورة أساسية على المسلك الذي تختاره قيادة المؤتمر الوطني، وذلك في مقابل الإعلان الصريح لدعاة الإصلاح عن أن أولوية خيارهم هي العمل من الداخل. وحدة المؤتمر الوطني تقتضي اجتناب أسلوب العقوبات والتجريم وتشويه الصورة. ليس ذلك فحسب، بل المطلوب هو إطلاق حرية التفكير عموما وإعطاء فرص حقيقية للمبادرات الإصلاحية، فقد تحوي مقترحات جديدة ومفيدة للواقع السوداني المعقد.

* قيادي في حزب المؤتمر الوطني الحاكم ومستشار الرئيس السابق