هل تستطيع حكومة «وفاق وطني»، في حال تشكيلها، ممارسة الحكم في لبنان؟

نعم... الحكومة الوفاقية ستكون قادرة على ممارسة الحكم

TT

لا جدال على الإطلاق في أن صيغة الحكم والإدارة في أي دولة يجب أن ترتكز على قواعد الدستور والقانون ونظام الحقوق والواجبات للأفراد والجماعات السياسية. ولا نقاش أيضا في أن للبنان دستوره الذي اتفق عليه اللبنانيون في الطائف، وهو الذي يشكل إطار العملية السياسية بمجملها ومنها عملية تشكيل الحكومة - أي حكومة - بشكل خاص، التي يجب بدورها أن تستند إلى «الديمقراطية التوافقية» أو «الميثاقية»، من دون أن تعني هذه الميثاقية طرفا أو أطرافا بعينهم، دون الآخرين، مهما بلغ حجم أو قوة هذا الطرف أو هؤلاء الأطراف.

كما أنه من المسلم به أن استقرار أي دولة يرتبط أولا بمدى رسوخ القيم الدستورية والقانونية وتجذرها فيها، وبترجمة هذه القيم في المؤسسات الدستورية السياسية والقضائية والأمنية والإدارية بوصفها الأطر الفعلية والفاعلة لإدارة حياة الدولة ومواطنيها بالكامل، وفي صلبها العملية الديمقراطية التي تنتج تداولا في السلطة السياسية ينعش مسار الدولة ويبقيه قيد التجدد ويوفر أطرا للمحاسبة. غير أن كل هذه المبادئ الأساسية تبقى شبه مستحيلة إلا في الدولة المنجزة، والتي بكل أسف عجز اللبنانيون عن بنائها حتى الساعة، لعدم تمكنهم من تجاوز البنية الطائفية كعامل حاسم في تكوين شكل السلطة ومضمونها والانتقال إلى مفهوم المواطنة من جهة، ولعدم قدرتهم على تحصين واقعهم الداخلي في وجه المؤثرات الخارجية وتداعياتها الأمنية والسياسية عليهم من جهة ثانية.

إن هذا العجز عن بناء الدولة الحقيقية القادرة في لبنان حوّل العملية السياسية إلى رمال متحركة، نحتاج معها في كل مرحلة من المراحل إلى بناء توافق الحد الأدنى لضمان الاستقرار ولو بالحد الأدنى. ولكي تنتقل العملية السياسية من مرحلة التسويات المؤقتة إلى مستوى الحل الجذري للواقع اللبناني الهش، فإن أول ما يفرضه ذلك الانعتاق المطلق لمختلف القوى السياسية اللبنانية من التبعيات الخارجية، والتعامل على أساس التوازنات الداخلية، بما يحرر الحياة السياسية اللبنانية مما يجري خارجها ومن تبدلات اللاعبين الإقليميين والدوليين وتغير موازين القوى بينهم.

انطلاقا من كل ذلك، فإن السعي الجاري اليوم لتشكيل حكومة جديدة في لبنان في ظل الأزمة السياسية الراهنة المقيدة بشكل غير مسبوق بما يجري في المنطقة من صراعات، يجعل من الضرورة النظر إلى هذه العملية في سياق الواقع اللبناني الهش، وبالتالي البحث مجددا عن تسوية مؤقتة لن تنهي المشكلات المستعصية حتما لكنها توقف النزف الحاصل في بنيان الدولة على قاعدة ألا نخسر كل شيء، تحت ضغط الاختيار بين التوافق المؤقت أو الانفجار، وخصوصا أن القضايا الخلافية جوهرية ومصيرية، والانقسام بشأنها عمودي، وهو يأخذ صبغة مذهبية نظرا لامتداداته الخارجية، بالإضافة إلى تأثير التحولات الجارية من حولنا الواضحة المعالم.

كل ما يجري إذن يشكل تهديدا بنيويا للاستقرار وينذر بفراغ سياسي قد يدخل لبنان في نفق الاضطراب وربما الحرب الأهلية مجددا، مما يجعل من التوافق على تشكيل حكومة تضم الجميع ضرورة وطنية، مع لازمة عدم الوقوع في الرهان أن هذا التوافق هو الحل النهائي لأزمة لبنان، وإنما خطوة أولى لا بد منها لتحصين الاستقرار وتجاوز الأزمة الحالية، والتوطئة لتوفير أجواء إيجابية وظروف سياسية ملائمة لإنجاز الاستحقاقات المقبلة، كانتخابات رئاسة الجمهورية والانتخابات النيابية.

لذلك، إذا كان المنطق القائل إن تأليف الحكومة يجب أن يخضع لمقتضيات الدستور سليما حكما، فإن البحث في كيفية تجاوز اللبنانيين للأزمة القائمة ضروري أيضا. وما هي الخيارات المتاحة إذا كانت الحلول المستديمة شبه مستحيلة. لذلك وفي انتظار زمن التسويات النهائية، وحده التوافق المرحلي يشكل المخرج المناسب في ظل المعطيات السياسية الموضوعية على أساس القاعدة الذهبية التي طرحها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط «تنظيم الاختلاف»، وذلك من خلال الحوار الذي يجب أن تشكل الحكومة العتيدة إحدى واحاته لمقاربة قضايانا بمسؤولية وطنية وإرادة جادة باتجاه إنتاج الحلول.

بناء على هذا، يبقى فن التسوية ولو المرحلية الخيار الأجدى، على أن تكون الحكومة المتوافق عليها والتي تضم جميع ألوان الطيف السياسي اللبناني، الخطوة التي توفر على لبنان واللبنانيين مزيدا من التدهور نحو الأخطر، وأن تكون التمهيد الجدي لفتح آفاق النقاش السياسي حول كيفية بناء مستقبل مستقر لن يجده اللبنانيون إلا إذا امتلكوا جميعهم قناعة بناء الدولة ومؤسساتها باعتبارها الملجأ الوحيد والخيار النهائي الذي يجب الارتكاز إليه.

* أمين السر العام في الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني