أيضمن الاستقرار بالضرورة استقرارا أمنيا؟

نعم.... نحن متفائلون.. ونعتقد أن الوضع سيستقر إذ سيخرج «القصر» سياسيا من الحكم

TT

من المنطقي أن «الإخوان» الإسلامويين لم يلاقوا دعما من الشعب العربي في تونس أيام محنتهم في النظام السابق، وينبغي التذكير بأن من وصفهم رئيس تونس المؤقت، المنتخب بـ7000 صوت، بـ«العلمانيين المتطرفين»، هم من دافعوا عنهم و«عنه» وخرجوا على بن علي.

والحق أن عدم مساندة الشعب لهم في ذاك الزمان لم يكن دعما للديكتاتوريات، كما يدعي كثير منهم، بل لوعي بأن مشروعهم هو الآخر مشروع سلطة وتسلط، بل هو مشروع فاشية دينية مدمر كما نعيشه في تونس. وبمعنى آخر رفض الشعب مؤازرتهم كي «لا يهرب من تحت الدلف لتحت المزراب». ومع الأسف ها نحن «تحت المزراب في العراء».

هؤلاء الذين سجنوا وعذبوا ومحنوا من أجل مشروعهم الغريب عنا حكموا وفشلوا. وهم اليوم لا مشروعية لهم ولا شرعية، فالمشروعية الثورية لا تخصهم لأنهم لم يشاركوا في الثورة، وشرعيتهم انتهت منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2012، أي بعد سنة، وهم أنفسهم كانوا أمضوا على الوثيقة السياسية الملزمة لنهاية الشرعية بنهاية سنة أي زمن الحكم المؤقت.

ينبغي هنا أن أؤكد أن المشكل الأول في حكم «الإخوان» الإسلامويين في تونس، ولن أتحدث عن «الحماسة السياسية» التي تمتهنها بعض الأحزاب معهم من أجل بعض الفتات، بل عما هو مشكل عضوي في الإسلامويين فجعلهم لا ينجحون في الحكم حتى الآن. إنه مشكل الانتقال من فكر حركي ينتج عنه سلوك معين إلى فكر حزبي مدني ينتج عنه سلوك آخر ووعي اعتباري. كل فكر حركي يقوم على جملة من المبادئ الشبيهة بالفاشية منها تركيز السلطة في يد الحزب الواحد والتغول، وتقييد حريات الفرد والسيطرة على الإعلام، والشعبوية حيث الديماغوجية، والبحث عن كسب ود الناس والشرعية الكاذبة، ثم تعليمات القائد أو رئيس الحركة شبه المقدس، وكذلك الخوف المستمر على فقدان السلطة والشك في الشركاء. وعلى هذا النحو اشتغل أيضا النظام السابق، فظن وهما أنه «حزب» وهو في الأصل «حركة». أما «الحزب» فهو تنظيم تشاركي لا يقيد الحريات، ويحرر الإعلام... وهو جماهيري غير شعبوي، ولا يخشى فقدان السلطة لأنه يؤمن بالتداول.. ورئيسه يجب أن يؤمن بالتوافق.

أما الأصل في الخطأ القاتل منذ البداية، فكان بعد الانتخابات مباشرة: كان حوار الإسلاميين مع بقية أعضاء «الترويكا» حول من يحكم تونس ومن يقودها. وهذا يسمى «الدرجة الصفر» للوعي السياسي؛ فقبل ذلك كان عليهم أن يتحاوروا حول كيف نحكم بعد التشخيص الدقيق للوضع. بعبارة أخرى وجدنا أنفسنا مجبرين «على الصبر على بعضهم»، فتراكمت الأخطاء.. ومرة أخرى لا حرج في ذلك لأن من عيوب الديمقراطية أن تتعامل وتستمع وتنسجم مع الحمقى والمغفلين.

للثورة التونسية أسباب ثلاثة أسميها «مثلث الشر»: الفساد والاستبداد والبطالة، ثلاثتها ما زالت قائمة، فالفساد تفاقم، وبدل أن نتحدث عن «طرابلسية» الفساد السابقين؛ أي أصهار الدكتاتور، نواجه اليوم «طرابلسية» جددا. أما الاستبداد فلم يعد استبداد نظام بل استبداد ميليشيات ما يسمى «رابطات حماية الثورة» من سياسيين معروفين ومن بعض سماسرة السياسة. هؤلاء بالدليل صوتا وصورة اعتدوا على الاتحاد العام التونسي للشغل الذي لولاه ما كانت ثورة، وكذلك هو استبداد جماعة جهادية كانت وراء حادثة السفارة الأميركية، وحادثة العبدلية ودوار هيشر، ثم توجت أفضل تتويج بقتل المناضل شكري بلعيد والمناضل محمد البراهمي وقتل جنودنا البواسل في جبل الشعانبي ورجال الحرس الوطني في قبلاط وسيدي علي بن عون، والتفجير في سوسة. ولطالما نبهتنا أوروبا إلى ذلك.. ولكن البعض كان يكذب ويغطي الحقيقة.

أصل المشكل هو «الإينبتوقراطية» Ineptocracy أو «القصور» السياسي الديمقراطي، على حد عبارة الأكاديمي الفرنسي جان دورمسون، وذلك «بأن يوجد في نظام الحكم أشخاص عديمو الكفاءة أو الأقل كفاءة، وهم منتخبون من قبل الأقل قدرة على الإنتاج...».

وهم لم يحققوا خمسة أهداف تعد مقياس الحكم بالنجاح:

أولا: الانتقال من حل المشاكل نحو بناء الرؤية؛ فهذه الثورة ليست إرساء وتوقفا أو حدثا انتهى، بل هي ثورة مستمرة ما زالت قائمة. وكان لا بد من تخطي أو تجاوز مرحلة حل المشاكل التي ورثناها عن النظام السابق إلى مرحلة بنائية جديدة أساسها رؤية استراتيجية جديدة لتونس، حيث تصان الحقوق والحريات والديمقراطية، ويجري منع التمييز وتدعم مكتسبات المرأة وتطور نحو الأفضل في مجتمع حداثي أساسه التسامح والتفاهم والاحترام. ثانيا: الانتقال من الحكم إلى الإدارة، فحين كان بن علي في الحكم كان يتحكم ويتسلط، لذلك احتاج إلى القوة والقمع، ولكن بعد الثورة كان لا بد من الانتقال إلى مرحلة جديدة هي إدارة الدولة وشؤونها وليس الحكم. ثالثا: الانتقال من الاستنزاف إلى التعبئة العامة، فحين تسلمت حكومة «الترويكا» مقاليد «الحكم» وجدت الدولة تعاني استنزافا في كل المستويات، اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، إذ كانت تخدم مصلحة الحاكم ودائرته الضيقة وأعوانه. وكان المطلوب الانتقال إلى التعبئة العامة من أجل المصلحة العامة، وتجاوز مرحلة الاستنفاد نحو الإنتاج من أجل إقامة دولة معاصرة. رابعا: الانتقال من الدولة الشركة إلى دولة الشراكة في الديكتاتورية. كانت الدولة تعد مثال شركة خاصة يفعل بها مالكها ما يحلو له، فيبيعها ويرهنها ويراهن عليها. وبعد الثورة كان لا بد من تسييرها وفق منطق الشراكة، حيث كل مواطن فيها هو شريك وهو المسؤول عنها، وكذلك هي علاقتنا مع أصدقائنا في الخارج، فلا نرهنها عندهم ولا نراهن عليها، بل نشتغل معا في إطار شراكة متميزة استراتيجية وبناءة، من أجلهم ومن أجلنا. خامسا: الانتقال من «الدولة الوقف على فرد» إلى «الدولة المشروع»، لقد اعتقد بن علي وهما أن هناك دولة وقفا على شخص، ولكن التاريخ علمنا أن كل دولة من هذا النوع تسقط وتزول، وتونس منذ الأزل لم تكن وقفا على فرد ولم تنغلق ولم تشبع من ذاتها، بل ظلت دولة مشروعا لكل طرف دور في بنائها. وكذلك هي اليوم مشروع منفتح مستمر نساهم في بنائه باستمرار. فأن نتصورها «دولة مشروعا» فذلك هو الحد المانع من الديكتاتورية، وذلك هو أيضا دليل الرغبة في الانفتاح، فهي دولة الجميع. هكذا هو حكم «الإينبتوقراطيين» في بلدي، رغبة في الاستبداد ولا حيلة. ووهم أصله الجهل. لا شيء تغير في بلدي.. الآن كل الشعب يبكي كل يوم ويتحسر على ما فات.

إذن «القصر سياسيا» أصل البلاء وأصل عدم الاستقرار.. ما هكذا تورد الإبل وما هكذا تدار الدول.. «والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه».

هذه الأيام نحن متفائلون ونعتقد أن الوضع سيستقر إذ سيخرج «القصر سياسيا» من الحكم ونحن متفائلون للأسباب التالية:

- لا أحد من الوزراء الجدد القادمين سيدعم الإرهاب ويغطيه ويبيع جنودنا ومؤسستنا الأمنية.

- لا أحد من الحكومة سيحرض علينا وعلى منظماتنا الوطنية رابطات خراب الثورة والميليشيات والجهاديين بما يخل بالسلم الأهلي.

- لا «وزير عدل» سيأتي ليخدم «الإخوان»، بل سيأتي لخدمة تونس وتأمين سيادة القانون.

- لا أحد من الحكومة سيحث ميليشياته على الاعتداء على السفارات الأجنبية.

- لا أحد من الزعماء الموهومين سيشرع أو يفتي بقتل السياسيين وسحل المناضلين.

حكومة «التكنوقراطيين» سترجع الثقة للشعب التونسي العظيم، وهي ثقة اهتزت منذ سنتين. نحن لا نحتاج إلى مال، بل إلى أمن نفسي أولا، ثم أهلي ثانيا، ثم سياسي ثالثا.. وبعدها معا سنبني أمننا الاقتصادي. نحن نحتاج إلى استرجاع تونس التي صودرت.

سنتعب ولكننا سننهض أقوى وأعتى وأعظم.. أفلا «يعقلون»؟

* أكاديمي - كاتب الدولة السابق للشؤون الأوروبية ورئيس الحركة الوطنية التونسية