صورتان من الذاكرة

TT

تعلق بذهني صورتان من ايام الطفولة المبكرة، الاولى صورة باهتة لجهاز تلفزيون ابيض واسود تهتز صورته تتعلق عيون الكبار من العائلة عليه دون ان افهم لماذا، وطلب عصبي بالصمت من كل الصغار، ثم صرخات وبكاء لم افهم ايضا لماذا، وطرقات على باب البيت لأحد الاقارب اتى ايضا باكيا صارخا «عبد الناصر اتنحى»، ايضا لم افهم ماذا حدث ولماذا يبكون ويصرخون.

الصورة الثانية بعدها بسنوات، طفل اكثر فهما عما قبل، يسير مع تلاميذ المدرسة الابتدائية في وسط جموع ـ ايضا باكية ـ تحمل صورا لعبد الناصر، ويتردد هتاف حزين لم انسه منذ تلك الايام يقول «الوداع يا جمال». كان يوم جنازة عبد الناصر.

حاولت ـ كما حاول الكثيرون ـ ان افهم سر ما لم أفهمه تلك الايام، قرأت عن الثورة، عن عبد الناصر، عن الضباط الاحرار، وكان ذلك في موسم الهجوم على الثورة وعبد الناصر في السبعينات، كان الهجوم الضاري دافعا لمحاولة الفهم المختلف ورؤية الوجه الآخر للعملة، ووجدت نفسي في صف الثورة ومنجزاتها ضد كل التيار السائد.

الهجوم الضاري والقوي وغير الموضوعي ضد الثورة دفعني ـ كما دفع كثيرين ـ مثلي لأن يتخذوا موقفا متعصبا مع الثورة ومع جمال عبد الناصر ضد من يهاجموه.

مارست ـ كما مارس الكثيرون ـ السياسة في الجامعة، وبحثت ـ كما بحث كثيرون ـ عن التنظيمات الناصرية في الجامعة لننضم اليها. كنا متعصبون، لا نرى للثورة اخطاء، ولا لعبد الناصر غير المزايا، ولم أر ـ كما لم ير كثيرون ـ في انور السادات في تلك الفترة سوى انه مرتد عن انجازات الثورة، وكاره لعبد الناصر. ووصل الاحساس بي في مرحلة ما الى انه ـ أي السادات ـ انما يحمل عداءً لي انا شخصيا في كل ما يقوم به من مواقف وتصرفات.

مرت السنون، وأعدت النظر والقراءة والدراسة ـ كما فعل كثيرون ـ وباتت الرؤية اكثر اتزانا واكثر موضوعية، ورأيت ـ كما رأى كثيرون ـ في الثورة وعبد الناصر من الاخطاء الكثير، ومن الانجازات والمزايا اكثر، وأعدت تقييم السادات بشكل مختلف، وتمكنت من ان أرى فيه زوايا لم أتمكن من ادراكها في تلك الفترة، التعصب للموقف والرأي يعمي العيون عن ادراك الصورة كلها، يدفع فقط الى الحكم المتعسف ضد الآخر، الذي يمكن ان يصل الى نفي الآخر واغتياله معنويا وحتى جسديا ان امكن، وذات التعصب هو الذي يجعلنا لا نرى فيمن نتعصب لهم الا المزايا والصفات الايجابية التي تصل الى حدود تتنافى مع العقل والمنطق.

اليوم، بعد مرور خمسين عاما على ثورة يوليو، ما زلنا بحاجة لأن نقيم بدون تعصب، ونرى دون غشاوة، ونستخدم المعايير الصحيحة في الحكم على المواقف والاشياء، فلا يعقل ان نقيم موقفا ما وقع منذ سنوات في ظل ظروف سياسية واجتماعية وعالمية مختلفة، ونأتي اليوم لنقيمه بمعايير الحاضر، هذا لا يؤدي الا الى نتائج خاطئة.

حان الوقت لنظرة موضوعية خالية من تصفية الحسابات او العداءات مع الحقب او الاشخاص. الثورة التي بدأت «حركة مباركة» او «انقلابا» كما يحلو للبعض حتى الآن ان يطلقوا عليها، يمر عليها اليوم خمسون عاما لتثبت انها ثورة بما فعلت وأحدثت، وكما وصفها بعد قيامها بعام د. طه حسين في مقال له، ولم يطلق عليها وصف «ثورة» دون وعي، ولكنه ادرك مبكرا ان الثورة تعني التمرد على المجتمع الفاسد والوعي بمتطلبات التغيير الاجتماعي.

أثبتت الثورة ـ بحلوها ومرها ـ انها اهم حدث سياسي واجتماعي وقع في مصر، ولا مبالغة لو قلنا في العالم العربي.

واليوم نقدم ملامح مختلفة للثورة وزعيمها، حرصنا ان تكون موضوعية قدر المستطاع وبدون تعصب.