مؤسس كتائب الأقصى قضى 34 عاما من عمره في مقارعة الاحتلال

العقيد جهاد العمارين تيتم في سن الخامسة واعتقل في الـ15 واغتالته إسرائيل في الـ48

TT

يكاد سرادق العزاء يضيق على سعته بالاعداد الغفيرة من الناس التي اصرت على القدوم للتعزية في مقتل جهاد العمارين مؤسس وقائد كتائب شهداء الاقصى، الجناح العسكري لحركة «فتح» في قطاع غزة الذي اغتالته القوات الاسرائيلية مساء يوم الخميس الماضي بتفجير السيارة التي كان يستقلها في حي النصر شمال مدينة غزة. وكانت غزة قد خرجت عن بكرة ابيها للتعبير عن حزنها بفقدان العمارين الذي كان محط اعجاب عناصر جميع الفصائل الفلسطينية فضلا عن عامة الناس. واذا كان هناك من تنظيم مقاوم ارتبط بجهود شخص بعينه، فهو «كتائب شهداء الاقصى»، فلو لم يكن كل ما يروى عنه حقيقة، لكانت حياة العمارين النضالية قصة خيال لبطل اسطوري في عالم آخر.

فهذا الرجل الذي ولد عام 1954، فقد والده عندما كان طفلا لم يتجاوز الخامسة من عمره، وعندما بلغ الخامسة عشرة من العمر، ولما كان الشعب الفلسطيني والامة العربية لا يزالان تحت اثر صدمة هزيمة عام 1967 انضم هذا الفتى الى مجموعات الفدائيين. ورغم سياسة البطش والتصفية التي كان يتبعها قائد المنطقة الجنوبية والمسؤول عن قطاع غزة في ذلك الوقت الجنرال ارييل شارون رئيس الوزراء الحالي ضد كل صور المقاومة الفلسطينية، نجح العمارين في تنفيذ عملياته ضد لواء المظليين في جيش الاحتلال بقيادة الجنرال مئير دجان الذي يعتبر الآن مستشارا لشارون ومرشحا لتولي منصب رئيس جهاز الموساد خلفا لابراهام هاليفي.

اعتقل العمارين اواخر عام 1970، ونظرا لانه كان حدثا فقد حكمت عليه المحكمة العسكرية في غزة بالسجن لمدة عامين. افرج عن العمارين عام 1972، لكنه باشر العمل المسلح بعد ايام من اطلاق سراحه وظل يمارسه في اطار قوات المقاومة الشعبية وبعد ذلك في اطار حركة فتح. واعتقل العمارين مجددا عام 1973 ولكن هذه المرة حكم عليه بالسجن 12 عاما. وفي عام 1985 افرج عنه في اطار صفقة تبادل اسرى بين اسرائيل والجبهة الشعبية ـ القيادة العامة التي يتزعمها احمد جبريل، وابعدته قوات الاحتلال للخارج. وتوجه الى اوروبا ومنها للاردن وهناك تزوج لكنه عاد للعمل التنظيمي المقاوم، ومن الاردن عمل على تنظيم العمليات العسكرية ضد الاهداف الاسرائيلية، فأوجد لاول مرة تنسيقا عسكريا بين فتح وحركة الجهاد الاسلامي، وهي الفصيل الاسلامي الوحيد الذي كان يتبنى العمل المسلح في ذلك الوقت. واطلق على المجموعات التي شكلها العمارين «سرايا الجهاد» التي نفذت اول عملية فدائية عام 1986 ضد جنود من لواء جولاني كانوا يؤدون قسم الولاء في ساحة البراق التي يطلق عليها اليهود حائط المبكى في البلدة القديمة في القدس المحتلة، ادت الى اصابة 77 جنديا. وفي نفس العام ارسل العمارين مجموعة من الفدائيين تسللت عبر نهر الاردن الى الخليل حيث نفذت عملية «الدبويا» وهي منطقة في وسط البلدة القديمة في الخليل وتشكل احدى البؤر الاستيطانية فيها التي قتل فيها ستة من المستوطنين، وكانت اول عملية كبيرة ضد الوجود الاستيطاني في الخليل. ونظرا للقدرات التي اثبتها افراد الخلية في تجاوزهم للانظمة الامنية العسكرية الاسرائيلية، اصر وزير الدفاع والخارجية الاسرائيلي الاسبق الجنرال موشيه ديان على التقاء افراد الخلية في معتقلهم في سجن نفحة الصحراوي، وقد عقد معهم ثلاثة لقاءات كرر فيها اعجابه بهم.

وكان يشارك العمارين في قيادة العمل المسلح من الاردن حمدي البحيصي وابو حسن (باسم التميمي) ومروان الكيالي، وقتل هؤلاء الثلاثة في عملية اغتيال دبرها جهاز المخابرات الخارجية الاسرائيلي (الموساد). ويوضح ابن عم العمارين ومرافقه كمال العمارين لـ «الشرق الأوسط» انه عقب اغتيال زملائه في قيادة المجموعة في قبرص اعتقلته السلطات الاردنية لمدة شهرين ثم فرضت عليه الاقامة الجبرية، ففر الى العراق في شاحنة لنقل القمح وكان مختبئا تحت القمح حتى كاد يختنق لولا عناية الله. وفي احدى زيارات الرئيس الفلسطيني الى العراق غادر معه الى تونس. وهناك لم يسقط العمارين الراية، اذ عمل على تأطير الشباب الفلسطيني في خلايا ويرسلهم للعمل في الاراضي المحتلة. ويضيف كمال ان جهاد حاول العودة لغزة متسللا عبر الحدود المصرية عام 1991 لكن السلطات المصرية اعتقلته واستمر اعتقاله لستة اشهر عاد بعدها الى تونس.

ولدى تشكيل السلطة الفلسطينية حاول العمارين العودة الى غزة كمسؤول عن قوات منظمة التحرير التي كانت تتمركز في تونس، الا ان اسرائيل رفضت بشدة السماح له بالدخول، فاصطحبه معه عرفات في سيارته الخاصة عندما وصل لاول مرة الى غزة، الا ان اسرائيل اصرت على عودته، وكادت تصدر قرارا بمنع تحركات عرفات، فاضطر جهاد العمارين لمغادرة غزة بعد 48 ساعة على عودته اليها متوجها الى مصر وهناك اعتقلته السلطات المصرية مجددا، وابعدته الى تونس التي رفضت سلطاتها السماح له بالدخول فتوجه للجزائر مستخدما جواز سفر كان الراحل خليل الوزير (ابو جهاد) الرجل الثاني في فتح، قد زوده به لاستخدامه في اوقات الطوارئ.

لم يتوقف العمارين عن محاولاته للعودة الى ارض الوطن، ففي فبراير (شباط) 1996 حاول العودة الى قطاع غزة عبر الحدود المصرية بجواز سفر مزور لكن سلطات الاحتلال اكتشفته مجددا فاعادته الى مصر وهناك اعتقل مجددا، لكنه عاد بصورة رسمية في شهر ابريل (نيسان) من نفس العام كعضو في المجلس الوطني الفلسطيني للمشاركة في اجتماعات المجلس.

ويقول كمال ان عرفات خيره في تبوؤ المنصب الذي يختاره في اجهزة السلطة، فعمل في اطار المباحث الجنائية برتبة عقيد، لكنه اختلف منذ اليوم الاول مع قيادة الشرطة بسبب تصرفات هذه القيادة، فنقل الى ادارة عمليات الشرطة وهناك حدث نفس الامر. فقرر ترك العمل في اجهزة السلطة، ورفض الارتهان للعمل في مؤسساتها، في حين يرى ان الاحتلال ما زال جاثما على صدر شعبه. فتوجه العمارين لتشكيل جهاز عسكري لحركة فتح في قطاع غزة في مطلع عام الفين كان نواة «كتائب شهداء الاقصى»، ووقعت اول عملية نفذتها «كتائب شهداء الاقصى» تحت إمرة العمارين في مارس (اذار) من نفس العام، اذ نصب فدائيو الكتائب كمينا لدورية عسكرية اسرائيلية اوقع قتيلين. وكانت العملية الثانية في شهر ابريل (نيسان) حيث قتل اربعة جنود على طريق «كارني نيتساريم» شرق غزة، واوقعت العملية الثالثة اربعة قتلى وذلك في اغسطس (آب) من نفس العام، أي قبل شهر من اندلاع انتفاضة الاقصى.

في اعقاب هذه العمليات اعتقله الامن الفلسطيني، وذلك بعد حملة ضخمة من حكومة اسرائيل ضد السلطة بدعوى غض الطرف عن انشطة العمارين. واندلعت انتفاضة الاقصى بينما كان العمارين في المعتقل الفلسطيني، واثناء سجنه اخذت اسرائيل تتهمه بالاتصال «بحزب الله». وافرجت السلطة عنه بعد عملية قصف جوي شهدتها غزة في اكتوبر (تشرين الاول) من عام الفين ليعاود نشاطه فورا. بعدها عمل لاول مرة على التنسيق بين خلايا «كتائب شهداء الاقصى» في غزة وعناصر فتح في الضفة الغربية لكي يبادروا الى تشكيل مجموعات لـ«شهداء الاقصى» ايضا هناك، وشكلت قيادة مشتركة للكتائب في الضفة والقطاع الى جانب تنظيم الخلايا المسلحة، وكان جهاد يقوم شخصيا بعمليات رصد تحركات جيش الاحتلال وتحديد واختيار الاهداف وكان يحرص على متابعة سير العمليات بدءاً من انطلاق عناصر الخلايا وحتى عودتهم الى قواعدهم إن عادوا سالمين، كما يقول رفاق دربه، وقد اعتقلته الاجهزة الامنية الفلسطينية مجددا في اكتوبر من العام الماضي، وقد افرج عنه بعد شهر.

ويؤكد المقربون منه انه عاد في اواخر ايامه للتنسيق مع حركة الجهاد، حيث نفذ رجاله عملية مشتركة مع سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الاسلامي استهدفت احدى نقاط الحراسة لمستوطنة نيتساريم حيث قصفها بقذائف الآر بي جي والهاون وادت الى مقتل جنديين اسرائيليين.

والعمارين شخصية كاريزماتية محبوبة جدا وذو حضور اجتماعي ايضا في الهامش الذي تسمح بها الاحتياطات الامنية حيث انه عاش مطاردا من قبل قوات الاحتلال، وكان يقوم بزيارة اسر الشهداء والجرحى.

كان يأخذ كل الاحتياطات الامنية ولا ينام في بيته ويبعد عن اسرته الى ان استطاع الجيش الاسرائيلي اغتياله بتاريخ 4 يوليو (تموز) .2002 وتدور الشبهات حول سائق السيارة التي كان يستقلها ليلة عملية الاغتيال، اذ كان هذا السائق قد اختفى عن الانظار منذ لحظة تنفيذ العملية. وسقط جهاد تاركا وراءه خمسة بنات وولدين.