هل فاتت الفرصة المتاحة أمام القيادات العراقية لإعادة بناء دولة مؤسسات موحدة؟

نعم.. في المستقبل المنظور فاتت الفرصة على القيادات «الكانتونية» الحالية

TT

نعم، بالتأكيد فاتت تماما الفرصة على القيادات الحالية لبناء دولة عراقية بهذه المواصفات.

لماذا؟ سؤال وجيه، والجواب يمكن اختصاره في أنه أتيح لهذه القيادات الوقت الكافي (ثماني سنوات)، منذ الاستفتاء على دستور دائم (2005) لأول مرة خلال نحو نصف قرن وانتخاب أول برلمان دائم وتشكيل أول حكومة دائمة، لوضع الأسس لدولة المؤسسات، بيد أن كل هذه المؤسسات - الدستور والبرلمان والحكومة - فشلت في تشكيل ظلال دولة من أي نمط، فكيف بدولة مؤسسات موحدة؟

أين تكمن العلة؟

قبل إطاحة نظام صدام حسين كانت قوى المعارضة العراقية جميعا، بما فيها قوى الإسلام السياسي، تعد الشعب العراقي بنظام ديمقراطي حقيقي بوصفه النقيض والبديل لديكتاتورية صدام الرهيبة وحسن الختام لتاريخ طويل من الآلام والمآسي والمحن والحروب. وكرر الذين جاءوا مع الأميركيين عام 2003 هذا الوعد، إلا أن ما جرى حتى الآن لا علاقة له بأي شكل من أشكال النظام الديمقراطي.

«مجلس الحكم» الذي أنشأه الأميركيون في عام 2004 قام على قاعدة أن العراق مكون من الشيعة والسنة والكرد، وأن توزيع «كعكة» الحكم بينهم بحسب النسبة السكانية كفيل بحل المشكلة المزمنة للدولة العراقية الحديثة. ومشكلة هذه الدولة رآها الأميركيون من منظور اجتماعي بوصفها مشكلة تهميش الشيعة والكرد، بينما هي في الواقع مشكلة سياسية - اجتماعية. فعملية الإقصاء والتهميش منذ إنشاء هذه الدولة في عشرينات القرن الماضي على يد البريطانيين كانت ذات طابع سياسي أكثر منه قوميا محضا أو طائفيا محضا، من دون التقليل من دور ومكانة الدوافع القومية – العربية، والطائفية - السنية للتهميش والإقصاء.

الحكومات الملكية كانت مناهضة للحركة الوطنية العراقية العابرة للطوائف والقوميات، بما فيها فرعها الكردي. وفي العهد الجمهوري كان الصراع يدور بين قوميين (البعث والناصريين) من جانب، ويساريين وليبراليين في الغالب من الجانب الآخر. وفي هذا الإطار كانت تنضوي الحركة الكردية نفسها التي احتفظت بشعارها الوطني: الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان.

وقبل إطاحة صدام أيضا كانت قوى المعارضة تعد العراقيين بدولة «المواطنة» التي تقوم على الهوية الوطنية العابرة للقوميات والأديان والطوائف.. بديلا عن الدولة الشمولية القائمة على الهوية الحزبية (البعث)، فصدام حسين كان يعد أن «كل عراقي بعثي وإن لم ينتمِ».

ولقد ظهر في التاسع من أبريل (نيسان) 2003 أن دولة البعث، بل «دولة صدام»، التي بدت قوية بسطوتها الغاشمة، كانت أشبه بقصر من رمال. ففي غضون يومين وليلتين فقط انهارت تلك الدولة بمؤسساتها المدنية والعسكرية كافة مع فرار صدام من بغداد واختفائه في حفرة في باطن الأرض، ولم يبق أي أثر لتلك «الدولة». حتى أوراقها الرسمية، بما فيها سجلات النفوس، تعرضت للحرق والنهب. بيد أن «الدولة» القائمة الآن لم تقدم البديل، فهي الأخرى لا تعتمد الهوية الوطنية، وإنما تستند إلى الهويات والولاءات الفرعية (المذهب والطائفة والقومية والحزب في إطار المذهب والطائفة).. هذا كان عامل تفتيت إضافيا حال على مدى السنين الثمانية الماضية دون قيام «دولة عراقية» حقيقية.

الديمقراطية لا يمكن أن يبنيها إلا الديمقراطيون. والمدنية لا تتحقق إلا على أيدي المدنيين. والذين تولوا الحكم خلال السنوات الثماني الماضية لم يكن بينهم ديمقراطيون ولا مدنيون. إنهم من جماعات الإسلام السياسي، الشيعية والسنية على السواء، التي ظلت حتى الآن تتصارع للهيمنة على مقاليد الأمور على قاعدة الخلاف المذهبي الذي يمتد عمره إلى 1400 سنة.

على الرغم من مساعي الأميركيين لتشكيل قاعدة دولة يديرها ممثلو الشيعة والسنة والكرد بالتوافق.. فإن الطبع غلب التطبع، ولم ينجح ممثلو هذه المكونات في الاتفاق على دستور دائم متكامل يكون قاعدة لقيام الدولة المدنية الديمقراطية الموعودة. وهذا ما يمكن تلمسه في صيغة الدستور التي اتسمت بخلل فادح في مجال مؤسسات وآليات بناء الدولة الديمقراطية. وجرت تسوية مؤقتة لتعديل الدستور واستكمال نواقصه، فقد تضمن الدستور مادة توجب تعديله خلال أقل من سنة (المادة 142). وبالفعل، شكلت لجنة من مجلس النواب الأول واقترحت تعديلات في 50 مادة من مواده، لكن لا ذلك المجلس الذي كان ملزما دستوريا بمناقشة التعديلات المقترحة وإقرارها وطرحها للاستفتاء العام.. ولا المجلس اللاحق الذي ستنتهي ولايته خلال أسابيع، قد فعلا ذلك.

ولقد أتاح عدم تعديل الدستور الناقص والمتناقض من داخله تعطيل الدستور بأكمله تقريبا، والعمل بموجب نظام لم يتضمنه الدستور، وهو نظام التوافق في تشريع القوانين بين القوى المهيمنة على السلطة والمحاصصة في توزيع الموارد والمناصب والوظائف الحكومية، فالوزارات والمؤسسات موزعة الآن من قمتها إلى قاعدتها على الأحزاب والجماعات المكونة للحكومة والبرلمان.

هذا النظام أتاح قيام «كانتونات» حزبية - مذهبية - قومية فيما يفترض أنه كيان «الدولة العراقية».. والفارق كبير بين كيان «الدولة» وكيان «الكانتونات». وهذه «الكانتونات» وفرت مصالح وامتيازات مالية وسلطوية كبيرة للقائمين عليها، ما جعل هؤلاء يستميتون في الدفاع عن النظام، وهذا هو الحاصل الآن.. أصحاب «الكانتونات» لا يريدون أن تقوم دولة المؤسسات التي ستعصف بمصالحهم ومراكز قوتهم.

هذا ما يجعلني أجزم بأن القيادات الحالية غير قادرة على - بل لا تريد - إنشاء دولة المؤسسات التي تلزمها قيادات أخرى غير هذه المتحكمة بالعملية السياسية حاليا.. قيادات مدنية - ديمقراطية، وهذه يتعين بالضرورة أن تكون من خارج قوى وأحزاب الإسلام السياسي غير المدنية، غير الديمقراطية.

الانتخابات البرلمانية التي ستجري في 30 أبريل المقبل لن تأتي بهذه القيادات. لا شك في هذا، لكنها قد تعطي إشارة على إمكانية أو عدم إمكانية ذلك في غضون السنين العشر المقبلة.

* كاتب وصحافي عراقي، رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة «المدى»