وهل سنشهد انشقاقا ثانيا في الحزب الحاكم كانشقاق الترابي بعد رسالة قياديي «الإنقاذ» الـ31

لا ... على الرغم من تأثير المذكرة.. فإنه الانشقاق غير وارد

TT

لن يتسبّب تحرك التيار الإصلاحي، داخل المؤتمر الوطني، في حدوث انشقاق داخل الحزب والنظام الحاكم في السودان. صحيح لن يستطيع أحد أن ينكر تأثير المذكرة التي تقدم بها التيار الإصلاحي، أو التحركات التي يقوم بها. فهي على الأقل تكشف أنه ليس تنظيما صلدا وموحدا، كما أنها من ناحية تعطي مشروعية للاحتجاجات الشعبية التي عمت البلاد في الفترة الأخيرة، ويمكن أن تتكرر مرة أخرى. غير أن الأمر لن يصل إلى حدوث انشقاق يُشار إليه، كما حدث في الرابع من رمضان عام 1999، حين انقلب الرئيس على شيخه الدكتور حسن الترابي، وأطاح به من رئاسة البرلمان، ومن زعامة الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، واتجه الشيخ ليكوّن المؤتمر الشعبي.

الأمر مختلف هذه المرة، ولعدة أسباب، يمكن أن نوردها هنا.

أول الأسباب وأهمها أن المؤتمر الوطني، كحزب ومؤسسة، لم يعد بالقوة والمكانة التي كان عليها في الماضي، فهو في أضعف حالاته على الإطلاق، ولعله لم يكن بهذا الضعف في أي مراحل سابقة. وحتى داخل التركيبة الحاكمة المكونة من الرئيس وأقرب أصدقائه، ثم المؤسسة العسكرية والأمنية، وأخيرا المؤسسة الحزبية، فإن الأخيرة تبدو هي الأضعف نفوذا والأقل تأثيرا في مجريات الأحداث ومراكز صناعة القرار.

وعندما كان المحللون يقرأون صراعات مراكز القوى داخل النظام السوداني في الماضي، سواء بين الرئيس عمر البشير، ونائبه الأول علي عثمان محمد طه، في مرحلة، ثم بين علي عثمان والدكتور نافع علي نافع نائب رئيس الحزب، في مرحلة أخرى، كانت ساحة الصراع والنفوذ هي المؤسسة الحزبية، باعتبارها الضلع الأقوى في التركيبة الحاكمة، والمركز الرئيس لصنع القرار وصياغة وهيكلة الجهاز التنفيذي. انتهى هذا الأمر الآن وولى زمانه، فمركز صناعة القرار الوحيد الآن هو مقر إقامة الرئيس، وبناء على تقارير ودراسات الأجهزة الأمنية.

ضعف الحزب الحاكم وتضاءل نفوذه يضعف من تأثيرات أي تحركات داخله، سواء على صعيد النظام الحاكم، أو على الوضع السياسي العام.

ثاني الأسباب يكمن في ضعف نفوذ وتأثير الشخصيات الموقعة، بحكم أنهم في معظمهم تنفيذيون سابقون، وحدود مواقعهم في الحزب هي عضوية المكتب القيادي. الدكتور غازي صلاح الدين وزير سابق للخارجية والإعلام، ومستشار ومساعد سابق للرئيس كان ممسكا بملفات السلام وقضية دارفور، ومثله حسن عثمان رزق، الذي تولى عدة مناصب ولائية ثم صار وزيرا للشباب والرياضة لفترة، أما الدكتورة عائشة الغبشاوي فكانت وزيرة للصحة قبل سنوات.

بقية المجموعة التي وقعت على المذكرة من نواب البرلمان، ثم المجموعة العسكرية التي أدينت بتهمة الضلوع في مؤامرة انقلابية، ثم أطلق سراحها بعفو رئاسي، مثل العميد محمد إبراهيم (ود إبراهيم)، والعقيد فتح الرحيم، وأخيرا ممثلين لمجموعة «سائحون» وقع عنها الدكتور أسامة توفيق. لا يتولى أي من هؤلاء مناصب تنفيذية أو عسكرية وأمنية، ولا حتى مكاتب مهمة في قيادة الحزب، وهذا بالتأكيد يضعف من نفوذهم.

أضف لذلك أن معظمهم أصحاب مواقف ناقدة للحزب والحكومة منذ فترة، ولم يشكل موقفهم الأخير أي مفاجأة، فهم مصنفون كـ«عصاة ومتمردين» مسبقا، وبالتالي لم يشكل موقفهم جديدا سوى أنهم تجمعوا معا، ولم يستطيعوا أن يضموا غليهم أي أسماء لامعة جديدة. ولم يكتسب تحركهم معنى أكبر ما لم ينضم لهم بعض التنفيذيين الحاليين، أو القيادات العليا للحزب والنافذين في الأجهزة الأمنية والعسكرية.

ثالث الأسباب الاعتقاد بأن الدكتور غازي صلاح الدين، قائد المجموعة الإصلاحية، لا يحب المواجهات، وأنه قد ينسحب في بعض اللحظات العصية، ويفضل الانزواء والبعد عن المعارك. فعلها مرة حين استقال من منصبه كمستشار للرئيس لشؤون السلام، وكتب مقالات ناقدة لتعامل الحكومة مع قضية دارفور، لكنه لم يمضِ أكثر من ذلك، وعاد لتولي المنصب نفسه بمسمى جديد. ثم خاض مؤخرا معركة داخل الحركة الإسلامية، الحاضن الآيديولوجي للمؤتمر الوطني، واجتمع حوله أنصار ومؤيدون، لكنه انسحب من المعركة في اللحظات الأخيرة، ورفض ترشيح نفسه للأمانة العامة للحركة.

يعرف عن الرجل أنه، وعلى الرغم من ماضيه الذي يغلب عليه التزمت والميل للتشدد، صار في الفترة الأخيرة أكثر انفتاحا وميلا للحوار مع كل القوى، داخل المؤتمر الوطني، وخارجه، وأكثر تواصلا مع الفعاليات الثقافية والاجتماعية في البلاد، كما أنه صاحب مقدرات فكرية وثقافية عالية، تظهر من خلال كتاباته الكثيرة. لكن على الرغم من ذلك، فإن هناك شكوكا في رغبته بقيادة حراك سياسي مباشر واستعداده للصدام بدرجات أعلى مع رفاقه في النظام الحاكم.

في مثل هذه الظروف، يصعب على المرء الاعتقاد بأن قواعد المؤتمر الوطني، التي بدت غائبة تماما عن الساحة خلال الأحداث الأخيرة، أو لعلها مستبعدة، قد تكون طرفا في هذا الصراع، أو عاملا أساسيا فيه، في وقت صار الحزب كله غائبا ومهمشا، وانصرفت معظم القيادات للصراع على المواقع التنفيذية في المركز والولايات.

* صحافي سوداني حائز جائزة «بيتر ماكلر العالمية» لـ«مراسلون بلا حدود» على كتابته عن انتهاكات حقوق الإنسان في بلاده