هل فاتت الفرصة المتاحة أمام القيادات العراقية لإعادة بناء دولة مؤسسات موحدة؟

لا .. العراق.. الفرصة لا تنتهي لكن «فاقد الشيء لا يعطيه»

TT

كان السؤال المطروح وما زال، وهو يرد في هذا السجال: هل فاتت الفرصة، وانتهت أحلام أهل العراق، وما أكثر من أحلامهم بانتظار المخلصين؟! تأملوا عقودا من الزمن للتغيير نحو الأحسن، فيوم وطئت الجيوش الأميركية بغداد تصاعد الحلم واقترب تحقيقه في نظرهم، بعد أن جرى الحديث عن تجربة اليابان، في نهاية الحرب الأممية الثانية، وعلى وجه الخصوص أن فرقة من الجيش الياباني قد وصلت مع ما أطلق عليه بقوات التحالف الدولي، وهو اسم ليس على مسمى. فخيمت الفرقة اليابانية على أرض السماوة، وعمرت ما قدرت عليه، حتى شاعت النكتة، للأشياء الجميلة التي تركتها هناك، عبر هتاف «كلا كلا لليابان»! لكن حصل ما حصل وعقد مجلس الطوائف (مجلس الحكم) وتحول مدعي المدنية فيه إلى ممثلي طوائف! إذا أجبنا بنعم، وقلنا إن الفرصة قد انتهىت، فهذا يعني خلافا للتاريخ، وأقول التاريخ لأن هناك تجارب مرت على العراق، وتجاوزها، فمهما كان إن تحت الرماد جذوات، والأرض ملأى بالخيرات، وتجربة الخروج من التركة العثمانية ليست ببعيدة وحصل بسرعة مذهلة. لكن كيف حصل ذلك؟ الجواب بسيط: وجود عقول أخذت على عاتقها المهمة، فعادت بغداد إلى ألقها القديم، يوم كانت صرة العراق والعراق صرة الدنيا، مثلما جاء في كتب البلدانيين والمؤرخين. بينما في حينها جرت الدموع على آخر والي عثماني، وكأن العراق بلا ظل السلطان بإسطنبول سيبقى خرابا يبابا! أقول: الفرصة لم تفت على العراق، وإعادة إعماره، وتكريس الديمقراطية والمدنية على أرضه، وليس أهل العراق بأعداء للمدنية والحرية، مثلما نسمع أنهم دائما بحاجة إلى جلاد، ويذكروننا بضرورة وجود نموذج الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95ه). إن هذه الفكرة موهومة، بل العراقيون كغيرهم من الشعوب يتوقون إلى الحرية والمدنية، غير أن ما مر عليهم من ويلات الحروب والحصار والاجتياح والبطش الداخلي، ولفترات طويلة، جعلهم فرائس للأوهام والخطاب الديني اللامعقول، وبهذا العقل مارسوا الديمقراطية، فجاءت نتائجها مخيبة، هاتكة للقيم الاجتماعية والوطنية.

لقد مارس العراقيون الديمقراطية بلا فترة استرخاء وتأمل، أو حجر صحي من مآسٍ عاشوها في الفترة الماضية، وكأن قوى الإسلام السياسي، وهي تعجل بالانتخاب وكتابة الدستور، كانت في رهان وسباق مع الزمن، لاستغلال غيبوبة المجتمع، وكان لها هذا، وها هي تدخل السنة الحادية عشرة والغيبوبة ما زالت مستمرة، ومن يحاول النهوض يكب على وجهه، بالخطاب الديني المعجون بالطائفية.

قلنا الفرصة لم تفت، فإذا اعتقدنا بفواتها، سنكون حذفنا العراق بالكامل من الوجود، وخالفنا حركة التاريخ، لم يكن هذا الرأي معقولا، بل المعقول إن الفرصة تبقى منتظرة من يستغلها، ويبدأ بإعادة الإعمار، والبداية من الإقرار بخطأ ما حصل خلال الأحد عشر عاما. فمن الذي يستغل الفرصة؟ بالتأكيد أنه خارج هذه القيادات المريضة، التي لم تستطع تجاوز ذواتها الشخصية والحزبية. فعندما يكون تخلف المجتمع وتتدهور الأوضاع وإشاعة الإرهاب لصالح وجودها فلا نراها تفكر بإصلاح.

قطعا، إحدى عشرة سنة كافية للحكم على التجربة بالفشل الذريع، ففي ظلها البلاد ممزقة، والإرهاب ضارب بقوة، ووتيرة الفساد بتصاعد. ليس أنها تتقصد ذلك أو تخفي بضاعتها الحسنة، إنما تتصرف بهذا السوء لأنها لا تملك غير هذه البضاعة. فلم تكن هذه القوى في زمن معارضتها للنظام السابق بأفضل مما هي عليه الآن، فقبل ذلك كانت طائفية وكانت فاسدة، ومشتتة، ولولا تركت بلا الجيوش الأميركية الجرارة ما خطت خطوة داخل العراق، بمعنى أن الفرصة بحاجة إلى من ينتهزها، صحيح أن الأزمات أخذت بالتراكم بما جلب اليأس من وجود الفرصة بالحل من الأساس، إلا أن حلها يبقى ممكنا، ذلك إذا توفرت إرادة وإدارة واعية، خالية من أجندات ضيقة، وغير موالية للخارج على أساس حزبي آيديولوجي. صحيح أن وجود مثل هذا العقل السياسي شبه معدوم، وأن الديمقراطية المقننة بالخطاب الديني والطائفي لا تأتي بمثله في هذه الدورة أو التي بعدها، إلا أن تغيير هذه القيادة سريعا سيفتح المجال للبداية، فملفات من الفساد والخراب صارت تحت يدها، ولا بد أن ترفع عنها، وإلا تبقى الفرصة كامنة، وتنتظر الظهور في يوم من الأيام، أن ترفع يدها قبل التأسيس الديكتاتوري الجديد، وقد بانت طلائعه.

أقول: العراق بحاجة إلى مؤتمر دولي، تتحمل الدول التي وضعته تحت هذه اليد، بتصحيح خطاياها، وتحمل مسؤولياتها، لتساعد في اغتنام الفرصة، أما أنها تتأمل تحقيق الفرصة بظل هذه الإدارة المشوهة، فذلك ما لا يحصل، لأن «فاقد الشيء لا يعطيه»، ومن يعترض على كلامنا عليه مراجعة الإحدى عشرة سنة، ألا تكفي اختبارا؟

* كاتب وباحث عراقي