هل يعني بقاء نظام البشير 25 عاما أن النموذج العسكري للإسلام السياسي أقدر على الاحتفاظ بالسلطة من نموذجه المدني؟

لا .. لا بد من مقاربة الإسلام من منظور تاريخي يعترف بالمتغيّر والمتحوّل

TT

لقد قطعت الدولة الحديثة التي تشكّلت في أوروبا مع قواعد شرعية السلطات القديمة التي كانت تستند إلى المقدس والمتميز والنبيل، فاعتمدت على الناس في وجودهم العيني الملتبس والمتباين والمتعدد، الذي توحد في مفهوم الشعب.

والشعب صار مصدر السلطات جميعها ومعيارا محددا للسلطات من زاوية درجة شرعيتها - أو عدمها - التي تتعيّن بإجراءات مثل: فصل السلطات واعتماد الانتخابات العامة لتمثيل الشعب في هيئة تشريعية رقابية، إضافة إلى حرية تشكيل الأحزاب والمنابر الإعلامية.. إلخ. هذا الذي انتقل إلى سياقات تاريخية غير السياقات التي أنتجتها فاخترقتها وأعادت تشكيلها.

لعل السمة الأهم للأنظمة الانقلابية التي وُلدت في منطقتنا العربية، هي غياب هذه الشرعية استنادا إلى هذا المفهوم، خصوصا أن هذه الأنظمة لم تمتلك مشروعها الوطني ولا رؤيتها الناجزة للنهوض بالمجتمعات التي أنتجتها، الأمر الذي دفع عموم هذه الأنظمة للاستناد إلى الطغيان ومصادرة الحريات وقمع قوى المجتمع كي تستمر في سيطرتها، ومحاولة سد الثغرة الناجمة عن غياب شرعيتها، من خلال ابتكار مرجعيات تحمل هالة القداسة الأمر الذي يجعل من نقاشها ما يشبه الخيانة ويمكن محاكمته، فاخترعت المعارك الكبرى (فوق الوطنية) كالصراع مع الإمبريالية العالمية والصراع العربي الإسرائيلي.. وأيضا اخترعت صيغة الحكم المقدسة في البلدان التي كانت بعيدة عن مثل هذه النماذج من المعارك، فأُعطيت السلطة طابع القداسة بربطها بالدين (تفويض من الله). من هنا يمكننا فهم انتشار الإسلام السياسي كظاهرة في كل البلدان العربية وعلى كل مساحتها كطريق للاستيلاء على السلطة، والتخلي بالتالي عن الصيغ الحديثة لانبثاق آليات الحكم المتناسبة مع حاجات المجتمع وكمحصلة لتفاعل قوى هذا المجتمع.

لا يختلف الإسلام السياسي بكل أشكاله التي عرفتها المنطقة العربية - وغيرها - كثيرا عن بعضه، فهو يعتمد أساسا على مرجعيات يمكن لأي سلطة سياسية أن ترى فيها ما يناسبها. وتشكل الحالات الاستثنائية في هذه التيارات تمايزها من بوابة اقترابها أو ابتعادها عن الصيغة الحقيقية للشرعية، ففي تركيا مثلا جرى العبور إلى السلطة من بوابة الشرعية الشعبية، الأمر الذي أعطى هذه السلطة قدرة على الاستمرار وأبقاها داخل دائرة الخضوع لهذه الشرعية. أما في المنطقة العربية فإن العمل على تزوير هذه الشرعية أو خلقها بقوة جعل السلطة في هذه البلدان مأزومة ومحكومة فقط باستمرارها باستعمال القمع والطغيان، ولهذا فهي تعتمد على هذه الصيغة أو تلك على الجانب العسكري، وبناء عليه يغدو تزاوج السلطة السياسية مع العسكرتاريا أمرا لا بد منه لإحكام السيطرة على المجتمع.

عام 1988 قامت الجبهة الإسلامية (السودان) بعد سلسلة طويلة من الأحداث والانقلابات بانقلاب عسكري باسم «ثورة الإنقاذ الوطني». هذا الانقلاب الذي يعتبر منذ لحظته الأولى شكلا من أشكال الإسلام السياسي العسكري الذي اتسم ككل حركات الإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي بابتعاده عن المضمون الاجتماعي للإسلام أو عن تطويره بما يتناسب مع حاجات المجتمع ومع التطور الذي وصلت إليه البشريّة، فاختزل الإسلام في العقوبات والحدود، وحارب التيّارات الديمقراطيّة المستنيرة في الإسلام التي تدعو إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وغير ذلك. وبالتالي. وهكذا، أدخل السودان في مأزق بالغ الخطورة، وليس التقسيم الذي حصل فيه والذي أدى إلى انفصال الجنوب وحرمان السودان الموحّد من إمكانيّات اقتصاديّة كفيلة بإنشاء دولة قادرة على النهوض والتطور هو نهاية المطاف، لا بل ثمة مأزق أشد خطورة لا يزال السودان يواجهه.

من هنا يأتي السؤال الأهم والذي يمكن تكثيفه بالتالي: هل يمكن للإسلام السياسي بوجهيه المدني والعسكري النهوض بمتطلبات وإدارة الدولة والسلطة بمفهومها الحديث ومتطلباتها؟ إذا جاز لنا أن نتجاوز خطاب الأحزاب التي تتبنى الإسلام مشروعا والتي تتلعثم بمفاهيم حديثة لها اشتراطاتها واستحقاقاتها مثل: الشعب، والديمقراطية، والانتخابات، وتداول السلطة، التي تفشل دائما في تحويلها إلى ممارسة، والتي فشلت في كل التجارب التي حاولتها وتمكنت منها من تظهير الشعب واحترام سيادته إلى تجاوز الاستخدام البراغماتي للديمقراطية ووسائلها في الوصول إلى السلطة لكي تصير ثقافة وممارسة تعترف بالاختلاف والتباين فتحترمه وتصونه وتغنيه. إن مأزق الأحزاب الإسلامية لا يمكن معالجته إلا إذا قاربتْ الإسلام من منظور تاريخي يعترف بالمتغيّر والمتحوّل بتحوّل الأحوال فيكون ثقافة كما هو في بدئه، وإلا إذا تعاملت مع السياسة كشأن دنيوي لا يمكن اختصار نماذجه في كتاب.

إن توظيف المقدس المتعالي في المتعين التاريخي يعني سحق الإنسان في وجوده وحاجاته لصالح المجرد الذي تستخدمه وتوظفه مصالح نزّاعة للتحقّق والتمكّن من سلطة دنيوية تعجز بطبيعتها أن تكون عادلة وإنسانيّة، إلا إذا اعترفتْ بالمختلِف وثقلِ حضوره الإنساني الذي لا يمكن طمسه أو جزّ عنقه أو يده.. والذي هو منطق الدولة في تشكُّلها ونموّها التاريخيّ.

* معارض سوري