هل كان دوام حكم «حركة الإنقاذ» 25 سنة في السلطة مقبولا للسودان والسودانيين؟

نعم .. الحكم بالأعمال والمنجزات الكبرى.. 25 سنة تتكلم عن نفسها

TT

شهدت الفترة الممتدة بين عامي 1989 و2014 حكما للتيار الإسلامي الذي يُعبر عنه في السودان بـ«حكم الإنقاذ الوطني». ولا شك أنه ما من حكومة وطنية في تاريخ السودان منذ الدولة السنارية قد استقر لها حكم في السودان لربع قرن من الزمان. وهذه الحقيقة الموضوعية ذاتها هي من أكثر الحقائق إثارة للجدل.

إن القراءة الموضوعية للتاريخ الراهن أمر متعسر في كل الأحوال، وبخاصة في الشأن السوداني حيث ينقسم الفرقاء إلى موالاة ومعارضة. ولا يستبقون وسيلة من القول أو الفعل للاستهزاء بالطرف الآخر وازدرائه. بيد أن نصيب كل ادعاء للمطابقة للواقع متروك لأهل الشهود، والشهادة من المواطنين السودانيين الذين لا ينسبون أنفسهم إلى هؤلاء ولا إلى أولئك. وإنما يحكمون على الجميع بأعمالهم كما كان شعار ما سُمي بـ«ثورة 17 نوفمبر» التي قادها الفريق إبراهيم عبود. وكان شعارها «احكموا علينا بأعمالنا». و«الإنقاذ» اليوم ترتضي هذا المعيار العادل. وهي تدرك تماما أنها لم تكن بمعصومة عن الخطأ ولا الخطيئة، فما من بشر، سوى الأنبياء، معصوم من الخطأ والخطيئة. لكن خصوم «الإنقاذ» لا يرون فيها إلا شرور الأعمال وسيئات الأنفس.

لا ينكر أحد من المراقبين للحال السوداني إلا أن يكون مكابرا أن اسم الإنقاذ كان مستحقا في أوانه. لأن سائر الشأن العام في السودان في عام 1989 كاد يؤول إلى مقام الصفر. فالأمن غاب وتوارى وباتت البلاد تنتقص من أطرافها. والإنتاج الزراعي وغيره توقف بالاعتصامات والإضرابات والمطالبات وعدم توفير المتطلبات له. والإنتاج الصناعي توقف بسبب انقطاع الكهرباء الدائم عن المصانع، وانعدمت السلع في الأسواق. وأصبح من عادة الناس الاصطفاف للحصول على الخبز والوقود وسائر السلع الاستهلاكية. وكان احتياطي البلاد من العملات الحرة لا يكاد يبلغ خمسة ملايين دولار. ولذلك كله لو أن الحكومة الجديدة سُمّيت حكومة «المهمة المستحيلة» لكان حُق لها.

بيد أن كل ما سلف لن يغني عن إطلالة على ما أنجزته «الإنقاذ» وما قصرت عنه في مدى حكمها الذي استمر لربع قرن من الزمان. ولأن الاقتصاد هو عماد الحياة فمنه إنما يكون الابتداء. فمن مربع يكاد يسامت الصفر انطلقت حكومة الإنقاذ لتطبيق سياسات التحرير الاقتصادي التي لم تجرؤ حكومة على تطبيقها إلا بمساندة كبرى من تحالف دولي، بدءا من «مشروع مارشال» إلى مشروع الإعفاء من الديون الأفريقية. بيد أن السودان اجترح سياسة التحرير الاقتصادي في ظل الحصار الخانق دوليا وإقليميا. وبدأ التحرير الاقتصادي بتحرير سعر الجنيه السوداني لإيقاف المضاربات التي حرمت الخزينة العامة من عائداته، ثم تحرير التجارة، ومن بعد سياسة الاستخصاص التي بدأت بقطاعات النقل والاتصالات، ثم إلى سائر المرافق الأخرى. ولقد حققت السياسة نجاحا باهرا في مجال النقل البري والاتصالات.

وارتفع الإنتاج الصناعي بمعالجة مشاكل الطاقة والكهرباء وتخفيض الضرائب ليعود فيسهم في نمو الناتج الإجمالي بنسبة مقدرة. وتوسع الإنتاج الصناعي خاصة في مجال صناعة الحديد والإسمنت والأدوية والسكر والصناعة التجميعية من السيارات إلى الإلكترونيات إلى الطائرات.

أما قطاع الطاقة فقد شهد توسعا كبيرا باستكشاف النفط والبلوغ بإنتاجه إلى خمسمائة آلاف برميل في اليوم قبل الانفصال. ومضاعفة إنتاج الكهرباء عدة أضعاف بإنشاء سد مروي وتعلية سد الدمازين وتوسيع إنتاج الكهرباء في سد سنار ومد خطوط الكهرباء إلى كل أنحاء البلاد شرقا وغربا وجنوبا، واستكمال بناء البنية التحتية للنفط ممثلة في موانئ النفط وخطوط الأنابيب. وفي مجال الطرق والجسور فقد شيد أول الجسور على النيل في عام 1898، وحتى عام 1989 كان عدد الجسور أحد عشر جسرا في مدى تسعين سنة، فيما شيدت أحد عشر جسرا أخرى خلال ربع القرن الأخير.

أما قطاع الاتصالات فقد حقق نجاحا باهرا لتبلغ التغطية على النطاق الجغرافي 89.2 في المائة. وليصبح السودان الأول أفريقيا والثاني في الشرق الأوسط في مجال الاتصالات. وشركات الهاتف الأربع بلغ مشتركوها ثلاثين مليون مشترك. وامتدت شبكة الألياف الضوئية لأكثر من اثني عشر ألف كيلومتر. وأصبح السودان الثالث أفريقيا في استخدامات الإنترنت.

وكان مجال الإنجاز الرئيس هو التنمية البشرية متمثلة في التعليم العام والعالي، فقد ارتفع معدل القبول من عمر ست سنوات من نسبة أقل من 50 في المائة إلى 67.7 في عام 2005، ثم إلى 76.4 في عام 2008، ثم إلى نسبة تقارب التسعين في المائة بعد انفصال الجنوب. كما انخفضت نسبة الأمية بصورة متوالية مع توسع التعليم العام.

وتقاربت نسبة استيعاب الذكور والإناث في التعليم الأساسي، ونشأ بقوة قطاع التعليم قبل المدرسي، وشهد التعليم العالي ثورة حقيقية، وتجاوزت مؤسسات التعليم العالي 107 مؤسسات، والحكومية منها 52 جامعة وكلية ومعهدا، والخاصة 55 جامعة وكلية ومعهدا. وبلغ عدد الملتحقين بالتعليم العالي 500 ألف طالب، ليتجاوز عدد الخريجين منهم سنويا المائة ألف خريج. ونال المجال الصحي الذي كان مهملا إهمالا ذريعا اهتماما بالغا، فارتفع عدد المستشفيات من 209 إلى 438، وعدد الأطباء العاملين بها من 2481 إلى 11722، والصيادلة العاملين بالمستشفيات من 161 إلى 1.111. وارتفع معدل الأطباء لكل مائة ألف من عشرة أطباء إلى 36 طبيبا. بيد أن أهم النجاحات في المجال الصحي هو توسيع مظلة التأمين الصحي الذي كان غائبا تماما إلى تغطية تشمل الملايين ونجاح حملات التحصين مما أدى إلى انخفاض مقدر في وفيات الأطفال بأمراض الطفولة.

أما في مجال التنمية السياسية فقد شهدت تلكم الفترة بناء النظام الفيدرالي بما حققه من نجاحات وما صادفه من عثرات، وزادت جهود الدولة في بناء السلام والمصالحات ومكافحة النزاعات الموروثة والمستزرعة بأجندات خارجية. ولا تزال الدولة تسعى من خلال مبادرات عديدة لتحقيق التوافق الوطني، وإنجاز التأسيس الدستوري الذي يتراضى عليه السواد الأعظم من المواطنين ليتحقق بذلك الاستقرار السياسي وتنفتح آفاق التنمية الاقتصادية بجذب الاستثمارات الداخلية والخارجية.

* إعلامي ومستشار رئاسي ووزير دولة سابق