هل توجد لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» استراتيجية واضحة للسيطرة على شمال المشرق العربي؟

لا.. «داعش» حركة غامضة أفرزتها الظروف وخدمها غُبن المكون السني العراقي

TT

«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) منظمة إرهابية أفرزتها الظروف التي أعقبت الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، حيث حلّت هناك محل «القاعدة» التي قضى عليها الاحتلال بالتعاون مع الصحوات العشائرية العراقية، التي ضاقت ذرعًا بتسلط «القاعدة»، بمجيء نوري المالكي إلى سدة الحكم رئيسا لحكومة العراق. والمالكي حقًّا ما كان إلا رئيسا لِطَيف واحد من الشعب العراقي هو الشيعة، وما كان له حظ بتولّي الحكم لولا الدعم غير المحدود له من قبل إيران التي غدت صاحبة الكلمة العليا في تسيير أمور الحكومة العراقية. وقامت سياسة المالكي تجاه عشائر العرب السنّة على التهميش والإقصاء وقطع المخصصات والتضييق على مصادر أرزاقهم. وعندها بدأت تظهر بوادر تكوين ما بات يعرف بـ«دولة العراق الإسلامية».

ومع بداية اندلاع الثورة السورية عام 2011 التي بدأت سلمية، ومواجهة النظام هذه الثورة بالسلاح ومنع المجتمع الدعم عن الثوار، أصبحت الساحة السورية مفتوحة أمام الكثير من المنظمات الجهادية الإسلامية بما فيها تلك المصنفة بـ«الإرهابية» بحجة مناصرة الشعب السوري ضد نظام يقتل شعبه. بين هذه المنظمات «داعش».

نشأة «داعش» لا يزال يكتنفها الغموض وكذلك الجهة التي تقف وراءها والأهداف التي تعمل لتحقيقها. هناك اعتقاد بأنها صنيعة مخابرات دولية أو إقليمية وثمة أطراف متعددة متهمة بصناعتها. البعض يعتقد ولديه دلائله بأنها صنيعة إيرانية - سورية.. ومن الأدلة وقوفها بجانب النظام السوري ومحاربتها خصومه كـ«الجيش الحرّ» وبعض المنظمات التي كانت حقًّا تحارب النظام، ومنها أن النظام لم يضرب أيا من قواعد «داعش» داخل سوريا...إلا بالأمس بعد دخولها لشمال العراق، فقام الطيران السوري بضربها في القائم.

أيضا هناك من يرى أن «داعش» صناعة تركية ربما لتوظيفها في مشروعها الإسلامي لإعادة دولة الخلافة، لكننا نجد أن تركيا - بعدما استشعرت خطرها - صنفتها كمنظمة إرهابية، بينما في بداية نشأتها كان معظم من يجند في صفوفها من أوروبا ومن مناطق أخرى يلتحقون بها مستفيدين من التسهيلات التي كانت تقدمها لهم تركيا. وهناك من يعتقد أنها تحصل على تموينها من قطر، بالتنسيق مع تركيا، ربما نكاية بالأطراف التي ساهمت في تقويض حكم الإسلام السياسي. وهناك إيران وأتباعها في بغداد ودمشق والضاحية الجنوبية في بيروت، يتهمون السعودية بأنها من خلق «داعش» ويدللون على ذلك بوجود بعض السعوديين المغرّر بهم في صفوفها، ولكن الرد على مثل هذا الاتهام هو ما أصدرته الحكومة السعودية منذ فترة من قانون اعتبرت «داعش» منظمة إرهابية ومحاكمة كل سعودي يشارك في القتال معها. وأخيرًا، هناك حتى من يعتقد بأنها صناعة أميركية.

المجتمع الدولي والارتباك في السياسات لدى صانعي القرار في العواصم الكبرى والتحيّز الروسي والصيني، ومعهما إيران «الفاعل الأكبر» لكل ما يحدث في سوريا من جرائم، هو ما جعل سوريا ساحة لكل أنواع الإرهاب. إذ لو وقف المجتمع الدولي ومجلس الأمن الدولي إلى جانب الثوار السوريين منذ الشهور الأولى من قيام ثورتهم السلمية لما أصبحت سوريا مسرحًا لكل أنواع الإرهاب، بما في ذلك إرهاب الدول والأنظمة. فنظام الأسد يفعل في الشعب السوري والمدن السورية والثقافة والحضارة السورية أشد ما تفعله تلك المنظمات الإرهابية مجتمعة، يسانده في أعماله الإرهابية إيران وروسيا ومعهما الصين.

ولكن، فجأة، يوم 29 يونيو (حزيران) 2014 صحا العالم على حملة «داعشية» احتلت خلال ساعات كل شمال وغرب العراق أو ما يوازي 60 في المائة من مساحة البلاد، وكانت الدهشة الكبرى لكل العالم استسلام جيش نوري المالكي، وهو بالآلاف، ومزوّد بالعتاد والعدة أمام بضع مئات من مقاتلي «داعش». نعم، كل الدلائل تشير إلى أنه ما كان هذا العدد القليل ليهزم جيشًا بضخامة جيش المالكي لو لم تكن له أرض صلبة يقف عليها، وحاضنة جماهيرية من أهم مكوّنات الشعب العراقي وهم عشائر وقبائل وكل سكان المكوّن السني... الذي هُمّش وأُقصي منذ احتلال أميركا - وظهيرها إيران - العراق عام 2003.. مع مَن جاء على ظهور الدبابات الأميركية والإيرانية. هؤلاء هم مَن يحكم العراق الآن وعلى رأسهم المالكي الذي لم يتوانَ في إلحاق الأذى بالمكوّن السني وتهميش دوره السياسي وسلبه حقوقه، متناسيًا أو متجاهلا أن أعدادًا كبيرة من منسوبي الجيش العراقي قبل حله... من أبناء قبائل وعشائر وأهل محافظات الأنبار وصلاح الدين وتكريت وغيرها من المناطق الشمالية. وهؤلاء يناصرون «داعش» لا حبًّا بها، بل كرها بحكومة المالكي التي أذاقتهم أنواع العذاب وأهملت مطالبهم طيلة أكثر من سنة... كانوا يطالبون خلالها بحقوقهم بالطرق السلمية.

هنا وجدت حكومة المالكي نفسها في مأزق وحرج، وشعرت بالخوف أن من استطاع أن يستولي على كل شمال العراق خلال ساعات لقادر على بلوغ بغداد خلال أيام. ومن هنا بدأت أنظار العالم تتجه إلى ما يحدث في العراق وبدأت صرخات استنجاد حكومة المالكي بحليفته وصانعته أميركا، والتهديد بطلب التدخل الإيراني إن لم يأتِ الأميركان للدفاع عن نظامه الطائفي.

الآن ماذا تريد «داعش» بعدما أشعلت شرارة الثورة الجماهيرية في شمال العراق وغربه، التي لا أعتقد أن المالكي قادر على إخمادها.. ما لم يعد النظر في كل العملية السياسية التي بنيت على غير هدى مباشرة بعد الاحتلال الأميركي؟

«داعش» مصدر قلق لكل المنطقة، فالآن لا أحد يعرف هي مع مَن وضد مَن، وهي أصبحت مصدر تهديد لكل ما هو قائم من أنظمة سنية أو شيعية، كونها تريد أن تخلق لها نظامها الخاص بها. ولكن في المقابل، لا أحد يعرف ماذا تريد. أو ما فلسفتها أو تصورها لمستقبلها إذا كان لها فلسفة. وهي حتى إن قالت إنها تريد إقامة «دولة الخلافة» لا أحد يعرف تلك الخلافة التي تحلم بإقامتها. لقد رسمت لنفسها خريطة تريد أن تقيم عليها دولتها تمتد من حلب شمالاً إلى البصرة جنوبًا، واختارت المنطقة ذات الطبيعة الجغرافية المختلفة والمأهولة في غالبها بالعشائر العربية. وهي قد ترى أنها وجدت أرضية متفقة مع بعض أفكارها ورؤاها مستلهمة التاريخ الموغل في قدمه... ووضع تلك العشائر التي تحسّ بأنها دائما تعيش على الهامش والآن تبحث لها عن دور. وقد يكون البعض وجد أن «داعش» هي من يحقّق لهم ما حرموا منه على مدى قرون. وربما بإقامة هذا الحزام العشائري الممتدّ على مساحة هذه الرقعة الجغرافية ذات الأغلبية السنّية تقطع الطريق على ما تحاول إيران بناءه، أي ذلك «الهلال الشيعي» الممتدّ من قُم فبغداد فدمشق فجنوب لبنان.

ختامًا، يطل الغموض الذي يحيط بطبيعة هذه الظاهرة «الداعشية»، التي لا يعرف العالم عنها إلا أنها منظمة إرهابية تعتمد العنف والغلو والقتل. وهذه أعمال لا يقبلها عقل ولا دين ولا أي مجتمع متحضر، وستجد نفسها في مواجهة مع المجتمع... ما سيؤدي بها إلى النهاية وتبقى حدثًا عابرًا في تاريخ نشوء الحركات المتطرفة التي كثيرا ما شهدتها هذه المنطقة على مرّ تاريخها.

* عضو سابق في مجلس الشورى السعودي – أكاديمي وباحث.