وهل ترى تقاطع المصالح والحسابات الإقليمية عاملاً ذا تأثير مباشر وراء البروز المفاجئ لـ«داعش»؟

لا.. نتاج حالة تنظيمية لها ديناميكيتها.. وإن كانت استفادت من الظروف الإقليمية

TT

«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) هي امتداد لـ«الدولة الإسلامية في العراق» التي أسسها أبو عمر البغدادي (حامد داود الزاوي) يوم 15 أكتوبر 2006. وفي 19 أبريل 2010 بعملية «وثبة الأسد» قتل أبو عمر البغدادي ووزير الحرب أبو حمزة المهاجر، وخلال أقل من شهر جرت مبايعة أبي بكر البغدادي (إبراهيم عواد إبراهيم البدري السامرائي) «أميرًا» لـ«الدولة الإسلامية في العراق». وعندما قرّر أبو بكر البغدادي دخول سوريا بدأ أولاً بإرسال الدعاة الذين كان لهم أثر في إحداث الحماسة وإنهاض روح الجهاد والقتال ضد نظام بشار الأسد. وأسسوا خلايا نائمة مؤيدة لـ«دولة العراق الإسلامية» وكان على رأس هذه المجموعة المدعو أبو محمد الجولاني (عدنان الحاج علي) وأبو عبد العزيز القطري (محمد يوسف الفلسطيني).

ومن ثم بدأت عناصر «دولة العراق الإسلامية» القتال ضد الجيش السوري في حادثة جسر الشغور المشهورة، التي كانت أول شرارة في تحوّل الثورة السورية من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة. وبعدها اختار هؤلاء منطقة الشرق السوري التي تعتبر محصنة ومشابهة لجغرافية الموصل والأنبار في العراق، ما ساعدهم على الصمود ومسك الأرض.

ومع مرور الوقت أصبح هذا الحضور لعناصر التكفيريين وأفراد «دولة العراق الإسلامية» عاملاً مهمًّا لاستنزاف الجيش السوري.

في بداية عام 2012 كثرت الانشقاقات في فصائل المعارضة لحكم بشار الأسد، وفي الجانب الإسلامي والليبرالي على حد سواء، وكان منها إعلان جبهة النصرة بقيادة الجولاني.. الأمر الذي دفع البغدادي إلى إعلان تأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) يوم 8 أبريل 2013 كردة فعل ضد إعلان الجولاني، وتمرد منه على «قاعدة الجهاد العالمي» (أي «القاعدة») التي يقودها الظواهري. ومنذ ذلك الوقت عمدت «داعش» وأنصارها إلى أعمال استراتيجية، أبرزها:

- فرض البيعة لأميرها البغدادي على كل من يحمل السلاح ضد الأسد في الجبهة السورية.

- بسط نفوذ «داعش» والإكثار من فروعها على امتداد العالم الإسلامي، حيث يحاول البغدادي تقليد أسامة بن لادن في تعديد فروع «داعش» على غرار فروع «القاعدة»... - الاعتماد على التمويل الذاتي من خلال السيطرة على آبار النفط في الشرق السوري وآبار الرقة والزملة والطبقة وما حولها، وكذلك حقل الثورة وحقول الجبسة وحقل كونيكو وحقول الجفرة... بالإضافة إلى السيطرة على مخازن الحبوب في سوريا وأخذ الإتاوات من قطع الطرق، وأخذ الفديات من الصحافيين الأجانب والتجار وشركات النقل الخاص بمنتجات النفط في العراق وسوريا، وتهريب الآثار السورية، والمتاجرة بالسلاح المحرّم دوليًّا.

- اعتمد البغدادي على «المجلس العسكري» الذي يقوده ضباط من ذوي الخبرات العسكريّة والميدانية، الذين استعملوا تكتيك فتح جبهات قتالية متعددة في آن واحد، لتشتيت تركيز قوات الخصم، وقسموا جنودهم في كل ولاية إلى قسمين، الأول هو «كتيبة النخبة الانغماسية» للقتال المباشر، وهي المسؤولة عن اقتحام الثكنات العسكرية والمراكز الأمنية والقرى والمدن.

والثاني هو الخلايا المحلية النائمة التي تستيقظ حين تفرغ مناطقهم من الوجود الأمني والعسكري بفعل «الكتيبة الانغماسية»، حيث يتوجب عليهم مسك تلك المناطق أمنيًّا وإداريًّا.. وهذه الاستراتيجية جعلت تنظيم «داعش» من أغنى التنظيمات الجهادية التكفيرية في التاريخ المعاصر، وقبلة المقاتلين العرب والأجانب..!! كل هذا مكن البغدادي في مطلع عام 2014 ومع بداية معارك الأنبار من إجراء تغييرات جوهرية في الهيكل التنظيمي لـ«داعش»، حيث جعل ولاة الولايات فيها كلهم يلقب بـ«نائب البغدادي على الولاية»، وأعطى لكل نائب صلاحيات واسعة للاجتهاد والعمل من دون الرجوع إليه، واعتمد على ضباط الأمن والعسكر في الأنظمة السابقة ممن تغيّروا فكريًّا إلى فكر «داعش»... وبسبب الأموال الكثيرة ازداد عديد مقاتلي «داعش» بمقدار الضعفين.. وتقدمت عملياته.

وبعد هزيمة الموصل في العاشر من يونيو استعار البغدادي من التاريخ استراتيجية حركة طالبان أفغانستان في الوصول إلى الحكم وإقامة الدولة الإسلامية، ذلك أن «داعش» عززت من قدرتها على السيطرة على الأراضي السنّية والاحتفاظ بها، وإلى الآن لم تفرض بيعة البغدادي على العشائر والأعيان والشخصيات الدينية والسياسية السنّية ولم تتقاتل مع الفصائل السنية في المنطقة.

هذه الاستراتيجية لـ«داعش» أثمرت مجموعة من النتائج، وما تحقق منها على أرض الواقع:

- نجاحها في إقناع عامة سنّة العراق أنها هي «المخلص» و«المنقذ»، على الرغم من المعارضة الإقليمية الشديدة لـ«داعش».

- نجاحها في استقطاب مقاتلين عرب وأجانب للقتال في العراق، ومن قرابة 21 دولة من أفريقيا وآسيا وأوروبا، بعدما غادروا العراق نحو سوريا.

- نجاحها في «إقناع» الرأي العام العالمي أنها ليست وحدها من يقتل في الساحات السنّية.

- منحها كل الحريات للأقليات في نينوى، بهدف خلق أجواء من الطمأنينة.

- نجاحها في سحب الرئيس الأميركي باراك أوباما مرة أخرى إلى العراق، وأرجعت قضية الجهاد المقدس ضد التحالف الصليبي.

- إطاحتها بهيبة الميليشيات العراقية والتشكيلات غير النظامية الساندة لها.

- وضعها إيران على المحك في خوض معركتها الطائفية مع السنة العرب في أرض العراق.

* باحث عراقي في الشؤون الأمنية والجماعات المسلحة