هل تتوقع أن تؤثر «ندوة الانتقال الديمقراطي» التي تعد لها المعارضة على المشهد السياسي في الجزائر؟

لا... المشهد العام في الجزائر يتسم بالعبثية..والاعتبارات التي ترجح الفشل كثيرة

TT

بداية، يجب التأكيد على أن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن اختزالها في «نعم» أو «لا»، ذلك أن هذا النوع من المواضيع تحكمه اعتبارات ومتغيرات كثيرة، منها ما هو ظرفي، ومنها ما هو استشرافي.

يتسم المشهد السياسي في الجزائر بالكثير من العبثية، وهو ما يجعل مسألة فهمه وتدبر مآلاته من الأمور التي تربك أكثر العارفين به. وهو ما يدفع إلى القول إن «ندوة الانتقال الديمقراطي» التي تعتزم المعارضة في الجزائر إقامتها لن تؤثر على مستقبل المشهد السياسي في الجزائر على أقل تقدير في المدى القريب، إذ ظهرت بوادر الانقسام الأولى حول تاريخ انعقادها، إذ جرى تأجيلها إلى بداية يونيو (حزيران) المقبل، بحجة توسيع دائرة التشاور، بعدما كان مقررا عقدها منتصف مايو (أيار) الحالي. ثم إن الدعوة إليها تزامنت مع المشاورات التي كان قد دعا إليها النظام حول الدستور «التوافقي» الجديد، وهو أمر لا يمكن أن تخطئه العين. أما الاعتبارات التي ترجح ضعف ما يمكن أن ينتج عنها، حتى لا نقول فشلها، فهي كثيرة.

من هذه الاعتبارات ما يرتبط ببنية ونمط الممارسة السياسية في الجزائر. فإذا كانت الإخفاقات كثيرة، وليس أدل على ذلك من تصنيف البلد في مراتب متدنية في قطاعات كثيرة، فإن القائمين على أمورها منذ الاستقلال أبدعوا في وأد السياسة بوصفها فعل إدارة الشأن الجماعي بالتحاور والتفاوض، وليس بالإقصاء والعنف. فالسلطة «غنيمة حرب»، وليست حصيلة عمل إقناعي ديمقراطي يختار فيه المجتمع أفضل من يمثله، وبالتالي، الأكثر كفاءة في خدمته.

هذا التصحير، أو وأد الفعل السياسي، جعل المجتمع ينأى بنفسه عن السياسة وكل من يمارس «العمل السياسي»، ربما باستثناء فترة الانتخابات التي أجريت في التسعينات من القرن العشرين، وهي المعضلة التي تعاني منها المعارضة السياسية في الجزائر. فالمعارضة هي «ضحية» هذا الوضع العبثي، إذ لم يعد الجزائريون، بعد هذه السنوات الطويلة، يؤمنون بفاعلية العملية السياسية ومآلاتها، وليس أدل على ذلك مما أظهرته الانتخابات الرئاسية التي نظمت أخيرا، وأكدت نسبة المقاطعة المرتفعة هذه الحقيقة. هنا «السلطة غنيمة» وليست نتيجة عمل يحتكم فيه إلى الشعب. وهذه البنية السياسية الذي أبدع النظام في تأبيدها من خلال الزبونية السياسية والولاء والإلحاق والاختراق، تجعل مثل هذه المبادرات - أو كيفما كان اسمها - التي تسعى إلى تقديم رؤى سياسية بديلة للمجتمع.. تبوء بالفشل على الأقل في المدى المنظور، لأن القائمين عليها لا يملكون ريعا يوزعونه، ولا مشروعا مجتمعيا يستنهضون به المجتمع. وهم، حتى وإن ملكوا هذا المشروع، فالنظام، بنمط ممارساته التي ذكرنا، قد وأد الفعل السياسي.

الاعتبار الآخر مرتبط بطبيعة الفاعلين السياسيين الداعين إلى عقد هذه الندوة، فهؤلاء ينتمون إلى مشارب آيديولوجية شتى، وما يفرقهم أكثر مما يجمعهم. فمنهم العلماني والإسلاموي والوطني وذو التوجهات العرقية. وبعضهم من «أبناء النظام» السابقين المغضوب عليهم، وبعضهم الآخر باحث عن الزعامة بأي ثمن. وهم يحملون رؤى ومشاريع مجتمعية متناقضة ترتبط بأمور مفصلية في بناء مجتمع ودولة عصريين، منها طبيعة المرجعية السياسية التي يجب أن تسود المجتمع. ولقد قامت بينهم صراعات وحروب سياسية استخدمت فيها كل مفردات القاموس السياسي، بدءا بالتخوين والارتزاق والنزعة الاستئصالية الظلامية والعمالة لقوى خارجية.

بل إن بعضهم تحول بين عشية وضحاها من متحالف مع النظام إلى معارض، في أعقاب استبعاده وفقده مغانمه السياسية. هذه «الشكشوكة» (الخليط) - بالتعبير الجزائري - من الصعب جدا أن تتوحد تحت مظلة واحدة وتنتج خطابا وممارسة يجد فيهما الجزائريون ضالتهم، وهم الذين فقدوا ثقتهم في الفعل السياسي بعد وأد السياسة.

ويمثل الأداء السياسي لهذه المعارضة بكل أطيافها بعدا آخر يحد من قدرتها في التأثير على إعادة رسم معالم المشهد السياسي في الجزائر. فلقد أظهرت كثير من الوقائع والاستحقاقات، رغم التشوهات التي صحبتها، هزال (بل بؤس) أدائها السياسي.

فماذا قدمت هذه المعارضة عندما وصلت إلى البرلمان، وفازت ببعض المجلس البلدية والولائية؟ لا شيء في نظر الجزائريين إلا إعادة إنتاج الممارسات نفسها التي كانت تتهم بها المحسوبين على النظام. ويتندر الجزائريون بالقول إنها المعارضة التي «تعارض المعارضة»، وليس النظام القائم. ذلك أن معظم زعمائها لا يختلفون عن النظام في ممارستهم الإقصائية، إذ إن فئة الشباب تغيب عن قيادات الصفوف الأولى، بل حتى الثانية. وربما أبد بعضهم في رئاسة أحزابهم، فإذا كان هذا حالهم، فماذا سيفعلون لو وصلوا إلى أعلى هرم السلطة.

يبقى اعتبار أخير يتعلق بالمتغير الخارجي. فما دامت القوى الخارجية المؤثرة في المشهد السياسي الجزائري تزكي وتبارك بطريقة أو بأخرى الوضع القائم، وبالتالي، لا ترى أي مصلحة لها في تدعيم المعارضة والمسار الديمقراطي الحقيقي، فإن هذه الندوات وما شابها لا يمكن ينتج عنها شيء ذو قيمة.

هل هذه دعوة إلى اليأس؟ لا.. ليس الأمر كذلك، بل هو فقه سياسي من أجل التجاوز الحقيقي للأزمة في الجزائر.

أخيرا، يمكن القول إن أشد ما تحتاجه الجزائر في هذا الوقت الحالي هو إعادة الاعتبار للفعل والممارسة السياسيين لإنتاج مسار ديمقراطي عقلاني وفعال، وما لم يتحقق ذلك فستبقى هذه الندوة وغيرها مجرد شعارات لن تذهب بعيدا.

* أكاديمي وباحث جزائري