هل يمكن تصور حالة عراقية مستقلة عن طموحات إيران ومصالحها الإقليمية؟

نعم .. ولكن شريطة ترجيح ساسته دور «الجسر» الإقليمي على «الخندق» الشيعي

TT

دائما، كانت ثمة شكوك في ولاء شيعة العراق لوطنهم، واعتقاد مستمر بولائهم لإيران، الجارة الشيعية. هذه الشكوك بدأت داخل العراق، ونمت مع نمو الدولة العراقية الحديثة، غير أنها أصبحت معطى إقليميا ودوليا، ودراسيا حتى، وربما عززته بعض السياسات التي اتبعتها إيران أو النخب السياسية الشيعية.

هذه المقالة لا تسعى إلى إثبات صحة هذا الولاء أو نفيه، ولا إلى البحث عن مصادر هذه الصورة، وهي مسألة معقدة بكل تأكيد، لكنها تسعى إلى فهم إلى أي حد تحكم مخيال سياسي على هذه الشاكلة بالديناميكيات السياسية لشيعة العراق، أو بردود فعل الغرب (ولا سيما الولايات المتحدة)، أو الدول العربية.

في أثناء «حرب تحرير الكويت» عام 1991 امتنعت الولايات المتحدة عن التدخل لإسقاط نظام صدام حسين، خشية من أن تتولى الحكم في العراق نخبة شيعية موالية لإيران. ولقد ظل هذا الهاجس ملازما لأي احتمال بسقوط نظام صدام. وسيطرة الشيعة تأتي إما بسبب أن تبني العراق نظاما ديمقراطيا سيقود الشيعة - وهم يشكلون الأغلبية الديموغرافية للبلاد - إلى الحكم في بلد منقسم إثنيا، أو أن الأحزاب الشيعية هي الجهة الأكثر قوة وتنظيما سياسيا بين أوساط الجبهة المعارضة لنظام صدام.

وفي كل الأحوال، ظلت إيران - تاريخيا - هي مصدر التشيع السياسي، ولم يستطع العراق الحديث، أن ينتج زعامة شيعية سياسية عابرة للحدود، ربما لأن الشيعة لم يلعبوا الدور المركزي في تاريخ العراق السياسي، لا في الحقبة العثمانية ما قبل 1921، ولا في الدولة الحديثة ما بعد 1921.

اللحظة الأولى التي فتحت المجال لدور مركزي يلعبه شيعة العراق في تاريخ بلادهم هي لحظة 2003. وقد كان أحد الآمال الأميركية في العراق، لا فقط أن يفتح العراق مسار الشرق الأوسط نحو الحداثة، وأن يصبح سقوط نظام صدام - كسقوط «جدار برلين» - عتبة عبور الشرق الأوسط كله إلى الديمقراطية، وأن يصبح العراق أنموذجه الملهم.. ليس ذلك فقط، بل أن تقدم النخبة الشيعية أنموذجا سياسيا مغايرا للأنموذج الإيراني، وأن تكسر الصورة النمطية التي صدرتها «الثورة الإسلامية» في إيران للتشيع بأنه ذو نزعة أصولية راديكالية، ومعاد للغرب.

هذا الأمل كانت سببه، بالتأكيد، نضالات بعض الناشطين العراقيين الشيعة الذين أرادوا أن يقنعوا الأميركيين باختلاف التشيع العراقي عن التشيع الإيراني، وتفنيد شبهة ولاء شيعة العراق لإيران، ولكنه - أيضا - يستند إلى فهم الإمكانيات التي تؤهل عراقا يقوده الشيعة لتقديم أنموذج مغاير للأنموذج الإيراني: الثروة والحلف مع أقوى دولة في العالم، فضلا عن امتلاك عصب الرمزية الدينية للتشيع (النجف). وبالفعل، كان بإمكان العراق، بفضل وضعه الثقافي والديموغرافي والجيو - بوليتيكي الخاص، أن يلعب دورا خاصا وحاسما في سياق الاحتقان الطائفي القائم في المنطقة، ولا سيما، في نقطتين محوريتين:

* أن النخبة الشيعية الحاكمة فيه يمكن أن تقود تيارا شيعيا عربيا، متمايزا عن التشيع الإيراني.

* وأنه يمكن أن يشكل نقطة التقاطع بين إيران والعالم العربي.

عام 2008 قال السيد عمار الحكيم من القاهرة، التي كان فيها جزء من جولة عربية، إن العراق يمكن أن يكون «جسرا» بين إيران والعالم العربي. هذا التصور يشي باستراتيجية كاملة، يمكن أن يتبناها العراق، وهي أنه ليس بالضرورة أن يكون في أحد «الخندقين» العربي أو الإيراني، بقدر ما يمكن أن يؤدي دور الوسيط بينهما.

غير أن فكرة «العراق الجسر» لا «العراق الخندق» لم تنم ولم تتطور.

لماذا؟

لأن واقع الانقسامات والصراع الداخلي العميق لم يؤهل العراق للعب دور خارجي، ولأن الدول العربية نفسها ظلت أسيرة الصورة النمطية للعراق، من دون مساعدته على لعب دور ينطلق من فهم وضعه الخاص، إذ هي لم تتعامل، بجدية كافية، مع إمكانية أن يتبنى التشيع العراقي سياسات يحركها الإيمان بهويته العربية. والأهم من هذين العاملين أن العراق، الدولة الهشة بعد، وجد نفسه أضعف من أن يواجه وحده التحديات التي أفرزها الاحتقان والصراع المتصاعدان في المنطقة.

وبكلمة، كان «الربيع العربي»، وتحديدا الثورة السورية وتفاعلاتها، هو النقطة التي اختار معها العراق، بشكل صريح وكامل، الانخراط في «خندق» شيعي، تقوده وتصنع استراتيجياته إيران، طالما أنه جرى «تطييف» ظاهرة «الربيع العربي» الذي قاد الإسلام السياسي السني إلى الحكم. وبدلا من أن ينتهي «الربيع العربي» إلى سياسات انفتاح في المنطقة، انتهى إلى «سياسة محاور» و«خنادق» طائفية غير مسبوقة، ليجد نفسه، بدلا من أن يكون مشروع دمقرطة وتحديث سياسي، موضوعا في مواجهة النزعة الإمبراطورية الإيرانية.

القادة العراقيون - والمقصود هنا حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي - اختاروا الطريق الأسهل - لكنها الأكثر كلفة - التي تتمثل بأن يكون العراق جزءا من «خندق» طائفي يجمعه بإيران وسوريا وحزب الله في لبنان، طالما أن الاحتقان المتنامي في المنطقة لم يعد يتقبل مبادرة حوار.

وحتى حين اشتدت العقوبات الاقتصادية الغربية على إيران، بسبب ملفها النووي، ما قبل التفاهم الأميركي - الإيراني الأخير، وكان يتوقع أن يكون العراق هو الدولة الأولى التي ستفيد من غياب إيران عن السوق النفطية، اختار القادة العراقيون استراتيجية «ترميم الخندق» الذي وضعوا أنفسهم فيه، فدعموا إيران اقتصاديا، بدلا من أن يفيدوا من غيابها، كما أفادت إيران من غياب العراق عن السوق النفطية في التسعينات.

وهكذا، فات القادة العراقيين أن «العراق الجسر» قد يكون أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى، لا فقط للإسهام في نزع التوتر القائم في المنطقة، بل لتحصين العراق من تداعيات ما يجري في سوريا.

وسيبقى هذا الملف متيقظا في أدراج السياسة العراقية مع أي تغير محتمل في مؤسسة الحكم. المهم، الآن، إدراك حقيقة أن أي تسوية للنزاع الداخلي في العراق لن تحصل من دون إعادة «موضعة» العراق في سياق التنافسات المتصاعدة في هذا الإقليم الملتهب.

* باحث عراقي، استشاري في المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية