هل باتت النزاعات الإثنية والمذهبية تشكل تحديا جديا لاستقرار البلاد ووحدتها الوطنية؟

لا... رغم التوتر والنفور فإن غالبية الجزائريين مجموعة متجانسة

TT

أي شخص شاهد كيف يحتفل الجزائريون بنصر وطني، أكان الاحتفال السنوي بالانتصار على المستعمرين الفرنسيين، أو بفوز رياضي في مسابقة أو بطولة دولية، لا يعود يساوره شك بالحماسة الوطنية الشديدة أو قل شدة الولاء للوطن والاعتزاز به. وهذا يصدق على سكان الجزائر العاصمة أو مدن أخرى داخل البلاد، مثل وهران، أو حتى مدن الهجرة الجزائرية، كالعاصمة الفرنسية باريس.

إن الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية دولة فتية، ذلك أنها أبصرت النور في نهاية «حرب الاستقلال» عن فرنسا عام 1962، غير أن قلة تربطها بالتوترات الإثنية والطائفية. ولقد احتاجت التحديات الهائلة الماثلة أمام العاملين على بناء دولة حرة مستقلة عن قوى الاستعمار، حسا استثنائيا بالوحدة، ولقد أفلحت أجيال متعاقبة من هؤلاء، حقا، ببناء هذه الدولة في أكبر بلد بأفريقيا.

في المقابل، بعكس واقع الجزائر، نلاحظ كيف تمزق الصراعات الفئوية والقبلية بعض بلدان الجوار، وبالذات، ليبيا. كذلك ثمة بلدان أخرى كسوريا ولبنان والعراق لديها حدود رسمتها اعتباطيا القوى الأوروبية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، بموجب اتفاقية «سايكس - بيكو»، وهو ما أدى مباشرة إلى توترات وأحقاد ومواجهات فئوية.

إن الغالبية العظمى من الجزائريين يشكلون مجموعة سكانية متجانسة. ذلك أن 85 في المائة منهم من العرب الذين يمتد وجودهم عبر إقليمي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي حين أن هناك نسبة لا بأس بها من الجزائريين من أصول بربرية (أمازيغية) فإن 15 في المائة فقط من هؤلاء يعرّفون عن أنفسهم بهذه الصفة. ويمكن توزيع هؤلاء على القبائليين (سكان جبال القبائل جنوب شرقي العاصمة وشرقها) والشاوية (شمال شرقي البلاد)، بالإضافة إلى جماعات أقل تعدادا مثل الطوارق والمزابيين (في أقصى جنوب البلاد ووسطها الجنوبي).

كثرة من البربر يحتفظون بلغاتهم وهويتهم الإثنية - التي استفزتها بصورة سلبية أخيرا المزحة غير الموفقة التي أطلقها في مارس (آذار) الماضي رئيس الوزراء عبد المالك سلال، إبان الحملة الانتخابية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، عن الشاوية. ويومها، وكان سلال قد استقال من منصبه (الذي عاد إليه) ليدير حملة إعادة انتخاب الرئيس، قد أطلق على الشاوية أمام كاميرات التلفزيون في الواقع وصفا يحط من مكانتهم، مما أثار سخط مختلف الجماعات البربرية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الضيق من المعاملة المجحفة أثار حالات من الاعتراض، بل والتمرد والعصيان، في الماضي، ولا سيما في صفوف القبائليين والشاوية، وبالأخص إبان حقبة الحكم الاستعماري الفرنسي بين عامي 1830 و1962. ولاحقا بعد الاستقلال قاوم القبائليون البربر بقوة مساعي «التعريب» والسياسات الهادفة إلى تعزيز سلطات الحكومة المركزية، واتهم المتشددون منهم السلطات الاستقلالية في العاصمة بانتهاج ما وصفوه بـ«الإمبريالية الثقافية». وخلال تلك الفترة أدت الاحتجاجات إلى اعتقالات وأعمال عنف بلغت حد ما أطلق عليه مسمى «الربيع البربري» عام 1980. عندما اعتقل مؤقتا مئات الطلبة والمثقفين، مما أدى إلى إضراب عمالي عام في منطقة جبال القبائل.

أيضا، حدث ما عرف بـ«الربيع الأسود» عام 2001 عندما سقط في مظاهرات عارمة سارت في مدن جبال القبائل 126 قتيلا، وجرح مئات آخرون بسلاح قوات الأمن الجزائرية. إلا أن الاضطرابات التي وقعت بالتزامن مع أحداث «الربيع العربي» عام 2011 كانت أقل حدة وأكثر تشتتا بكثير، وفيها طالب بعض البربر تحت شعارات الديمقراطية بترتيبات أفضل لأوضاعهم، لكنها على أي حال كانت -كما سبق - أقل حدة منها في أي فترة ماضية.

وهنا، ما يستحق الذكر، أنه في أعقاب فظائع الحرب الأهلية الجزائرية خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، بل وبفضل الدروس المكتسبة من الحقبة الاستعمارية، نجحت الجزائر في خلق هوية وطنية قوية عبر لغة واحدة هي العربية، ودين واحد هو الإسلام. غير أن التنازلات قدمت بالفعل للقبائليين منذ الأيام الحالكة السواد خلال عقد الثمانينات، والعقد الأول من القرن الـ21. لغة التمزيغت (الأمازيغية) البربرية غدت اليوم لغة رسمية في نصوص الدستور، وهي تستخدم الآن في وسائل الإعلام، كما أن الشرطة في منطقة جبال القبائل تجند غالبا من أبناء المنطقة التي ولد فيها المجندون وتربوا. كذلك فإن حجم التقديمات الحكومية للمنطقة ارتفع بنسبة كبيرة بالتوازي مع دفع القبائليين باتجاه تمتع منطقتهم بمزيد من الحكم الذاتي.

ومع أن مشاعر النفور ما زالت مستمرة، غير أنها لا تشكل تهديدا للتماسك الوطني. ويجوز القول اليوم إن التوتر الإثني أقرب إلى المشكلة البسيطة التي لا تقاس إطلاقا بما يعد قضايا وطنية أمنية أساسية، ليس أقلها التصدي للإرهاب.

* إعلامية وباحثة أكاديمية جزائرية مقيمة في بريطانيا