السؤال: هل يشكل إبعاد الإخوان المسلمين ضمانة للحكم المدني؟

لا... لأن البديل لا يمارس الديمقراطية في الحياة السياسية

TT

من التعريفات الأولية للحكم المدني لدى أساتذة العلوم السياسية أنه المقابل المضاد للحكم العسكري، أي أنهم يتبعون المبدأ المشهور في اللغة والمنطق القائل: «بضدها تعرف الأشياء».

الحكم العسكري تسيطر فيه المؤسسة العسكرية (الجيش) على مقاليد الأمور في الدولة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بل ويصبح الجيش الركيزة الأولى للدولة والقائم على دعم النظام والمتكفل بالإبقاء عليه. أما الحكم المدني فيقوم على مؤسسات مدنية تختص كل واحدة منها بوظائف محددة لتكون معا الهيكل الأساسي للدولة بسلطاتها المستقلة الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.

في الحكم المدني تنحصر وظيفة المؤسسة العسكرية (الجيش) في أداء الواجب الذي تؤسس من أجله الجيوش ألا وهو الدفاع عن الحدود وحماية الأمن الوطني. وحتى لا يخرج الجيش عن دوره الخطير الذي يحتاج لمستويات عليا من الاستعداد والتدريب والكفاءة لا يسمح للجيش أو لأفراده بالاشتغال بالسياسة، بل إن القرارات المصيرية، مثل الحرب والسلام أو حالة الطوارئ، لا تنفرد بها القيادة العسكرية، وإنما تكون في يد القيادة السياسية المدنية بعد إقرارها من المجلس التشريعي.

ومن أهم مميزات الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة أنها تكرس مبدأ سيادة القانون، وأن الدستور، وهو «أبو القوانين»، يضمن حقوق جميع المواطنين من دون تمييز ويحدد بكل وضوح ودقة مهام وواجبات السلطات الثلاث، وكذلك مهام وواجبات مؤسسات الدولة المختلفة، بما فيها المؤسسة العسكرية، وينظم العلاقات المختلفة فيما بينها، حتى لا تتدخل إحداها في عمل الأخرى أو تتغول عليه. كذلك ينظم الدستور ويحدد العلاقة بين المواطن والدولة ومؤسساتها.

ويولي الحكم المدني اهتماما بالغا بالسلطة التشريعية المتمثلة بالمجلس المنتخب من الشعب والذي يشرع من القوانين ما يعبر عن مطالب الشعب وإرادته، كما يقوم المجلس بالرقابة على أداء السلطة التنفيذية ومحاسبتها، وله الحق في سحب الثقة من الحكومة أو أحد وزرائها بالطريقة المنصوص عليها في الدستور، وله الحق كذلك في مناقشة ميزانية الدولة ثم إقرارها أو رفضها أو طلب تعديلها.

إن الأسباب المبررة لإبعاد الجيش عن السياسة كثيرة، منها ما ذكرناه من أهمية دوره العسكري القصوى التي تتطلب التفرغ التام لأن التقصير فيها يؤدي إلى ضياع البلاد واحتلالها. ومنها أيضا أن طبيعة النظم العسكرية لا تعرف الديمقراطية، ومناصبها لا تأتي عن طريق الانتخاب، بل التعيين، بل وفي سلوكياتها وعملها الانضباط الشديد القائم على طاعة الأوامر. وكل هذه أمور تتنافى مع أبسط قواعد الديمقراطية. ولقد أثبتت وقائع التواريخ الموثقة أن العسكريين إذا حكموا يميلون إلى الاستبداد، ويعتبرون كل معارض بمثابة المخالف لقائده في الجيش، ومن ثم تجب معاقبته على الفور. ولقد رأينا في الأحداث الأخيرة في مصر كيف أنذر الجيش المعتصمين السلميين في ميداني رابعة العدوية والنهضة بإنهاء اعتصامهم، وهو حق من حقوقهم الإنسانية. ولما رفضوا أرسل الفرق الخاصة من القوات المسلحة وتدعمها قوات وزارة الداخلية ففضوا الاعتصامين بالقوة (حسبما جاء في تقرير منظمة العفو الدولية)، ما أدى إلى قتل المئات وإصابة الآلاف من المعتصمين.

كان المعتصمون يعتقدون أنهم يمارسون حقا كفله لهم القانون والدستور المصري ومواثيق حقوق الإنسان التي صادقت عليها الدولة المصرية، وكان إصرار المعتصمين على البقاء في الميدان احتجاجا منهم على ما اعتبروه انقلابا وعزلا للرئيس المدني الشرعي.

تدخل الجيش في الحكم المدني بصفة خاصة، وفي السياسة بصفة عامة، يفسد الجيش ويؤثر سلبا على وظيفته الأصلية ويمنعه من أداء واجبه في الدفاع عن الوطن والمواطنين. ولقد كانت تجربة الستينات في مصر أوضح مثال يثبت صحة هذه الحقيقة، ففي تلك الفترة كلفت القيادة السياسية الجيش المصري بأعباء حل أزمات معيشية بعد أن فشلت حكومات الرئيس جمال عبد الناصر ووزراؤه في حلها، وعندما طفحت مجاري القاهرة صدرت الأوامر للجيش بحل الأزمة وتفرغ سلاح المهندسين لذلك، وبعدما تفاقمت أزمة المواصلات في العاصمة أمر الرئيس القوات المسلحة بتشغيل مرفق النقل العام وإصلاح حافلاته، بل إرضاء لجماهير النادي الأهلي الغفيرة التي ثارت لهزائم فريق الكرة في أحد مواسم الدوري العام صدرت أوامر القيادة العامة للقوات المسلحة بتجنيد كل أعضاء الفريق والعاملين معه في القوات المسلحة التي خصصت لهم معسكرا دائما بقيادة ضابط برتبة عقيد لتأهيلهم فنيا وبدنيا ونفسيا حتى يفوزوا فيما تبقى من المباريات.

ثم استخدم عبد الناصر الجيش في القضاء على خصومه فتولت الشرطة العسكرية (البوليس الحربي) عملية القبض على الإخوان المسلمين عامي 54 و65. ولا شك أن انخراط الجيش المصري في هذه الأمور كان له أسوأ الأثر على الضباط والجنود الذين شغلتهم هذه الأعباء عن الاستعداد المطلوب لتحمل مسؤولية الدفاع عن حدود مصر، بل وأضعفت من قدرات أفراده وعقيدتهم القتالية، ما أسهم في هزيمة 1967 المعروفة بالنكسة.

وعلى العكس من هذا تماما، تفرغت القوات المسلحة لمهمتها الأصلية بين عامي 67 و73 فتمكنت في 1973 من النصر بإذن الله.

* أكاديمي مصري مقيم في بريطانيا