هل سيوضح مفصل انتخابات الرئاسة ملامح توازنات إقليمية معينة؟

لا... مع تلاشي الآمال بـ«لبننة» الانتخاب ثمة من يريد رهنه بالتوازن الإقليمي

TT

يعتقد كثيرون أن انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان، لدى حصولها، ستعكس ملامح التوازنات الإقليمية الجديدة، كما سترسو عليه بعد الزلزال العنيف الذي أصاب المنطقة مع «الربيع العربي» والثورة السورية والهزات الارتدادية التي تلت، والتي لم توفر تقريبا أيا من دول الجوار.

هذا الاستنتاج صحيح من حيث المبدأ، خصوصا، مع تلاشي آمال اللبنانيين مرة جديدة بإمكانية «لبننة» انتخابات الرئاسة، أي جعلها تجري وفق قواعد اللعبة الداخلية وتوازناتها وأولوياتها. لكن تبقى مسألة «التوازن الإقليمي»، وصعوبة تحققه في المدى المنظور، وبالتالي، صعوبة تحديد موعد حصول الانتخابات الرئاسية المقبلة في لبنان.

منذ تأسيس لبنان، لطالما كانت الانتخابات الرئاسية مسرحا لممارسة النفوذ والنزاع والتفاوض بين القوى الخارجية إنما بدرجات متفاوتة. غير أن هذا الاستحقاق بالذات، أي انتخابات 2014، أفلت من أيدي اللبنانيين باكرا جدا وكليا، أي تحديدا، منذ انخراط حزب الله رسميا وكليا في القتال داخل سوريا. وبدل أن يشكل تراخي القبضة الأمنية للنظام السوري، بعد الثورة السورية، مناسبة لصفحة جديدة في العلاقات اللبنانية - اللبنانية ونقطة انطلاق لإعادة بناء الدولة وإنهاض المؤسسات و«لبننة» الاستحقاقات الديمقراطية، اختار حزب الله أن يذهب في الاتجاه المعاكس، أي أن ينتقل إلى درجة أعلى في وظيفته الخارجية من ضمن العلاقة العضوية التي تربطه بإيران وباستراتيجيتها الإقليمية. فجاء تأجيل الانتخابات النيابية، العام الماضي، و«الكباش» (أو الصراع) الطويل الذي رافق تشكيل الحكومة مؤشرين باكرين على ما ستؤول إليه الانتخابات الرئاسية.

اليوم، ومع استهلاك أكثر من ثلثي المهلة المحددة لانتخاب رئيس جديد، وبمعزل عن مناورات امتناع المرشحين عن الترشح وذرائع البحث عن الوفاق وترميم الود المفقود، فإن ما يشهده مجلس النواب من تعطيل للنصاب، وما تشهده الساحة السياسية والإعلامية من تهويل، تارة بالفراغ وطورا بمؤتمر تأسيسي ينسف أسس النظام السياسي، ليسا سوى لوازم المسرح المحلي لاستدراج «التدويل». «التدويل» يعني استدعاء الدول الخارجية (عربية وغير عربية)، غير الراغبة أو غير المستعدة أصلا للتدخل في الاستحقاق الرئاسي اللبناني، إلى طاولة التفاوض، أو إلى التفاوض «تحت الطاولة»، وذلك لوضع عقدة الرئاسة في لبنان في إطار البحث في حزمة واسعة من الملفات الإقليمية. وهنا قد يكون الملف السوري أهمها، خصوصا مع اقتراب لحظة محاولة الحصول على اعتراف ما، أي اعتراف، بشرعية الانتخابات الصورية التي يجريها النظام.

نعم، إن «صفقة» من هذا النوع (إذا حصلت) قد «تفرج» عن انتخابات الرئاسة في لبنان، وربما تأتي برئيس يعكس التوازنات الخارجية، وتحديدا الإقليمية، وبشكل أخص التوازنات السعودية - الإيرانية. ولقد حصل شيء من هذا القبيل في «اتفاق الدوحة» عام 2008.

لكننا، من دون استبعاد كلي لأي احتمال، لسنا في عام 2008. ورقصة «التانغو» تتطلب اثنين.. كما يقول المثل الأميركي. ثم إنه منذ 2008 مر الكثير من المياه في نهر العلاقات الأميركية - الإيرانية، وفي نهر العلاقات العربية - الإيرانية، كما في نهر العلاقات العربية - الأميركية.

فالإدارة الأميركية تسعى، لا شك، إلى احتواء القوة النووية الإيرانية، وهذه هي أولويتها المطلقة، لكنها لم تبد حتى الآن اتجاها ملموسا لمقايضة هذا الملف مع أي ملف آخر، سواء في سوريا أو في لبنان. وهذا لا ينبع بالضرورة من وجود تشدد أميركي، بل ربما هو ينبع من عكس ذلك، أي من اتجاه الولايات المتحدة، وفقا لـ«عقيدة أوباما»، للتخلي عن دور «شرطي العالم».. وتحديدا «شرطي الشرق الأوسط». وهي إن كانت تشجع، منذ فترة، على التهدئة في لبنان، فلا يتوقع منها أن تقوم بأكثر مما يكفي لمنع انتقال النيران السورية إلى لبنان. وهذا لا يتضمن على الأرجح أي استعداد لرعاية تفاهم سعودي - إيراني واسع.. كما ترغب طهران.

أما بالنسبة للسعودية، ودول الخليج عموما، فإن الهوة التي تفصلها عن إيران اليوم باتت أضعاف ما كانت عليه عام 2008. ولقد أضيفت إلى قائمة التوترات أزمة البحرين وحركة الحوثيين في اليمن، وخصوصا الاحتضان الإيراني غير المحدود للنظام السوري، فضلا بالطبع عن التمدد الإيراني المزمن في كل من أفغانستان والعراق ولبنان. وحتى انتخاب الرئيس «المعتدل» حسن روحاني لم يسفر حتى الآن عن ملمح تغيير جدي في تلك الاستراتيجية الإيرانية.

لقد شجعت السعودية، وكذلك الولايات المتحدة، على التفاهم الضمني الذي سمح بولادة حكومة الرئيس تمام سلام. ولا شك أن إيران أعطت «الضوء الأخضر» لحزب الله للدخول في هذه الصيغة التي أثمرت حتى الآن تعاونا أمنيا ومكاسب أمنية متبادلة لفريقي النزاع في لبنان، إذ توقفت موجة التفجيرات التي كانت تستهدف المناطق والأحياء الشيعية، وتوقفت «حرب طرابلس» التي كانت تشل المدينة السنية الأولى في لبنان.

إلا أن هذا التفاهم الضمني، على أهميته وإيجابيته، يبقى محدودا في الموضوع، وفي المكان، وفي الزمان. أي أنه يبقى في نطاق المسرح اللبناني الصرف، وهو لا يغير موازين القوى فوق هذا المسرح، ويمكن نظريا الإطاحة بالحكومة التي تجسده في أي وقت. أما انتخاب رئيس الجمهورية فهو «تعاقد» طويل.. لست سنوات؛ فكيف إذا كان ثمة من يعمل على أن يكون انتخاب الرئيس اللبناني بندا من صفقة لإرساء توازن إقليمي قد يطول انتظاره؟

* أستاذ جامعي أمين سر «حركة التجدد الديمقراطي»