أيضمن الاستقرار بالضرورة استقرارا أمنيا؟

لا.... الاستقرار المنشود يتطلب وقتا وشروطا.. و«النهضة» لم يتعلم الدرس

TT

كل الدلائل في تونس تشير إلى أن مساعي الوصول إلى حل سياسي دائم أصبح أمرا مشكوكا فيه هذه الأيام، ذلك أن حركة النهضة تتبع منذ أشهر لعبة الكر والفر بشكل لم يعد خافيا على أحد.

لقد ذكرنا في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ أشهر أن تاريخ الانتخابات لن يكون عام 2013، وها نحن الآن على مشارف 2014 ولم يجهز الدستور ولا القانون الانتخابي ولا هيئة الانتخابات. أما الحكومة المرتقبة فأصبحت بين الحقيقة والسراب.

يبدو أن ما كانت تردده كواليس النخبة السياسية بعد انتخابات 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 من أن حركة النهضة لن تجري انتخابات بعد عام، أي في 2012 مثلما أمضت عليه مع شركائها في الانتخابات، بل ستبقى 5 سنوات كاملة لاستكمال برنامجها في تطويع مؤسسات الدولة لأجندتها.

لكن لم يجر طموحها بما تشتهيه السفن، إذ واجهت في ظرف ستة أشهر اغتيالين سياسيين من الحجم الثقيل ما تزال آثارهما بادية على بعض المسؤولين السياسيين من حيث تحمل المسؤولية السياسية، في انتظار تحديد المسؤولية الجزائية من طرف القضاء.

ويربط بعض الملاحظين تعليق الحوار الوطني بصراع داخلي في صلب حركة النهضة بين شق أغلبي يرفض التوافق مع المعارضة لتعيين رئيس حكومة مستقل، وأقلية تحذر من تبعات انسداد الحياة السياسية التي تؤثر كل يوم في عجلة الاقتصاد التي أصبحت تدور في الاتجاه المعاكس. أما الأوضاع الأمنية فلا يكاد يمر يوم إلا وتسمع أنباء عن اكتشاف مخابئ أسلحة أو القبض على إرهابيين أو إحباط لعمليات إرهابية. وإذا قلبت وجهك لتبحث عن إنجازات هذه الحكومة فستجد النتيجة في غاية الضمور. فميزانية الدولة التي يفترض أن تكون قد قدمت للمجلس التأسيسي في أكتوبر الماضي ما تزال في رفوف أروقة الحكومة من أجل التعديل لأن ساكني قصر القصبة لا يعرفون إن كان رحيلهم سيكون قريبا أو بعيدا. والمتعارف عليه أنه في الدول المتقدمة يجري إنجاز الميزانيات بغض النظر عن عمر الحكومة، وهو ما يؤكد أن حركة النهضة تخلط بين إنجاز مهامها الحكومية التي يجب أن لا تتعطل مهما كانت الظروف، وبين عملية بقائها أو عدم بقائها في الحكومة. ويعتقد الكثير من الملاحظين أن هذا الارتباك في المسار الحكومي والمسار التفاوضي يدفع إلى الاعتقاد بأن الحكومة المستقلة ستتشكل في غضون 2014 وأن الانتخابات ستجري في نهاية 2015.

السؤال المطروح هل سيكون هناك استقرار سياسي بمجرد تشكيل الحكومة المستقلة؟ وهل سيصبح الأمن مستتبا مثلما كان في العهود السابقة؟

إن الاستقرار السياسي سيكون نسبيا لكنه مهدد بالتقويض في كل حين؛ لأن «الترويكا» مقرة العزم على أن تجعل من المجلس التأسيسي «سيف ديموقليس» مسلطا على رقبة هذه الحكومة حتى لا تفلت من رقابتها، إذ لا صوت يعلو على صوت المجلس التأسيسي في نظرها، هذا التأسيسي الذي فاق في صلاحياته برلمانات العالم شرقا وغربا، ومع ذلك لم يحقق الأمن والأمان، بل لم يحقق الشغل الكريم الذي من أجله قامت الثورة إلا بالنزر القليل.

سيكون الاستقرار السياسي هشا بعد تشكيل الحكومة المقبلة، وتنبع هذه الهشاشة من تعقد الملف الأمني. فحتى هذه الساعة تكاد تجمع التقارير على أن ما جرى كشفه من أسلحة لا يتعدى 15 في المائة من الحجم الحقيقي للأسلحة غير المكتشفة، ما يؤكد أن الحكومة الحالية تتحمل الجزء الأكبر في هذا التسيب الأمني، وقد سبق للسيد رشيد عمار، رئيس أركان الجيوش السابق، أن حذر من عدم تطويق خطر الإرهاب في بداياته عندما تحدث في حوار تلفزي عن تدريبات كان يجريها الإرهابيون في الجبال مدة تقارب السنة من دون أن يفطن إليهم، وعزا ذلك إلى ضعف جهاز الاستعلامات الذي تضرر كثيرا بعد الثورة، ونبه حينذاك إلى خطر «الصوملة». ولا ننسى كذلك التسرع في حل هياكل أمنية كانت تشكل درعا واقية من الإرهاب في عهد ما قبل الثورة، مثل بوليس أمن الدولة وغيره من الهياكل الأمنية، ما انعكس سلبا على مسألة مقاومة الإرهاب.

لقد أصبح الاستقرار السياسي والاستقرار الأمني خطين غير متوازيين في تونس لسبب بسيط، وهو أن مخلفات الإرهاب تستوجب وقتا ونفسا وخطة متكاملة للقضاء عليه، وتستوجب كذلك مناخا ملائما، فالاستقرار السياسي غير مضمون في ظل إطلاق يد المجلس التأسيسي لمراقبة الحكومة بأجندة حزبية، والاستقرار السياسي في ظل التلويح بالتصويت على نظام برلماني معدل كانت اقترحته حركة النهضة، أمر في غاية الخطورة سينعكس بدوره على أمن البلاد. إن تونس تحتاج اليوم إلى نظام رئاسي لا رئاسوي تكون فيه الصلاحيات 60 في المائة للرئيس و40 في المائة للبرلمان، مما يسمح للرئيس باتخاذ القرارات المستعجلة في المجال الأمني والاقتصادي. إن الاستقرار الأمني في تونس يصعب أن يتحقق قبل ثلاث سنوات من الآن، ولتحقيق هذا الأمن لا بد من الإسراع:

أولا: في تشكيل حكومة مستقلة فعلا.

ثانيا: في إرساء نظام سياسي رئاسي لا برلماني، وقانون انتخابي لا يؤدي إلى صراع الكتل.

ثالثا: في ضبط استراتيجية جديدة للأمن القومي تعتمد مقاربات متعددة أمنية ومدنية (اقتصادية واجتماعية وآيديولوجية).

رابعا: في سن قوانين تمنع توظيف الدين في السياسة لأن الإرهاب يتغذى من هذا التوظيف. هذه الشروط المجتمعة والقادرة على إعادة الأمن إلى البلاد والعباد تستوجب فترة لا تقل عن 3 سنوات لمنع عودة الإرهاب، بشرط أن يسرع الجميع في إنهاء الحوار الوطني في أقرب وقت، لكن البوادر التي نراها حاليا لا تشجع على التفاؤل. ومن المؤسف أن نرى أن زحزحة الأوضاع والصعوبات في الحوار الوطني لا تأتي من الداخل، بل من الخارج. فالجميع يتحدث اليوم عن الزيارات الماراثونية التي يؤديها بعض السفراء لمقرات «الترويكا» الحاكمة والمعارضة لزحزحة الجمود في المفاوضات. كما أن حركة النهضة لم تستوعب درس تيار «الإسلام السياسي» الذي دخل في أزمة هيكلية منذ سقوط حكم محمد مرسي ومنذ الفوضى الأمنية في ليبيا، ولم يعد ذلك التيار يستهوي الملايين، فمعدل عمر «الإسلام السياسي» ببلدان «الربيع العربي» يعد أقصر معدل مقارنة بالتجارب الليبرالية والاشتراكية والقومية السابقة بالبلدان العربية. كما أن بقاء هذا التيار في الحكم كحزب أغلبي في الانتخابات المقبلة في تونس أمر مستبعد جدا، وهو ما يفسر العراقيل التي تضعها حركة النهضة حاليا من أجل تأجيل خروجها من الحكومة. ويتوقع الكثير من الملاحظين إمكانية حصول بعض الاضطرابات الأمنية خلال السنوات الثلاث المقبلة، لكنها ربما تكون أقل حجما مما هي عليه الآن إذا ما جرت معالجة الإرهاب من جذوره.

* محلل وكاتب سياسي - أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة منوبة التونسية