هل كان انسداد آفاق عملية السلام تحت رعاية واشنطن السبب الرئيس للتوصل إلى المصالحة؟

نعم .. «خطة كيري» أصل العلة وهي التي وفّرت لإسرائيل الغطاء لمواصلة التخريب

TT

بعد أشهر من الرحلات الأميركية المكوكية إلى المنطقة، وبعد جولات كثيرة من المفاوضات السرية والعلنية، تعود المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية إلى المربع الأول، وتتلقى السلطة في رام الله خيبة جديدة، وتسجل الإدارة الأميركية فشلا جديدا في دفع عملية السلام إلى الأمام، بينما إسرائيل ترى الفرصة مناسبة لمواصلة غيها الاستيطاني واستباحة الأرض الفلسطينية بلا رقيب أو حسيب.

لا شك في أن إسرائيل أوصلت خطة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى الفشل المحتوم قبل صافرة النهاية لإعلان اتفاق المبادئ.. لكن موقف إسرائيل من السلام وإقامة الدولة الفلسطينية واضح لا لبس فيه من زمان، ولم يتغير، في حين كان على الإدارة الأميركية أن تضغط لتغييره من أجل إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية.

العلة أساسا في الخطة نفسها، ذلك أنها وفرت لإسرائيل الغطاء اللازم لمواصلة العبث والتخريب والانتهاكات، بينما لم تقدم للفلسطينيين سوى الخيبة والخذلان. ولم يستطع جون كيري إحداث اختراق سياسي بسبب «اللاءات الإسرائيلية» المتكررة لإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 ووقف الاستيطان وتقسيم القدس مقابل الاعتراف الفلسطيني بيهودية دولة إسرائيل. والواقع أن وزير الخارجية الأميركي لن يجد فلسطينيا واحدا يمكن أن يقبل بما تتضمنه الورقة وفق ما تسرب عنها في الإعلام الإسرائيلي، سواء فيما يخص الأغوار، وسيادة الدولة الفلسطينية، أو فيما يخص القدس ووضع اللاجئين، وغيرها من القضايا.

خطة الوزير عرضت على الفلسطينيين ما يشبه الحكم الذاتي الذي يفتقر ليس إلى مقومات السيادة الوطنية فقط، بل يبقي عمليا معظم الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر.

وهذا يعني أن خطة كيري ستأخذ في الاعتبار الحقائق الاستيطانية التي أرستها إسرائيل على الأرض منذ احتلال عام 1967، علما بأن إسرائيل تواصل الاستثمار في بناء المستوطنات حتى الآن. وقد نصت خطة كيري بشكل صريح على ضم التجمعات الاستيطانية اليهودية الكبرى في الضفة الغربية لإسرائيل، والتي يقطنها 70 - 80 في المائة من المستوطنين.

لكن ما صدم السلطة الفلسطينية هو أن كيري لا يريد فقط ضم التجمعات الاستيطانية الكبرى لإسرائيل، والتي تنتشر على عشرة في المائة من مساحة الضفة الغربية، بل إنه لا يرى أي مبرر لتفكيك المستوطنات التي تقع خارج التجمعات الاستيطانية والمستوطنات النائية، ويدافع عن إبقاء هذه المستوطنات داخل المناطق التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية.

ومما يزيد الأمور تعقيدا حقيقة أن الجانب الأميركي يوافق على أن تتولى إسرائيل الصلاحيات الأمنية في المناطق التي توجد فيها المستوطنات داخل حدود الدولة الفلسطينية والطرق التي تربطها بعضها ببعض وبإسرائيل، بحيث يكون من حق الجيش الإسرائيلي الاحتفاظ بقواعد عسكرية داخل مناطق السلطة لضمان أمن المستوطنين.

تطالب خطة كيري بشكل واضح الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل بوصفها «الدولة القومية للشعب اليهودي»، مع العلم أن هذا الموقف عبر عنه أقطاب الإدارة الأميركية، ولا سيما الرئيس أوباما في أكثر من مناسبة. ولا تنبع خطورة قبول هذا الطلب فقط من حقيقة أنه يعني تنازل الفلسطينيين الضمني عن حق العودة للاجئين، بل لأنه يعني أيضا إضفاء شرعية على كل ما تقوم به إسرائيل من إجراءات لضمان طابعها اليهودي، سواء على الصعيد الديني والديموغرافي والقانوني والثقافي.

والشارع الفلسطيني، على ضعفه، لن يقبل بما لا يحقق له الحد الأدنى من متطلبات حل عادل. أما الرئيس محمود عباس، الذي يعد أكثر القادة الفلسطينيين اعتدالا، فقد كان يأمل في أن يتمكن جون كيري من خلْق الشروط الضرورية للموافقة على خطة إطار تمنح الرئيس عباس فسحة زمنية ونصرا (إطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين)، يمكن أن يوظف سياسيا بطريقة أو بأخرى في إطار تجاذبات السياسة الداخلية في المشهد الفلسطيني.

ومع الرغبة الملحة لكيري في إبقاء المفاوضات على قيد الحياة، كان نتنياهو يمضي في تصعيد الشروط التي طالت الأميركيين أنفسهم، مثل المطالبة بإطلاق الجاسوس الإسرائيلي جوناثان بولارد الذي يمضي عقوبة السجن مدى الحياة بعد إدانته في منتصف الثمانينات بالتجسس لمصلحة إسرائيل. وكل ذلك في مقابل موافقة نتنياهو على إبطاء غير معلن في عملية بناء الوحدات الاستيطانية خارج القدس الشرقية والكتل الاستيطانية الكبرى والموافقة على تمديد المفاوضات تسعة أشهر، والقبول بإطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين المعتقلين منذ ما قبل التوقيع على اتفاقات أوسلو سنة 1993 وعددهم 127 أسيرا.

عند هذا الحد من الغطرسة الإسرائيلية، أشهر محمود عباس ورقة العودة إلى خيار الأمم المتحدة وكانت مقدمة ذلك التوقيع على 15 اتفاقية ومعاهدة دولية يمكن لدولة فلسطين العضو غير المكتمل العضوية في الأمم المتحدة الانضمام إليها. ومن ثم إعلان اتفاق المصالحة مع حركة حماس والاتفاق على تأليف حكومة وحدة وطنية برئاسته. وهما الأمران اللذان أثارا غضب إسرائيل ودفعها نحو توجيه الضربة القاضية للمفاوضات بإعلان وقفها.

ومن الطبيعي أن عباس لم يكن ليقدم على ما أقدم عليه لو كان لا يزال لديه بصيص أمل باحتمال التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل حتى ولو جرى تمديد المفاوضات تسعة أشهر أخرى. ومنذ أن طالب نتنياهو عباس بالاعتراف بإسرائيل «دولة يهودية» شرطا مسبقا للتوقيع على اتفاق سلام، أيقنت القيادة الفلسطينية أن الحكومة الإسرائيلية غير معنية بالتوصل إلى تسوية للقضية الفلسطينية، إذ إنه ليس واقعيا أن يقدم عباس على تلبية الشرط الإسرائيلي، لأنه يعني ببساطة أن الفلسطينيين هم المعتدون على إسرائيل منذ تأسيس الدولة العبرية عام 1948 وحتى من قبل. ويعني أيضا أن لا حق تاريخيا للفلسطينيين في أرض يعترفون هم بأنها لليهود وليست لهم. ثم ماذا سيكون مصير الفلسطينيين الذين لا يزالون يسكنون في الأراضي المحتلة سنة 1948 بعد أن يعترف عباس بأن إسرائيل «دولة يهودية»، وما الذي سيضمن أن لا يصار إلى تهجيرهم أسوة بما حصل لأقاربهم قبل أكثر من 66 سنة؟

* كاتب سياسي لبناني