هل يعني بقاء نظام البشير 25 عاما أن النموذج العسكري للإسلام السياسي أقدر على الاحتفاظ بالسلطة من نموذجه المدني؟

نعم .. بتحفظ في حالة السودان.. لكن نموذجه العسكري لن يستمر

TT

تجربة الإسلام السياسي ومدى نجاحها إذا ما قامت بها سلطة عسكرية هي تجربة ليست ناجحة في كل الأحوال، ولا في كل الأوقات، وحتى إذا كانت هذه التجربة ناجحة في السودان فأنا أعتقد أن هذا النجاح هو نجاح محدود ومحدود للغاية. أريد أن أقول إن 25 سنة بمعيار الزمن تعد فترة وجيزة نسبيا، بل وجيزة للغاية.

ولدينا أمثلة كثيرة ولتكن من السودان نفسه. لا أحد ينكر أن هناك نظما توالت على حكم السودان، وأخذت طابعا دينيا، وهي بالأساس كانت عسكرية. لكن هذه النظم فشلت، لوجود عناصر وطنية داخل القوات المسلحة السودانية.

يجب أولا أن نفرق بين سلطة تؤمن بالأديان، وسلطة أخرى تعمل على إقحام الأديان في المنظور السياسي.

وبالعودة للحديث عن نظام البشير، فإنه مهما استمر هذا النظام فأعتقد أن نهايته ستكون قريبة وقريبة جدا. وأن هناك من القوى الوطنية داخل القوات المسلحة السودانية من ينكر إقحام الدين في السياسة، وبالتالي فهي فترة، طالت أو قصرت، تستند إلى استخدام الترغيب والترهيب للاستمرار.

وحين ننظر إلى ما يحدث في الشمال الأفريقي؛ ليبيا والجزائر.. فإن الجزائر، تلك الدولة الشقيقة، مثلا استطاعت أن تصمد في مواجهة التيارات المتأسلمة، ومرت بما يسمى بالعشرية السوداء، ورغم أنها كانت «عشرية سوداء» بالفعل، فإنه كانت هناك بارقة أمل قد لاحت. وحتى لو قيل إن عبد العزيز بوتفليقة، الرئيس الجزائري، قد صوّت في الانتخابات وهو يجلس على كرسي متحرك، فإن ذلك أعتقد أنه لا يعيبه على وجه الإطلاق، ولا يعيب الشعب الجزائري الذي يرى في استمرارية النظام السياسي الذي لا يقحم الدين في السياسة الوسيلة للحفاظ على المجتمع.

كذلك أيضا ما يحدث على الأراضي الليبية بعد انتهاء عهد معمر القذافي، ووجود فلول متأسلمة داخل الأراضي الليبية، ونشهد اليوم أن القوات المسلحة الليبية تحاول استعادة الدور الوطني للدولة بقيادة القائد اللواء حفتر.

الشيء نفسه نراه في تونس.. رغم أن حركة راشد الغنوشي في تونس لها طبيعة خاصة، فإن قربها واقترابها من الإسلام السياسي جعل هذه الحركة موضع علامة استفهام، وأن هناك الكثير من المحاولات الجادة الدءوبة لاستعادة دور تونس على المستوى الدولي ودحض هذه التجربة المتأسلمة.

السودان ليست بمعزل عن كل هذه التطورات.. ولا يمكن إقحام جانب دعوي ديني على مجمل العملية السياسية خاصة في ما يتعلق بالعلاقات بين الدول. هذا لا يستمر.

ولا يمكن أيضا تجاهل الدور المصري والمتغيرات التي شهدها في الأشهر الأخيرة. وبطبيعة الحال فإن مصر، وهي قلب العروبة النابض، لها إشعاعها الفكري على المستوى العربي والمستوى الأفريقي.

وإذا قلنا إن مصر لها إشعاع فكري، فالعرب توّاقون للدور المصري، ومصر أيضا تواقة للدور العربي المساند لقضاياها.. وعلى المستوى الأفريقي أيضا، لا نستطيع أن ننكر العلاقات المصرية الأفريقية في شكلها المتبادل. ولا وجود للإسلام السياسي في مجال ممارسة السياسة على المستوى الدولي. ولا نستطيع أن نقف دون طرح علامات المباركة لتلك العلاقات المصرية مع الكونغو الديمقراطي وكينيا وغانا، لدرجة أن أبناء الزعيم كوامي نكروما كان ملاذهم بيت عبد الناصر، بعد ما حدث من انقلاب على هذه الأسرة في غانا.

فالعلاقات المصرية العربية الأفريقية علاقات ستظل قائمة. وحينما نتحدث عن السياسة في المجال الدولي فهناك قواعد أساسية يجب أن نحترمها وأن نعمل في ظلها.. وحينما نتحدث عن الدين الإسلامي كدين، فهي علاقة تجمع بين المسلم وربه، دون تدخل من بني البشر، تلك التدخلات التي لم يكن الإسلام فقط شاهدا عليها ولكن أيضا شهدتها الكنيسة في أوروبا قبل بزوغ فجر النهضة.

وعلى ذلك فإنني أرى أن حركة الإسلام السياسي في السودان، طال المدى أو قصر، حركة مؤقتة وسوف تنتهي، ومن الأفضل أن يبادر القائمون على الحركة من الآن، وتجنبا لأي مشاكل يتعرض لها القطر الشقيق، أن يبادروا بخلع عباءة الدين من الممارسة السياسية، وليحتفظ كل مسلم بعباداته وإيمانه بينه وبين ربه. أما ممارسة السياسة فلها أصولها وتقاليدها وعاداتها وأعرافها. وهي بعيدة كل البعد عن العلاقة التي تربط العبد بربه، فهي علاقة خاصة جدا.

لقد كانت هناك تكلفة لاعتناق الإسلام السياسي، ومحاولة تطبيقه على شعب دولة هي جمهورية السودان، حيث معروف أن غالبية الجنوب يدين بمعتقدات تقليدية، ولا تستطيع أن تفرض عليه قيما إسلامية في ممارسة طقوس حياته. والغريب في الأمر أن أول من شجع على فصل الجنوب عن الشمال هم مسؤولو الشمال ذاتهم، الذين ينتمون للإسلام السياسي.

* أستاذ بجامعة القاهرة وخبير في معهد الدراسات الأفريقية