ضياء الدين داود لـ«الشرق الأوسط»: لا أرى مسالب للثورة مقارنة بالمكاسب التي حققتها .. عبد الحكيم عامر قائد مهزوم لماذا يقتلونه ليرثوا عنه الهزيمة

محمد نجيب كان مجرد واجهة للثورة وأراد أن ينهي دورها بتغيير الملك * كل ما أقامته ثورة يوليو مازال صامدا يواجه التحديات

TT

مازال الحزب الناصري بزعامة ضياء الدين داود (رئيس الحزب) يحاول الصمود أمام رياح التغيير، فمازال الرجل والحزب كلاهما يحمل على عاتقه تلك الأفكار التي قامت من أجلها ثورة يوليو منذ 50 عاما، وان بدا الأمر في بعض الأحيان كأنه محاربة لطواحين الهواء في زمن سقطت فيها كثير من هذه المبادىء بحكم تغير الزمن واختلاف بوصلة التوجهات وتأثير قوى سياسة أخرى.

كل ذلك جعل دور الحزب محدودا لا يتوافق مع أفق الشارع المصري، وجعل البعض ينظر إليه على انه أحد مخلفات عصر مضى، وان الناصرية بحزبها أقرب ما تكون الى مصانع القطاع العام (الحكومي) التي أحاط بماكيناتها الصدأ الى الدرجة التي جعلتها صيدا سهلا لما يعرف باسم «الخصخصة»! الغريب فعلا ان الحزب الوحيد الذي كتب له ان يرفع أعلام الناصرية على أفكاره ومبادئه يبدو وكأنه حزب بائس، أنهكته الصراعات والخلافات الداخلية وتحول في ذكرى مرور 50 عاما على الثورة الى رجل عجوز لا يقوى على مواصلة السير والدفاع عن مكتسبات الثورة ومبادىء زعيمها.

وفي ذكرى مرور 50 عاما على ثورة يوليو أجرت «الشرق الاوسط» هذا الحوار مع ضياء الدين داود الرجل الذي يحتل قمة القائمة الناصرية. تاريخ ضياء الدين داود في العمل السياسي فرض عليه هذا الولاء المطلق لعبدالناصر وثورة يوليو، فعندما قامت الثورة كان خريجا حديثا في كلية الحقوق، فقد أنهى دراسته عام 1949 وكان عمره وقتها 26 عاما، والتحق سريعا بتنظيمات الثورة، وفي عام 1964 انتخب عضوا في مجلس الأمة، ثم عين عام 1965 أميناً للمكتب التنفيذي للاتحاد الاشتراكي بمحافظة دمياط مسقط رأسه، وفي مارس 1968 اختاره عبدالناصر في وزارته التي شكلها وزيرا للشؤون الاجتماعية ووزيرا للدولة لشؤون مجلس الأمة، وعندما تم اختياره عضوا للجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي في اكتوبر 68 ترك منصبه الوزاري وتفرغ لمهمته الجديدة، وانتخب فيما بعد عضوا في المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي، وبعده مجلس الأمة، ولكن عندما رحل عبدالناصر وجاء السادات كان «داود» أحد أعضاء اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي التي شكل أعضاؤها معظم أطراف المجموعة التي عرفت باسم «مراكز القوى» والتي اصطدمت بالسادات في بداية حكمه، واتهمت بالتآمر عليه فيما عرف بـ«أزمة مايو 1971»، وانتهى الأمر بالرجل بدخول السجن 10 سنوات وعندما خرج سعى لتأسيس الحزب الناصري مع مجموعة من أقرانه وأصبح أحد أهم المدافعين عن ثورة يوليو وعبدالناصر في كل كلمة يقولها.

* ماهي شهادتكم على ثورة يوليو 1952 ونحن نحتفل بمرور خمسين عاما على قيامها، وماذا قدمت الثورة لمصر، وماذا خصمت من مصر؟

ـ قبل ثورة 23 يوليو كانت هناك ثورات في العالم معظمها تحررية من أجل الاستقلال فقط، ولكن الثورة الاجتماعية الوحيدة التي قامت في القرن الماضي هي ثورة يوليو، فكانت أول ثورة غير شيوعية وتحررية واجتماعية أيضا، وهي ثورة حقيقية لانها ابتغت التغيير الجذري في البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ثورة لتحقيق الاستقلال وجلاء الانجليز، ثورة لتحقيق حكم موال للشعب ويحكم لصالح الشعب، ثورة لتعيد توزيع الثروة والسلطة بين الناس، ثورة لتحقق الحرية الحقيقية للافراد، حرية لقمة العيش وحرية الارادة وحرية الاختيار والحرية السياسية بالنسبة للانسان في مصر، وأيضا ثورة ذات بعد عربي واسلامي وافريقي، ومن هنا كانت ثورة يوليو متعددة ومتغيرة، بعض الناس أرادوا ان يصوروا الثورة بأنها انقلاب، ولكنها لم تكن كذلك فالانقلاب يبتغي تبديل حاكم بحاكم آخر فقط، والثورة لم يكن ذلك من أهدافها، أيضا هناك من يقول ان الثورة لم تقدم ديمقراطية في الحكم من البداية وأنا لا أعرف أية ديمقراطية يتحدثون عنها والاحزاب جميعها قبل الثورة لم تستطع أن تحقق لا الاستقلال الكامل ولا جلاء الانجليز عن مصر أو أي تغيير اجتماعي حقيقي يقيم العدل بين الناس ويساوي بينهم، وهي أولى الوسائل التي تصلح بها الديمقراطية والا تصبح شكلية، فمن لايملك ارادته لايملك اي حق في الحرية، فالديمقراطية والحرية الحقيقية في تحرير الارادة وهو ما حققته الثورة للشعب المصري، وهذه جوانب يتعذر لكثيرين أن يدركوها بالشكل الواضح ولذلك لا أرى مسالب للثورة اذا قورنت بالمكاسب التي حققتها.

* في تقديرك ماذا بقي من ثورة يوليو في مصر بعد مرور 50 عاما على قيامها؟

ـ كل ما أقامته ثورة 23 يوليو مازال صامدا يواجه التحديات، فيما عدا بعض المصانع التي باعوها للأجانب أو غير ذلك وتوقفت عن الانتاج، وقد أوصلتنا سياسة بيع القطاع العام وغيرها الى ما نحن فيه الآن من عجز اقتصادي شديد جدا وتبديد كل المدخرات وتعالي المديونية الداخلية والخارجية وتفاوت في الدخول وزيادة عدد الفقراء، واتساع بناء القصور والعمارات الفارهة وتضاؤل المساكن الشعبية وما الى ذلك من مظاهر أخرى سلبية جاءت نتيجة محاولات افساد مكاسب ثورة يوليو مثل الإلغاء النسبي لمجانية التعليم وعودة الفوارق الطبقية بين الناس والتمايز بين بعضهم البعض بأموالهم، لكن لازالت مكتسبات الثورة صامدة، فالتعليم المجاني هو الأغلب والصوت العالي هو صوت العمال والفلاحين مهما كانت عليه ضغوط، والأهم من ذلك ان الثورة لازالت هي الأمل الذي يعشش في رؤوس المصريين والعرب كلما حلت بهم مشكلة، فعندما تعقدت المشكلة الفلسطينية خرج الناس الى الشوارع العربية رافعين صورة جمال عبدالناصر لإيمانهم بأن الثورة هي المحرك الأساسي لضمائر الناس نحو الموقف القومي والوطني والاجتماعي الصحيح.

* تبقى هناك بعض العلامات الغامضة في ثورة يوليو وخاصة فيما يتعلق بالصراع على السلطة الذي أطاح بمحمد نجيب ويوسف صديق وعبدالحكيم عامر وخالد محيي الدين وغيرهم فماذا تقول عن ذلك الصراع؟

ـ قبل أن نتحدث عن الصراع لابد ان نتعامل مع ثورة 23 يوليو على انها ثورة وانها ثورة ضمن ثورات قامت في القرن الماضي ونقارن بينها وبين نتائج هذه الثورة وما جرى لاعضائها، نقارنها بالثورة الفرنسية بالثورة البلشفية والانجليزية فسنجد أنها أنقاهم ونجد انها أقل ضحايا لاي ثورة حصلت في العالم. واذا قورنت ثورة 23 يوليو بالتطور البشري الطبيعي فلابد ان نضع في الاعتبار انها قامت في ظل نظام ملكي، نظام اقطاعي، نظام يسوده الملاك وأصحاب رؤوس الأموال، نظام تحت السيطرة الأجنبية وعليها ان تقاوم كل ذلك، انا لا أتصور ان كل أعضاء الثورة بمن فيهم جمال عبدالناصر أو نجيب كانوا قد استحضروا في مخيلتهم كل التفاصيل لطريق الثورة وما سوف يواجهه من عقبات وما يستلزمه من اجراءات، ومن هنا طبيعي جدا ان يختلفوا على الطريق، وطبيعي ألا يهضم فكر عدد منهم التطورات التي تتم، فعندما يقوم الاصلاح الزراعي ويصطدم مع بعض كبار الملاك الذين لهم علاقات مع بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، لا أعتقد ان مثل هؤلاء الاعضاء يكونون متحمسين لاستمرار الثورة في منهجها ويتوقفوا عند حد معين، ولذلك كان من بين اعضاء مجلس قيادة الثورة من لم يسترح للتأميمات أو الحراسات وهذا أمر طبيعي وأمر انساني وليس أمرا غريبا على أي تجمع انساني. اذا عملية طبيعية ان يكون هناك صراع وخلاف على السلطة فقد خرج عبدالناصر بثورة فيها 90 ضابطاً وكان يتحتم عليه أو على أي انسان يقوم بمثل هذه الثورة ان تكون أدواته في التغيير هم هؤلاء الـ90 ضابطا ولاتوجد رؤية أبعد من ذلك.. فهو لم يخرج من حزب ولا من تكتل ولا من خلايا ولكن من مجموعة من الضباط الأحرار وهذه المجموعة كان أعلاها رتبة هو البكباشي «جمال عبدالناصر». ومن هنا كان يراد في ذلك الحين أو تفكيرهم أن يستعينوا برتبة كبيرة تكون واجهة مقنعة أمام الناس فجاءوا بـ«محمد نجيب» ليكون واجهة ولم يكن هو الذي جمع الضباط الأحرار ولا الذي فكر في الثورة ووضع خطوط الثورة وأهدافها وانما كان فقط الواجهة التي استهدف بها اقناع الناس، ومن هنا كان طبيعيا ان يتغير، بدليل انه لم يهضم أي مبدأ من بداية الثورة، فهو يعارض مواقع الثورة وأكثر حنينا لنظام ما قبل الثورة من الاحزاب وغيرها ويعتقد ان الثورة مجرد تغيير الملك وانتهى الأمر، وليس لهم شيء بعد ذلك، هذه ليست ثورة ولكنه انقلاب يغير حاكم بحاكم آخر.

أما يوسف صديق فقد كان ماركسيا وأصر على ماركسيته مثله مثل بعض اعضاء مجلس قيادة الثورة من الاخوان المسلمين الذي أصروا على انتمائهم لها والثورة في ظروفها لم يكن من الممكن أن تحتوي هؤلاء فمهما كانت وجاهة المبادئ التي يعتنقونها فهي ليست المبادىء التي تعتنقها الثورة، فمن ثم كان طبيعيا ان يعتزلوا أو يبتعدوا عن الصفوف الأولى للثورة سواء كانوا يوسف صديق أو خالد محيي الدين أو غيرهما، وفي تقديري كان اعقلهم خالد محيي الدين لانه تمثل هذا التصور وابتعد وفضل ان يكون صديقا للثورة وليس جزءا من ادواتها في التغيير.

* وماذا عن عبدالحكيم عامر؟

ـ هو ضابط من الضباط مثله مثل أي ضابط من الذين هزموا في الحروب التي شهدها العالم وليس مهما أن يكون قتل أم انتحر ولكن الأهم انه خرج بعد هزيمة، وحتى ولو كان قتل فهذا ليس شيئا غريبا في تاريخ الثورات وان كانت كل الوثائق التي اقتنع بها والتحقيقات التي قرأتها والاشخاص الذين التصقت بهم وكانوا قريبين من الحدث يؤكدون تأكيدا جازما أنه انتحر وقد مات ومعه سره، ومايؤكد انه انتحر انه سبق ان حاول الانتحار، وفي نهاية الحرب العالمية الثانية انتحر موسوليني وهتلر وليس بعيدا عن رجل في شهامته ان يفضل هذه النهاية، ولماذا هذا اللغط وهذه الضجة حول انتحاره أو قتله. لماذا يقتلون والتخلص منه لن يغير شيئا، عبدالناصر لم يتهرب من مسؤوليته عن الهزيمة بل وقف وقال أنا المسؤول وأتحمل كافة المسؤولية. خلاصة القول عبدالناصر ليس هو الشخص الذي يغتال عبدالحكيم عامر.

* أنت ترى ثورة يوليو من كل الأوجه بيضاء ألا ترى ان هناك سلبيات للثورة، وماهي هذه السلبيات من وجهة نظرك؟

ـ أي عمل انساني فيه سلبيات والثورة فيها سلبيات ولكن ما حققته يغفر لها.

* ماهي أهم السلبيات من وجهة نظرك؟

ـ عبد الحكيم عامر واختياره قائدا للجيش واختيار أشخاص من مجلس قيادة الثورة في بعض المواقع الهامة والتسامح تجاه أخطاء بعض الرجال المحسوبين على الثورة وأيضا عدم صنع دولاب حقيقي لصقل الرجال ليؤهلوا للمواقع المختلفة، لتكون البديل للأحزاب التي تصنع الكوادر.

* قيام الحزب الناصري وان يكون الحزب باسم عبدالناصر ألا يعتبر اجحافا للثورة لانها اختصرت في شخص عبدالناصر وحده؟

ـ هذا غير صحيح وإنما الثقة في عبدالناصر هي التي جعلتنا نطلق اسمه على الحزب فهو الوحيد الذي ارتأى الناس فيه أمانيهم وأمنياتهم والذي رأى فيه الناس مستقبل التطور الاجتماعي والاقتصادي في مصر وانه الذي اؤتمن على هذه المبادىء وانه الذي استطاع ان يخلق قناة طبيعية قوية نفاذة بين فمه حين يتكلم وبين قلب كل مواطن في العالم العربي كله.

* هناك من يرى ان الحزب الناصري الموجود على الساحة والذي ترأسونه قد أساء لاسم عبدالناصر وبخاصة بسبب الخلافات الطاحنة بين قياداته على زعامة الحزب؟

ـ لا يستطيع أحد ان يسيء لاسم عبدالناصر ولا حتى اعداؤه أبدا، والخلافات بين الناصريين لم تتناول مبدأ واحداً من مبادئ عبدالناصر، ولكن الخلاف على من يكون الامين العام ومن يكون الامين المساعد، وكلاهما لا قيمة لهما، ولكن نختلف على أي سياسة لعبدالناصر وعلى العداء لكل التغييرات التي تمت على نقيض مبادىء وأفكار عبدالناصر، أتحدى ان يكون هناك ناصري على وجه الأرض يرى رؤية مختلفة بالنسبة لعبدالناصر، أما التناحر على القيادة فأمر بشري ليس مهما ولايوجد مايمنع التناحر.

* اللغة التي يتحدث بها الحزب الناصري توجه لها انتقادات بأنها لغة تنتمي الى العصور القديمة ولا تصلح لهذا العصر فما تعليقك؟

ـ لا مانع لدينا من هذا الوصف وهو ما نعتز به نحن نعتز بهذا الوصف ونرجو من الله أن يوفقنا باستمرار التمسك به.

* ماذا تقول لشباب هذا الجيل من لم يعاصروا الثورة؟

ـ لا تصدروا أحكاماً على وقائع تاريخية دون توثيقها ودون الرجوع الى مصادرها الحقيقية، وان ثورة يوليو هي أنصع الصفحات التي شهدها التطور العربي في القرن الحالي وربما لقرون أخرى، وأن مسؤولية استمرار هذا التدفق الثوري وتطويره هو مسؤولية الأجيال الموجودة.

* الإدراك السياسي لنجيب محفوظ محدود

* الأديب العالمي نجيب محفوظ هاجم ثورة يوليو وشخص عبدالناصر قائلا ان كل مكاسب الثورة خسائر، فما هو تعليقكم؟

ـ مع احترامي لنجيب محفوظ وغيره فهؤلاء ناس أدباء لديهم من الخيال اكثر مما لديهم من الواقع ولديهم من التحليق أكثر مما لديهم من الأمر الواقع ومعرفته، ومعنى الحرية عندهم هي حرية أن يكتب وأن يبدع وأن يتكلم ولو على حساب كل قيم أو ثوابت المجتمع، ومن ثم فادراكهم السياسي ادراك محدود جدا، وأنا احترم نجيب محفوظ كأديب وهو يكتب عن مصر القديمة، أما انه يتطور بفكره السياسي لمواجهة متطلبات المراحل المتغيرة والأوضاع الاقتصادية الجديدة وغير ذلك فهذا صعب جدا على مثل تكوينه ومثل بيئته ومثل التاريخ الذي قرأه رغم انه نابت من بيئة هي بيئة ثورة 23 يوليو والبيئات التي قامت الثورة لانتشالها ورفع مستواها الى مستويات أفضل.