هل تصمد تجربة الحكم المدني مع دور سياسي للجيش؟

لا... لأن المؤسسة العسكرية لا تسمح للمدنيين بالتحكم بسياستها وامتيازاتها

TT

علاقة المدنيين بالعسكريين واحدة من أكبر إشكاليات التحول الديمقراطي، ليس في مصر وحدها، بل في العالم أجمع، وقد بات من المسلم به بعد تجارب الكثير من الدول في أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، أن تبعية المؤسسة العسكرية للمدنيين المنتخبين هي واحدة من أبرز أسس النظام الديمقراطي.

ومن أكبر الإنجازات التي حققتها «ثورة 25 يناير» في مصر التعديلات الدستورية التي وافق عليها الشعب المصري في 19 مارس (آذار) 2011، والتي أزالت مادة دستورية تمثلت في المادة 76 التي فصلها مبارك في أبريل (نيسان) 2005، ثم أعاد تفصيلها من جديد في التعديلات الدستورية في مارس 2007 على قياسه، والتي كانت تحول عمليا بين ترشح أحد لمنصب الرئاسة إلا كديكور لمرشح حزب النظام وهو مبارك دائما أو حتى نجله من بعده.

لقد فتحت «ثورة يناير» الباب لتكون هناك انتخابات تنافسية حقيقية وفق شروط موضوعية عادلة انتهت في يونيو (حزيران) 2012 بفوز مرشح حزب الحرية والعدالة الذي يمثل الإخوان المسلمين بمنصب الرئيس متغلبا على مرشح ذي خلفية عسكرية طالما اعتبر أنه مرشح الجيش، ليفتح بذلك فصلا جديدا من الصراع ليس فقط مع الرئيس المدني المنتخب للمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث، ولكنه أيضا الرئيس المنتمي لتيار سياسي ديني طالما اعتبر أنه الأخطر على الأمن القومي المصري وفقا لعقيدة المؤسسة الأمنية والعسكرية لعقود طويلة.

هذا أمر فتح باب الصراع المكتوم بين الطرفين إلى أن حسم الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع، الصراع لصالح المؤسسة العسكرية بالتحرك الذي أعد له على مدار عام كامل، ليعيد التأكيد أن المؤسسة العسكرية المصرية، بما تملكه من تاريخ طويل في السيطرة على الحكم من خلال رموزها أو المنتمين إليها، لن تسمح لمدني بقيادتها أو التحكم في سياساتها وامتيازاتها التي حققتها على مدار عقود. ومن ذلك تحكمها في نسبة كبيرة من الاقتصاد المصري لا تصب في النهاية في إطار الاقتصاد الرسمي للدولة، ليفتح بذلك فصلا جديدا من الصراع بين أحقية الحكم المدني أو السيطرة العسكرية.

عزل الرئيس المنتخب ذي الخلفية الإخوانية كان مخططا شبيها بما جرى للزعيم الإيراني محمد مصدق عام 1953 الذي أطاح به الجنرال فضل الله زاهدي ووضعه في السجن حتى وفاته في عملية شاركت فيها أطراف عدة، وكانت تهدف لاستعادة إيران مرة أخرى للمعسكر الأميركي الغربي، وهو بعد يطول شرحه في الحالة المصرية.

إبعاد الإخوان المسلمين عن السياسة لن يسهم في ضمان الحكم المدني، لأن دستور 2012 الذي شارك في كتابته «الإخوان» كرس لدولة مدنية حقيقية تضمن حقوق المواطنة وكل الحقوق والحريات الفردية والجماعية المعترف بها في العالم، بل وضمن التداول السلمي للسلطة وفق نظام حكم ديمقراطي يتقاسم فيه الرئيس السلطة مع الحكومة والبرلمان.

وربما كانت الخطيئة الكبرى التي جعلت الدستور مستهدفا من العسكر هو اعتراضهم على المواد التي تعطي سلطة نسبية للمدنيين المنتخبين في مناقشة موازنة الجيش وتجعل مركز القوة لصالح المدنيين، وهو ما يجري رفضه الآن وتغييره، حيث صرح القادة العسكريون صراحة بأن الجيش لن يقبل أن يختار «رئيس مدني» القائد العام للقوات المسلحة (!!)، وهو ما يعني أن الدستور المعدل إذا جرى إقراره سيجعل من الجيش سلطة فوق الدولة وفوق أي رئيس أو حكومة منتخبة، وسيجعل من وزير الدفاع مركزا للقوة يفوق قوة الزعماء المنتخبين، وهو أمر يتصادم مع أي نظام ديمقراطي، بل هو اتجاه صريح لعسكرة الدولة وخلق ديكتاتورية عسكرية بديكور مدني لا يملك سلطة حقيقية لفرض أي سياسة يقرها البرلمان المنتخب على مؤسسة الجيش والمؤسسة الأمنية التي ستخضع لها بشكل ضمني.

وزيادة على ذلك، فإن عزل الإخوان المسلمين، أو غيرهم من القوى الإسلامية عن المشاركة السياسية، سيدخل مصر في حالة من عدم الاستقرار السياسي قد تحولها إلى دولة فاشلة، نتيجة الاضطراب السياسي الذي سينتج عن محاولات قمع تطلعات الشعب المصري في ظل امتلاك القوى الإسلامية قاعدة شعبية واسعة أثبتت الأحداث الحالية صعوبة قمعها رغم جرعات العنف العسكري والأمني، وهذا من شأنه أن يؤدي بشكل حتمي لاحتجاز التطور الديمقراطي في المجتمع، وسيخلق أوضاعا استثنائية تحتاج لتدابير وقوانين استثنائية لن تتوقف عند عزل فصيل محدد، بل ستفضي لإنتاج نظام هش لا يتمتع بالمشروعية السياسية أو الشعبية التي ستجري الاستعاضة عنها بالقوة الأمنية التي ستفاقم انتهاكات حقوق الإنسان وانتهاك الحقوق المدنية والسياسية للمصريين، وهو نظام سيكون في أفضل حالاته مشابها لما كان عليه الوضع في 2010 عندما زور نظام مبارك الانتخابات بالكامل ليحول بين معارضيه ودخول البرلمان مما عجل بالغضب الشعبي الذي أطاح به بعدها بشهور.

لا يمكن الحديث عن حكم مدني ديمقراطي أو استقرار سياسي أو تنمية اقتصادية حقيقية مع وجود دور سياسي للمؤسسة العسكرية التي تملك تأثيرا كبيرا على السلطة، وتملك جهازا أمنيا منظما بطريقة تراتبية هرمية وتمتلك من أسباب القوة والقدرة على استخدامها، ما يجعل الحديث عن حكم مدني ديمقراطي في ظل الصراع بين المدني العسكري هو نوع من العبث.

إن أخطر ما يحدث في مصر حاليا هو محاولة تأسيس نظام عسكري مقنن في الدستور بديلا عن النظام شبه العسكري الذي أسسه مبارك، مما يجعل من الشعب المصري كالمستجير من الرمضاء بالنار.

* المستشار السياسي لحزب البناء والتنمية في مصر