هل كان دوام حكم «حركة الإنقاذ» 25 سنة في السلطة مقبولا للسودان والسودانيين؟

لا .. الغالبية العظمى من السودانيين تشاركني هذه الإجابة.. وإليكم الحيثيات

TT

الإجابة المباشرة، ومن دون أدنى تردد، هي: لا.. وأعتقد أن الغالبية العظمى من السودانيين تشاركني هذه الإجابة..! وإليكم الحيثيات:

في عام 1989 استولى تيار الإسلام السياسي على السلطة في السودان عبر انقلاب عسكري بقيادة عمر حسن البشير، فأطاح بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا، وشرع في إدارة البلاد متخذا من الإسلام غطاء أيديولوجيا لبرنامج عبر عنه بشعارات من نوع: «لا ولاء لغير الله».. و«لا تبديل لشرع الله».. و«الجهاد في جنوب السودان».. و«أميركا.. روسيا قد دنا عذابها».. إلخ. لم يكن الانقلاب سوى النتاج المنطقي والتعبير الأوضح لواقع البلاد المتأزم، وتجسّدت العلاقة بينه وبين الأزمة في التطابق القائم بين برنامج الانقلابيين وطبيعة الأزمة، وفي أن حزبهم لم يعد مجرد حزب حاكم، وإنما جعل من نفسه الدولة ذاتها. 25 سنة من عمر استقلال السودان البالغ 58 سنة، عاشها السودان، ولا يزال، تحت حكم البشير وحزبه، أوصلت الأزمة في البلاد إلى مداها الأقصى، وأصبح السودان في مأزق مأساوي حقيقي.. ونورد هنا بعضا من مظاهر هذا المأزق:

- استولى البشير على البلاد وهي موحّدة، فتسببت سياسات حكومته في انفصال الجنوب، وفي تحول السودان إلى أكبر قاعدة في العالم للوجود العسكري الدولي.

- استدامت الحرب الأهلية في البلاد لتدمر كل شيء، الإنسان والطبيعة، في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، وبقية الأطراف تشهد توترات قابلة للانفجار. وأزهقت محرقة الحرب أرواح الآلاف من شباب الوطن، وتضاعفت أعداد المعاقين، عضويا ونفسيا، وأعداد النازحين واللاجئين حيث آلاف السودانيين يبحثون عن ملاذ ومأمن لأطفالهم في أوروبا وأستراليا وأميركا.

- سيادة الإرهاب والطغيان وانتهاك حقوق الإنسان في السودان بدرجة لم تشهدها بلادنا من قبل، وبشهادة المنظمات العالمية والإقليمية والمحلية. وانتشرت في البلاد «ببيوت الأشباح» حيث التعذيب المنهجي المدروس وبأوامر مباشرة من القيادة السياسية والأمنية و«الآيديولوجية»، وليس مجرد انفلات من صغار الضباط والجنود. مدرسة جديدة، من حيث النوع، في الصراع السياسي في السودان.

- ذبح الخدمة المدنية في السودان بعد فصل وتشريد آلاف الكفاءات من عمال وموظفين ومهنيين، وحرمانهم من حق العمل، واستبدال محاسيب النظام بهم دون الاهتمام بالكفاءة أو المعرفة، والنتيجة نزيف العقول والمهارات وسواعد الشباب، وفقدان الثقة في حيدة وقومية الخدمة المدنية، بما في ذلك النظام القضائي والعدلي.

- فصل آلاف الضباط والجنود من المؤسسة العسكرية السودانية، وطمس التراث والتقاليد العريقة لهذه المؤسسة، القائمة على تأكيد وطنية وقومية الضباط والجنود السودانيين وانحيازهم في كل اللحظات الحرجة من تاريخ السودان الحديث إلى جانب الشعب وحرية السودان وتقدمه وسلامة أراضيه.

- انهيار تام في الاقتصاد السوداني وتدمير مشاريع عملاقة ظلت ركيزة أساسية لمشاريع التنمية، كمشروع الجزيرة، والسكة الحديد، والنقل الجوي، والنقل النهري.. إلخ، وفي الوقت نفسه صعود وتمكين شرائح الطفيلية الجديدة وأثرياء الحرب وسماسرة المجاعة وناهبي المال العام، من خلصاء النظام. والنتيجة: انعدام المقومات الأساسية للحياة، وانهيار الخدمات الضرورية لحياة الإنسان، كالصحة والتعليم ومياه الشرب، وتفشي المجاعة واستجداء قوت الطعام وانهيارات الطبقة الوسطى لدرجة التسول، إضافة إلى تفشي الفساد في البلاد بدرجة غير مسبوقة، وانعدام الأمن والأمان، والطفولة المشردة، وتحطم الأسر وتفسخ النسيج الاجتماعي.

- تدهور علاقات السودان الخارجية لدرجة الحصار، والدخول في شرك سياسات المحاور، وتحويل الوطن إلى مأوى وملاذ للإرهاب الأصولي، ثم الدوران 180 درجة بفتح البلاد أمام أجهزة المخابرات الأجنبية لمحاربة الإرهاب، وما بين هذا وذاك ضياع معاني السيادة الوطنية.

- فرض مشروع اجتماعي متخلف تحت مسميات «إعادة صياغة المجتمع» و«المشروع الحضاري». وهو مشروع يعكس ضيق الأفق المتمثل في رفض الاعتراف بالآخر، وفي الاستعلاء العرقي والديني، وفي فرض رؤى حزب واحد بصورة قسرية على كل البلد، والنتيجة: تفشي نعرة التعصب العرقي الأعمى، وإشاعة ثقافة القتل والقسوة، والتجنيد القسري للطلاب والشباب وإرسالهم كدروع بشرية إلى محرقة الحرب الأهلية، والموقف المتخلف تجاه المرأة، والتجهيل وتسييد الخرافة، ومحاولات طمس التراث الثقافي والفني بما في ذلك ذبح الفن والغناء السوداني..! - شهدت البلاد، ولأول مرة في تاريخها، استلابا واغترابا، ليس تجاه الدولة أو مؤسساتها فحسب، وإنما تجاه الكيان السوداني ذاته. أضف إلى ذلك ترييف المدينة، وإنهاك مؤسسات المجتمع المدني، ثم فقدان الثقة في هذه المؤسسات بما في ذلك الأحزاب، وتراجع المواطن إلى رحاب القبيلة والعشيرة بحثا عن الأمن والأمان، وما يحمله ذلك في طياته من إمكانية تصدع الدولة. وهكذا، ومن واقع هذه الحيثيات، وغيرها كثر، تسبب بقاء البشير ونظامه في الحكم 25 سنة في إصابة الوطن بحالة «دولة اللادولة».. فهل نقبل هذا الثمن؟.. كلا.. وكلا.

* قيادي يساري