هل ستكون أي حكومة مقبلة قادرة على تحقيق برنامجها المعلن بالكامل؟

لا.... ثمة أزمة ثقة عميقة بين الأطراف التي قبلت بالدخول في الحوار الوطني

TT

ما زال المسار الحكومي يراوح مكانه، فقد بدأ العد التنازلي ثم توقف، وقد ينطلق من جديد ليتوقف أيضا من جديد لتعذر التوصل إلى اتفاق حول الشخصية التي ستكلف بتشكيل حكومة لإدارة ما تبقى من هذه المرحلة التي توصف بأنها الثانية في مسار الانتقال الذي يوصف بدوره بأنه ديمقراطي. يذكر هذا المشهد بقواعد إطلاق «المكوكات» الفضائية حين يبدأ العد قبل أن يتوقف لخلل فني، أو لسوء الأحوال الجوية؛ إذ لا يتعلق الأمر في تونس هذه الأيام بعقبات من هذا القبيل، بل بأزمة ثقة عميقة بين الأطراف التي قبلت بالدخول في هذا الحوار الوطني. فالقضية بالنسبة إلى الكثير منها لا تتصل ببرامج ومشاريع، بل بالوجود والبقاء. والشخصية التي ستكلف إدارة المرحلة المقبلة يجب أن لا تكون مستقلة فحسب، بل يجب أن تكون موضع ثقة الجميع. وإذا حصل أن جرى مثل هذا الاتفاق، فسيحسب كل قرار يتخذه رئيس الحكومة المقبلة في ميزان الثقة قبل أي ميزان آخر. ولا تبدو القضايا الاقتصادية والاجتماعية اليوم في أولويات المتحاورين، فهي لا تكاد تطرح أصلا، بل المسألة الأولى هي كيف يمكن أن يستفيد كل طرف من أي قرار استعدادا للانتخابات المقبلة. وإذا كان الحوار الوطني المعلق اليوم قد حمل منذ انطلاقه بذور فشله لدخول كل طرف فيه متوجسا من الطرف الآخر، فإن الحكومة التي يمكن أن تتشكل انطلاقا منه لا يمكن إلا أن تحمل معها نفس هذه البذور. فكل قرار ستتخذه أو تكون مدعوة لاتخاذه سيقابل بنفس التوجس. هل سيوضع في كفة الأغلبية فيدعمها، أم في كفة المعارضة لأنها لا تجد فيه دما أو حتى بعضا من نصيب؟

ومن بين أهم القرارات التي تطالب أحزاب المعارضة بالإسراع في اتخاذها مراجعة التعيينات في الإدارات المركزية والجهوية والمحلية وفي عدد من البعثات الدبلوماسية. فهل ستجري هذه المراجعة؟ وهل ستنجح الحكومة المقبلة في تعيين شخصيات يقبل بها الطرفان على حد سواء؟

يبدو من الصعب ألا تحسب هذه الشخصية أو تلك على هذا الطرف أو ذاك. فكل تعيين جديد سيلقى ترحيبا وسيقابل بالاستنكار والتنديد. وفي سياق غير بعيد عن هذا السياق، هل سيبادر الكاتب العام للحكومة الجديدة باللجوء إلى القضاء لحل «روابط حماية الثورة» نزولا عند رغبة أحزاب المعارضة؟ وهل ستستجيب المحكمة الابتدائية في تونس لدعاواه فتقضي بحلها أم ستحكم بعدم سماعها فتواصل هذه الروابط نشاطها؟

في كل الحالات لن يكون هذا الملف من الملفات الهينة في جدول أعمال الحكومة المقبلة. ولعل أهم ملف على الإطلاق على الحكومة المقبلة معالجته هو الملف الأمني. فبالإضافة إلى المجموعات المسلحة التي تتحرك من حين لآخر في مناطق مختلفة من البلاد، فإن الوضع قد يكون أشد تعقيدا لو حصل تمرير مشروع قانون المالية للسنة المقبلة بما احتواه من أحكام لن يقبل بها جزء كبير من التونسيين.

وأحداث الثالث من شهر يناير (كانون الثاني) 1984 لا تعود إلى فترة بعيدة من التاريخ، بل إلى ثلاثة عقود فقط، فحين قررت الحكومة يومئذ رفع الدعم عن المواد الأساسية، خرج التونسيون في كل أنحاء البلاد تقريبا، واضطرت الحكومة إلى التراجع عما أقرته وأعادت الدعم بعد سقوط عشرات الضحايا في مواجهات دامية مع قوات الأمن. فهل ستقبل الحكومة الجديدة بتطبيق قانون المالية، وهي التي لم تقم بإعداد مشروعه؟ أم هل ستدخل عليه تعديلات قد يفرضها انفجار اجتماعي جديد ستسعى عدة أطراف لتوظيفه والاستفادة منه؟ ولكن الانفجار إن حصل والتعديل إن جرى لن يترك للحكومة هامشا كبيرا للتحرك في سائر المجالات الأخرى. هذا إن لم تعصف الأحداث بالحكومة وبسائر المؤسسات الأخرى. حظوظ نجاح الحكومة، عموما، في المرحلة المقبلة تبدو ضعيفة في ظل الأوضاع القائمة، وفي ظل ما يمكن أن تخفيه الأوضاع المقبلة، فضلا عن الانقسام الحاد داخل المجتمع وداخل جهاز الدولة نفسه. دورها سيكون أشبه بدور كاسحة الألغام، ويمكن أن تبطل مفعول بعضها. ويمكن لواحد منها فقط أن يبطل مفعولها ووجودها. ثم لا حظ لأي سلطة في النجاح إلا بخطاب سياسي جديد صادق وبناء يقطع مع الخطب البالية وبمشروع وطني حقيقي يجسد المطالب الحقيقية للتونسيين والتونسيات في حرية حقيقية وفي كرامة وطنية.

* أكاديمي تونسي وأستاذ للقانون الدستوري