هل ثمة مؤسسات اجتماعية، أهلية أو حكومية، قادرة على تغيير هذا الواقع.. قريبا؟

لا... .. ثمة نقص في فاعلية الجهود المؤسسية والأهلية لها عدة أبعاد.

TT

ليس الخطر هو وجود حالات زواج قاصرات، فهذه ظاهرة ذات طبيعة إنسانية، ولكن المشكلة هي حجم هذه الظاهرة من جهة، والسكوت عنها من جهة ثانية، ونقص فاعلية الجهود المؤسسية والأهلية في محاصرة هذه الظاهرة. وحتى لا نظلم أنفسنا، ويكون تقييمنا واضحا، لا بد من تحديد الهدف بشكل واضح، وإلا ستكون عملية تقييم الجهود المؤسسية عملية تعسفية وغير موضوعية. فمن الظلم القول إن استمرار هذه الظاهرة رغم وجود بعض المؤسسات تعبير عن فشل ذريع، ولكنه تعبير عن عدم اكتمال وتدني فاعلية الجهود المؤسسية. وهذا الحكم يهدف إلى تطوير فكرة ونظرية العمل المؤسسي.

السبب في رأيي لعدم نجاح تقييم أداء المؤسسات للتصدي لهذه الظاهرة هو التعميم وتوقع حلول متكاملة من كل مؤسسة أو هيئة على حدة. من المعروف أن أي صيغة عمل مؤسسية، رسمية كانت أم أهلية، لا تستطيع التعاطي مع كل مكونات الظواهر الاجتماعية. والظواهر الاجتماعية بحكم طبيعتها ظواهر مركبة لا يمكن اختزالها والسيطرة عليها بجانب واحد. ووجود ظاهرة زواج القاصرات لا يمكن اختزالها بعامل واحد. فهناك الكثير من العوامل المتزامنة والمتكاملة التي تؤدي إلى وجود ظاهرة زواج القاصرات. والمطلوب بنية مؤسسية وثقافية متكاملة تتعامل مع هذه الظاهرة بما يمكننا من تحويلها من ظاهرة اجتماعية عامة ومسكوت عنها، إلى سلوك اجتماعي مرفوض ومحاصر وقليل الانتشار.

وعليه فإن المشكلة تصبح بوضوح هي، وجود المشكلة ووجود جهود مؤسسية تتصدى لها ولكن دون الفاعلية المطلوبة. والسبب في ذلك هو الهدف العملي للمؤسسات غير محدد، وعدم تحديد اختصاصات بحيث تركز كل مؤسسة على بعد واحد. فحين ننظر لزواج القاصرات نرى مشكلة لها وجه ثقافي، ووجه متعلق بالتقاليد الاجتماعية، وآخر متعلق بنزعات نفسية ورغبات منحرفة تسعى لأن تكتسب موافقة وقبولا اجتماعيا. يضاف إلى ذلك ضعف القاصرات أنفسهن في القدرة على حماية الذات. بالإضافة أن زواج القاصرات مرتبط ببعد اقتصادي، فكثير من العائلات تضعف قدرتها على المقاومة بسبب الحاجة والضعف أمام الإغراءات المالية، والرغبة بالتخلص من العبء الاقتصادي لتربية البنات. كل هذه العوامل أدت، وتؤدي إلى تغييب رادع قانوني يمنع زواج القاصرات ويجرمه من جهة، ويسمح بوجود جهود مؤسسية واضحة للتصدي لهذه الظاهرة.

فمثلا، الساعون للزواج من قاصرات كثر، وهم في العادة يعانون من اضطرابات نفسية، ويحتاجون إلى عناية وعلاج. وهذا يتطلب جهدا مؤسسيا يجب أن يتوفر للتقليل من أهم الدوافع التي تولد مثل هذه الظاهرة، وهو توفر طلب لدى عينة من الرجال تسعى للزواج من قاصرات. فهناك ضرورة للتصدي الثقافي لهذه الظاهرة، وأهمها تبيان أنها تعبير عن انحراف نفسي، وليس مشاعر طبيعية يمكن إقرارها، وتقديم علاج لمن يطلبه من الرجال. ولكن هذا لا يمكن له أن يكون جهدا ناجحا وفعالا في حال وقوفه معزولا عن غيره من العوامل والأسباب والأبعاد.

وهناك حاجة لتعاطي مع ضعف المجتمع أمام هذه الظاهرة. وبالذات قبول بعض الأسر لهذه الظاهرة. وهذا يتطلب تقديم عون ثقافي للأسر التي تفقد مناعتها، وتستسلم لتزويج بناتهم القاصرات. كما أن بعض الأسر الفقيرة التي تفقد مناعتها لأسباب اقتصادية لا بد من تقديم العون للأسرة بشكل عام، أو للقاصرات بذواتهن اللاتي يتعرضن لضغوط الزواج غير القانوني.

البعد الثالث هو بعد قانوني ردعي. فلا بد من توفر ضوابط وموانع ترفع تكلفة تواطؤ الكثير من الأفراد مع زواج القاصرات، وأهمهم على الإطلاق المحاكم الشرعية التي تمرر عقود زواج غير مكتملة للشروط القانونية. هناك قانون يمنع زواج القاصر، ولكن لا توجد مؤسسات رقابة على المحاكم الشرعية التي تسجل عقود الزواج فلا بد من جهد مؤسسي لمراجعة دورية لعقود الزواج، أو طلب موافقة ومصادقة جهة طبية لتحديد السن الحقيقية للفتاة، بحيث يحاسب ويعاقب كل مأذون يقوم بإجراء عقود الزواج، إذا ثبت أنه تواطأ وزوج قاصرا، كما يجب محاسبة من ضلله إذا ثبت أنه ضلل.

البعد الرابع هو بعد أمني شرطي. فنحن نحتاج إلى صيغة أمنية لحماية القاصرات اللاتي يتعرضن لزواج إجباري، بحيث نتمكن من تأمين قدرة فعالة لمساعدتهن على التخلص من المأزق الذي وقعن به. بمعنى أن يتوفر إطار مؤسسي محلي يسمح للقاصر بأن تتمرد، وتسترد مصيرها، دون أن تعد هي المجرمة. مثلا خروج امرأة على بيت الزوجية مخالفة كبرى، ولكن خروج القاصر يجب أن لا يكون كذلك. وهذا لا يمكن أن يتحقق دون إطار مؤسسي، بل من الخطر أن تجري الدعوة له دون توفير إطار مؤسسي اجتماعي محلي يسمح للقاصرات باللجوء إليها. فمثل هذا العمل المؤسسي يعزز الممانعة، ويزيد من القوة التي تمنع انتشار هذه الظاهرة.

وأخيرا، هناك البعد المؤسسي الإعلامي. وهذا لا يتحقق بتقديم هجائيات لزواج القاصرات، ومواعظ حول هذا الموضوع، بل بتقديم صورة للعائلة النموذجية. الإعلام قادر على تقديم صورة العائلة النموذجية، ومثل هذه الصورة سوف تساعد بشكل حاسم على تبيان الانحراف في تزويج القاصرات.

* أستاذة بكلية الحقوق في جامعة الملك عبد العزيز بجدة