هل تستطيع مؤسسات ليبيّة بإمكاناتها الذاتية وقف انزلاق ليبيا نحو الفوضى والتقسيم؟

لا .. المؤسسات المُغيَّبة تهدد جديا بقاء الدولة

TT

لا يمكن القول إن مؤسسات الدولة الليبية الموجودة الآن، قادرة بإمكاناتها الذاتية الحالية على وقف انزلاق ليبيا نحو الفوضى والتقسيم. لقد ورث الليبيون تركة ثقيلة للغاية من نظام العقيد معمر القذافي، كان في مقدمها غياب أي درجة من درجات المؤسسية في هيكل الدولة الليبية، وهذا ما ترك ظلالا سلبية على نظام ما بعد القذافي؛ إذ باتت البلاد خالية من أي مؤسسات قوية يمكن أن تدفع وتمضي قدما في بقاء كيان الدولة صامدا أمام العواصف، التي ربما تقود إلى التفتيت والتقسيم مستقبلا إذا استمر الوضع في حالة التدهور الموجودة الآن، أو حتى يمكن اعتبارها لبنة لبناء باقي المؤسسات سواء الأمنية أو غيرها. إن السلطات الرسمية الممثلة في «المؤتمر الوطني العام» و«الحكومة المؤقتة»، تغيب عنها الفاعلية بدرجة كبيرة بسبب عوامل عدة: العامل الأول أن ولادة هذه المؤسسات شابها القصور نتيجة تشوه كبير ألحق بها قبل أن ترى النور. ولقد ورثت هي الأخرى ملفات من «المجلس الوطني الانتقالي» السابق لم يكن بمقدوره حسمها، فاضطر إلى إرجائها لمن يخلفه كي لا يتحمل مسؤوليتها أمام الشعب الليبي، وذلك مثلما هو واقع الآن مع قانون «العزل السياسي»، الذي أقر تحت تهديد السلاح وأربك المشهد السياسي الليبي، وكان أحد الأسباب الرئيسة للأزمة السياسية الراهنة التي تعيشها البلاد.

وثاني هذه العوامل أن الإعلان الدستوري الصادر في أغسطس (آب) 2011 منح المؤسسة المنتخبة الممثلة في «المؤتمر الوطني العام» مهمتين أساسيتين: الأولى هي تشكيل حكومة مؤقتة لإدارة المرحلة الانتقالية، والثانية تشكيل هيئة تأسيسية لصياغة الدستور الدائم للبلاد، ولقد نجح المؤتمر في الأولى بصعوبة بالغة، بينما لا يُعرف مصير الثانية حتى الآن بسبب الصراعات السياسية. وثالث هذه العوامل أن قانون الانتخابات الذي بناء عليه جرى اختيار أعضاء «المؤتمر الوطني العام»، والذي منح ثلث الأعضاء للكيانات السياسية والثلثين للمستقلين، شابه أيضا كثير من اللغط والجدل، الأمر الذي أفرز تركيبة برلمانية غير متماسكة، وظهر ذلك جليا خلال عمل المؤتمر حيث الصراعات السياسية كفيلة بإعاقة أي تقدم.

والعامل الرابع أنه عند وقوع مشكلات كبرى في ليبيا نجد أن المؤسسات الرسمية عاجزة عن مواجهتها، ولذا تعطي المجال أمام الدور القبلي للتدخل والتسوية، وكأن السلطة الرسمية تخشى الاقتراب منها للحفاظ على علاقات الود أو أنها تخاف من أن ترمى بتهمة الميل لطرف على حساب آخر. إن مشكلة إغلاق الموانئ النفطية منذ يوليو (تموز) الماضي على يد آمر حرس المنشآت النفطية السابق إبراهيم الجضران، أعجزت الحكومة، وكذلك «المؤتمر الوطني العام»، حتى الآن في التوصل لحلول بشأنها مع المعتصمين في تلك الموانئ بسبب الخلاف على توزيع المكاسب والاتهامات المتبادلة بالفساد.

أما في ما يتعلق بالمؤسسات الأمنية فغيابها أصبح أمرا واقعا، بسبب تضخم دور الثوار وعددهم، وسوء تقدير السلطات الرسمية - من وجهة نظرة هؤلاء الثوار - لدورهم الكبير في الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي، وانعدام أي رؤية واضحة أو برنامج، سواء من «المؤتمر» أو الحكومة المؤقتة، إزاء معالجة الوضع الأمني، أو حتى دمج الثوار السابقين في مؤسسات الدولة. ويمكن أن يضاف إلى ذلك ظهور مجموعة من الصراعات القبلية في غرب البلاد وجنوبها في ظل الكثافة غير المسبوقة لانتشار السلاح بين المواطنين، وارتفاع معدل عمليات الاغتيال والاختطاف في ربوع البلاد. ويمكن ملاحظة أن عمليات الاغتيال تكثر في شرق البلاد، بينما تتزايد عمليات الخطف في الغرب، في حين ينتشر في الجنوب الاغتيال والاختطاف.

ويبدو أن هيمنة تشكيلات مسلحة معينة من خلال دورها البارز في الإطاحة بالقذافي منحها شرعية وسطوة أكبر من أجهزة الدولة، التي هي الأخرى مَن ساعدها في الحصول على تلك الهيمنة وتأكيدها، بعد إزاحة النظام، من خلال الازدواجية المتبعة في جمع السلاح ودفع الرواتب للمسلحين.. مما مكنهم من تحدي الدولة عند كل خلاف.

لكل هذه الأسباب وغيرها تبدو هياكل الدولة الموجودة الآن عاجزة عن التعاطي بشكل ايجابي مع أي من الملفات والقضايا الحساسة التي ظهرت خلال الحرب على نظام القذافي وما بعده، خاصة قضايا النازحين والمهجرين والتعويضات التي يطالب بها الثوار، أو حتى من كانوا معتقلين إبان نظام القذافي، وهو ما شكل إرهاقا لأي مؤسسة قبل أن توضع لبناتها، أو حتى الصراعات القبلية الناشئة التي تهدد وحدة الدولة.

* باحث مصري في «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» - القاهرة