القاهرة 52 سجلت بصمات الثورة في شوارعها

TT

لو قدر ان يعود جوهر الصقلي الى الحياة بعد ثورة يوليو بسنوات قليلة، أي في الخمسينات من القرن العشرين لما تعرف على المدينة التي خططها وبناها حاضرة للخلافة الفاطمية، فالقاهرة في الخمسينات أو «قاهرة الثورة» استطاعت ان تلبس ثوبا حالما جميلا طبع في ذاكرة من عاشوا سنوات الثورة وما بعدها المزيد من الحب لهذه الفترة من حياتهم، ورجح كفة قادة الثورة في أعين محبي الجمال من الأجيال الشابة الذين قد تقع أعينهم على صور القاهرة في الخمسينات في الأفلام الأسود والأبيض أو أرشيف الصور الذي تتوسع وسائل الاعلام في عرضه بمناسبة الذكرى الخمسين لثورة يوليو.

ولعل الحالة المزرية التي كانت عليها مداخل المدينة وشوارعها القديمة هي التي دفعت ثورة يوليو للتركيز على اعادة تخطيط وتجميل المدينة، وشق طرق جديدة ومنشآت حديثة لاستكمال صورة العاصمة كما أراد الثوار أن يرسموها بريشاتهم الخاصة، والأهم من كل ذلك كان تغيير أو طمس أسماء الشوارع والطرق التي تحمل صفة الملكية أو الباشوية واستبدالها بأسماء مستوحاة من الثورة وأدواتها وقادتها، ونفذت بمهارة عملية اتقنها ملوك الفراعنة منذ القدم وتم محو كل أسماء الأسرة المالكة وطبقة الباشوات من على شوارع القاهرة.

فطوال فترة الاحتلال عانت القاهرة من التواء الشوارع والطرقات ووجود مدخل واحد للعاصمة مكدس بالعشش والأكواخ التي كانت أول ما يقع عليه نظر السائحين، أما الميادين فكانت على قلتها ضيقة تعاني الفوضى وسوء النظام، وكان غريبا ان تقع القاهرة على نهر النيل ولايسكن الناس على ضفافه ولا يوجد طريق ممهدا أو رصيف للتنزه بجواره.

ومن أهم الشوارع التي انشئت في ذلك العهد شارع الخليج المصري -الذي أصبح شارع بورسعيد حاليا- وكان يبدأ من مصر القديمة الى السيدة زينب الى محمد علي الى الموسكي حتى يصل الى الظاهر وترعة الاسماعيلية، وكان الخليج يقوم بمهمة ري المدينة وضواحيها ثم تم ردمه عام 1896 ومد خط التروماي من فوقه.

وهكذا بدأ عبداللطيف بغدادي عضو مجلس قيادة الثورة الذي تولى منصب وزير الشؤون البلدية والقروية في السابق وأصبح نائبا لرئيس الجمهورية، بدأ عملية تخطيط وتجميل القاهرة وإعادة كتابة تاريخها بأوراق الثورة الجديدة، وخلال خمس سنوات فقط بعد الثورة استطاع بغدادي ان يصنع واقعا جديدا في شوارع العاصمة يحمل روح الثورة.

وامتدت يد التجميل الى ميادين القاهرة فأعيد تخطيط ميدان باب الحديد وهدمت مباني تحيط به مثل قسم الازبكية، ونقل سوق السمك المجاور لمبنى هندسة السكك الحديدية عند مدخل شارع الجلاء الحالي الى غمرة، ونقل تمثال رمسيس الثاني من البدرشين ليقف على نافورة بديعة ـ أزيلت منذ سنوات والتمثال يستعد حاليا لترك مكانه ـ وأصبح الميدان تحفة ومعلما جماليا رائعا.

أما ميدان التحرير الذي كان يعرف قبل الثورة بميدان الاسماعيلية فقد تم توسعته بعد هدم ثكنات قصر النيل التي كان الجيش الانجليزي يحتلها ابان الاحتلال البريطاني ثم شغلها الجيش المصري بعد خروج قوات الاحتلال من القاهرة الى مدن القنال قبل الثورة، وانشىء مكانها متنزه عام تتوسطه نافورة مزودة بأضواء ملونة تتلون بها المياه أثناء اندفاعها.

وكان الملك فاروق قد أعد نصبا وسط ميدان الاسماعيلية ليعتليه تمثال لجده اسماعيل يقابله في ميدان عابدين ـ الذي غيرت اسمه الثورة الى ميدان الجمهورية ـ تمثال لوالده الملك فؤاد، وحتى ينظر والده من عابدين ويرى جده اسماعيل بوضوح تم توسعة شارع البستان وهدمت مساكن كثيرة لاتاحة الفرصة للتمثالين كي يريا بعضهما بوضوح.

وكان ان شيدت الثورة مسجدا يحمل اسم بطل من أبطال مصر هو عمر مكرم كما شيد مبنى جامعة الدول العربية ومبنى الاذاعة المصرية، وقد تغير اسم الميدان مؤخرا الى ميدان السادات تخليدا للرئيس الراحل لكن هذا الاسم لم يستعمل قط.

ومن أبرز انجازات الثورة انشاء كورنيش النيل الذي امتد 40 كيلومترا من القناطر حتى حلوان وتم تنفيذه على مرحلتين: الأولى 15 كيلومترا من روض الفرج الى مصر القديمة، والثانية 25 كيلومترا من مصر القديمة حتى حلوان وتكلف ما يقرب من مليوني جنيه، وتم هدم كثير من المباني المطلة على النيل مثل المطبعة الاميرية والورش الاميرية في بولاق وحديقة السفارة الانجليزية في حي قصر الدوبارة ومستشفى قصر العيني وصوامع الغلال بأثر النبي واقيم ميناء جديد للغلال والفاكهة، وافتتح كورنيش النيل اثر النبي - المعادي في عيد الثورة الرابع 1956 واقيم على امتداد الطريق أكثر من 300 عمود انارة مزدوج بمصباحين جانبيين قوة كل منهما 450 وات.

كذلك يذكر انشاء استاد القاهرة كإنجاز آخر في اعادة تخطيط العاصمة، فتم تخطيط مدينة جديدة بين العباسية ومصر الجديدة عرفت باسم «مدينة نصر» ليقام وسطها استاد يتسع لمائة ألف شخص من الجمهور وخمسين ألفا من المشاركين في المهرجانات، وأعيد تخطيط طرق المواصلات المختلفة خارج المدينة ورصد لانشاء المدينة والاستاد والملاعب الأخرى ومباني كثيرة ستقام آنذاك ـ بعد خمسة أعوام من الثورة ـ مبلغ خمسة ملايين جنيه.

وانشئت للقاهرة أربعة مداخل عند طريق الكورنيش والسكك الحديدية وطريق غمرة وطريق جسر ترعة الاسماعيلية وما يتبع ذلك من انشاء كباري علوية على جانبي ترعة الاسماعيلية وتوسعة الشوارع الرئيسية.

وسارع البغدادي بتعديل خطوط المواصلات داخ القاهرة، فنزع قضبان الترام من شارع فؤاد الأول ـ تحول الى شارع 26 يوليو ـ ومن الثلث البحري لشارع عماد الدين وشارع الملكة وحولها الى شارع الجلاء وشارع القلعة.

وقسم شارع 26 يوليو وشارع نهضة مصر ـ كان يعرف باسم شارع الملكة وغيرت الثورة اسمه لكنه يعرف حاليا باسم شارع رمسيس ـ قسم الشارعين الى قسمين: قسم للذهاب وآخر للإياب وأعيد رصفهما وتنسيقهما وأضيئا بأنوار ساطعة في الليل وأمتد شارع 26 يوليو ليخترق حديقة الازبكية ويصل لميدان العتبة.

أما شارع الخليج المصري الذي ردم ومد فوقه خطوط الترام فقد عانى من عدم التزام شركة الترام صاحبة الامتياز بتعهداتها بتجميل الشارع واضاءته، وعندما انشئت الثورة مدخل القاهرة من جهة غمرة اهتم بغدادي بتوسيع شارع الخليج كطريق موصل بين مداخل القاهرة وطرفها الجنوبي، وقد تغير اسم الشارع الى شارع بورسعيد بعد معارك 1956 تخليدا لكفاح شعب بورسعيد في مقاومة قوات وجنود الاحتلال الثلاثي.

واستبدلت الثورة بأسماء باشوات العهد الزائل اسماء زعماء مصر الوطنيين، فاطلقت اسم طلعت حرب الاقتصادي الوطني الكبير ومؤسس أول بنك مصري على شارع سليمان باشا.

وكذا شارع محمد فريد الزعيم الوطني الراحل على شارع عماد الدين باشا الذي عرف قبل الثورة بأنه شارع الحانات والخمر والليالي الماجنة.

وعندما بدأت الثورة في الافصاح عن اتجاهاتها القومية انعكس ذلك في اطلاق اسماء مثل الوحدة والعروبة ووادي النيل على شوارع جديدة تم شقها لأول مرة والتصقت بها الاسماء حتى الآن، وكذلك اسماء بعض المدن والعواصم العربية اطلقت على شوارع جديدة مثل دمشق، سوريا، وبيروت.

وبينما اطلق اسم صلاح سالم على أكبر شارع في العاصمة يبدأ من الدراسة ويقطع العباسية ويمتد حتى مصر الجديدة حيث يعرف في النصف الآخر من الطريق بشارع العروبة وحتى مطار القاهرة، ورغم ان صلاح سالم بعد ذلك اصبح عضوا مرفوضا من مجلس قيادة الثورة لكن الشعب المصري تمسك بأسمه على الشارع لانه كان أول من اطلق اسمه عليه. أما عبدالناصر قائد الثورة وزعيم كفاح مصر فلايوجد شارع يحمل اسمه حتى الآن، وباءت محاولة اطلاق اسمه على شارع النيل بالفشل لان الشارع ببساطة يحمل اسم النهر الذي يسير بجواره.

أما شارع فاروق الذي انشىء عام 1926 ليصل بين ميدان العتبة وميدان الحسينية فقد تغير اسمه الى شارع الجيش ومازال يعرف بهذا الاسم.

ولو قدر أن يعود عبداللطيف بغدادي للحياة ليرى القاهرة التي أعاد تخطيطها في الخمسينات لما تعرف على قاهرة اليوم التي أصبحت تشبه في غرابتها قاهرة ما قبل الثورة في بعض الصفات التي ذكرتها كتب التاريخ المعاصر والحديث.