هل يؤثر انتخاب أي فرد بصرف النظر عن حجم تمثيله.. على واقع اختلال ميزان القوى الداخلي في لبنان؟

لا... ميزان القوى الأمني أصلا مختل والكل بانتظار اتفاق خارجي

TT

هناك اختلاف جوهري بين أن يمثل الرئيس نصف الشعب أو أن يحكم باسم نصف الشعب. الحالة الأولى صحية؛ فما من رئيس ينتخب بالإجماع إلا في الأنظمة التوتاليتارية. أما في الأنظمة الديمقراطية فالرئيس ينتخب بالنصف زائدا واحدا، بأغلبية نسبية أو بأغلبية مطلقة. بأغلبية أصوات الناخبين، أو أصوات المقترعين، في البرلمان أو في الاقتراع الشعبي العام. وكانت آخر نسخة من هذا الرئيس اللبناني سليمان فرنجية، الذي انتهت ولايته بانفجار الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975.

أما الحالة الثانية، فهي تؤشر على أزمة الديمقراطية في النظام السياسي، وهي تتجلى في لبنان، على وجه التحديد، بكونها أزمة انتهاك الدستور. أول من اقترف هذه الجريمة هو الذي لم يلتزم في قسمه بالحفاظ على السيادة الوطنية، ودشن ربط مصير الوطن بمصير الصراعات الإقليمية والدولية في أيام الصراع بين «حلف بغداد» والموجة الناصرية، ثم كرت سبحة انتهاك السيادة منذ بداية الحرب الأهلية، وبلغت ذروتها برئيس انتخب في ظل الاحتلال الإسرائيلي، ثم برؤساء ما كان يمكن وصولهم إلى سدة الرئاسة من غير مباركة «نظام الوصاية» السوري لانتخابات صورية في البرلمان.

في الديمقراطيات الحديثة، يمكن أن يفوز الرئيس بنصف أصوات المقترعين، أي بأقل من 50 في المائة من أصوات الناخبين، ومع ذلك فهو يحكم باسم الشعب.. يتصرف كرئيس للجميع، والجميع يتصرف معه بصفته رئيسا للجمهورية.

الأصوات يمكن أن تُقسم إلى نصفين أو إلى أثلاث أو أرباع، لكن تقسيم الجمهورية يعني تدمير الوطن وتشكيل «أوطان» جديدة على أنقاضه. ومن الطبيعي، في الديمقراطيات الحديثة، أن تعبر نتائج الانتخابات عن موازين القوى التي لا بد من أن تكون مختلة لصالح الفائز. إلا أن الوضع مختلف في لبنان، حيث النظام ديمقراطي في ظاهره ينطوي على انتخابات وصناديق اقتراع وأكثر من رئيس للجمهورية على قيد الحياة، كما أن فيه حكومات يتناوب أعضاؤها أو رؤساؤها على الحكم، وفيه أيضا برلمان من المفترض أن يكون هو صاحب القرار في انتخاب رئيس الجمهورية، لكنه في الحقيقة برلمان هو بيت الداء ومصدر كل بلاء، وفيه التستر على كل عيوب النظام. النظام ديمقراطي، صحيح، لكن العائلات التي حكمت لبنان في سنوات الاستقلال الأولى ما زالت مستمرة في حكمه جيلا بعد جيل، مما يعني أن الحكم فيه وراثي، أو ما يشبه ذلك.

ثم إن الديمقراطية تعني أول ما تعني الاعتراف بالآخر المختلف، لكن الآخر في النظام اللبناني متهم بلبنانيته أو بقوميته أو بدينه أو بمذهبه، وهو لا يعدم سببا قديما للتقاتل على اختلاف غابر في الزمن؛ سني - شيعي، مسلم - مسيحي، عربي - فينيقي، قيسي - يمني، إلخ. ولهذا يبدو من الطبيعي أن تكون أسباب الحرب الأهلية ماثلة حتى أمام من لم يشهدوا مذبحة من مذابحها، ومن الطبيعي أن يُدان الواحد بجريرة أحد أجداده من الصليبيين أو الكنعانيين أو الفرنجة أو العثمانيين؛ فكيف إذا كانت الخارطة السياسية تشي بوجود «جينات» تمتد جذورها حتى الأمويين أو الفرس؟

البرلمان في الديمقراطيات الحديثة ينظم حياة المختلفين والمتنوعين في الدين والسياسة واللغة والأصول الإثنية وغيرها، ويقوم بمهمات ثلاث؛ مراقبة الحكومة ومحاسبتها وسن القوانين. وأمامه مهمة رابعة في لبنان، هي انتخاب رئيس للجمهورية. غير أن البرلمان اللبناني لا يقوم بأي منها، ولا سيما بعدما ابتدع «نظام الوصاية» ثلاثية (أو «ترويكا») للحكم، تداخلت فيها السلطات تداخلا عجيبا، ولم يعد فيها من فاصل يفصل بين سلطة تشريعية وأخرى تنفيذية وثالثة قضائية. ومن ثم، تولى بنفسه خلط حابل السلطات بنابلها حين قرر التخلي عن مسؤولياته في المراقبة والمحاسبة والتشريع، وباشر بنفسه انتهاك الدستور، فصار يجتمع لا لينتخب من يفوز بالرئاسة بل ليقوم بدور ساعي بريد، يبلغ غير المرغوب فيهم ضرورة الخروج من معركة الرئاسة، أو صار يجتمع لتخريب النصاب لا لتأمين النصاب.. إلخ. هنا نحن أمام «حفلة فولكلورية» يعرف جميع المشاركين فيها أن نواب الأمة ليسوا هم من ينتخب رئيس الجمهورية. ومع ذلك، تنغلق فصول المسرحية بعد كل فصل من فصولها، ثم تنفتح، كأن شيئا لم يكن. من ناحية أخرى، يعمل البرلمان اللبناني بعقلية الميليشيات لا بآليات الدستور والمؤسسات. وهو لا يعكس حجم القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية وما تمثله على صعيد الواقع بقدر ما يمثل «قوى الأمر الواقع» وينطق باسمها. ويتنحى عن دوره مفسحا المجال لموازين قوى عسكرية ميليشيوية ترجح كفتها الداخلية لصالح فريق «8 آذار»، ولا تنعكس رجحانا موازيا في المجلس النيابي. لذلك حصل تأويل الدستور بما يلائم تعطيل الانتخابات لا إجراءها، بانتظار اتفاق إقليمي دولي على الرئيس العتيد. غير أن للمجلس النيابي، في مقابل كل هذه العيوب والعاهات البنيوية والانتهاكات الدستورية، فضيلة واحدة، هي أنه، حتى في تأويله المغلوط قضية النصاب القانوني، امتصّ التشنج، وحال دون انتخاب الرئيس بالأكثرية المطلقة التي لا يمكن أن تأتي بغير رئيس يحبه نصف اللبنانيين ويكرهه النصف الآخر.

* باحث وكاتب سياسي يساري