لماذا يحتفظ المصريون بصور عبد الناصر

TT

اكثر من ثلاثين عاما مضت منذ وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وحتى بعد حملات التشويه التي تعرض لها بشخصه وإنجازاته، ما زالت قلوب الكثير من محبيه معلقة بالرمز وتحتفظ بصور الزعيم في نفس اطاراتها القديمة، وترفض أن تلحق صورته بكتب التاريخ الى جانب صور زعماء مصر الخالدين الذين قادوا كفاح الشعب المصري في فترات مختلفة من تاريخ نضاله من أجل التحرر والاستقلال.

البعض يفسر تمسك البسطاء باقتناء صور عبد الناصر لما مثلته ثورة يوليو التي قادها من انقلاب ضد التخلف والظلم الذي عانى منه الاغلبية من فقراء الشعب قبل الثورة وما قدمته الثورة لهؤلاء من حقوق ومكاسب. والبعض يذهب ابعد من ذلك ويفسر تمسك المصريين بصور الزعيم الرمز، بل ان شباباً في العشرينيات من اعمارهم يضعون صور عبد الناصر تحت زجاج مكاتبهم في العمل، في ما يشير الى تمسكهم بالمشروع الحلم الذي طرحه قائد الثورة المصرية ولم يكتمل حتى الآن، وهو مشروع الوحدة العربية.

وقد يندهش البعض اذا توقفوا لتناول كوب من العصير في احد شوارع وسط البلد بالقاهرة أو شراء علبة سجائر ووقعت اعينهم على صورة ابيض واسود في اطار قديم بال، تتوسط قلب الحانوت الصغير أو تحت زجاج المكتب الصغير الذي يجلس عليه صاحب الحانوت، وقد يسأل البعض ـ يدفعهم الفضول ـ لماذا تضعون صورة عبد الناصر؟

واشهر هذه المحال الذي تتصدره صورة الزعيم الراحل هو صالون الحلاقة القديم الكائن في ميدان باب اللوق بالقاهرة، بواجهته الزجاجية ذات الدلف الثلاث، ومن خلفها تصطف زجاجات العطر ماركة «نادية» و«خمس خمسات» وقوارير الكحول التي ما زال صاحبها يستخدمها كما ألف على مدى عقود. ورغم بساطة حال الحانوت الذي يحمل اسم «صالون النصر» الا انه اكتسب شهرة واسعة لدى كبار السن من قاطني الحي لأن صاحبه عرف بأنه «حلاق الريس»، ولأن عبد الناصر تعود ان يتردد على الصالون قبل الثورة وبعدها ايضا، ثم تعود ان يستدعي حلاقه بعد ذلك كل ثلاثة اسابيع تقريبا للحلاقة. في صدر الصالون القديم صورة بوستر كبيرة معلقة في برواز قديم انيق لعبد الناصر واقفا في حديقة ومن خلفه نخيل عال. ولكن براعة المصور اظهرت عبد الناصر من اسفل قدميه الى اعلى رأسه وقامته أعلى من النخيل، الصورة التقطها حسن دياب المصور الخاص الراحل للرئيس عبد الناصر في حدائق القناطر الخيرية.

بعض زبائن الصالون ما زالوا يحتفظون بذكريات متناثرة للشاب الذي عرفوه ببذلة «المقدم» أو البكباشي. رغم كل شيء كانت آلامه وافراحه من آلام الناس وافراحهم، الفلاحين والعمال والغلابة، كان منهم وظل كذلك حتى مماته، لم يترك قصورا ولا شركات، بل ترك حب الناس يملأ قلوبهم، وانا منهم. قالها شيخ تجاوز الثمانين ما زال مواظبا على التردد على الصالون ليجلس على نفس المقعد العالي الذي كان الريس يجلس عليه، ومن فوقه ما زالت لائحة الاسعار القديمة موجودة ومكتوبا فيها «قص الشعر بستة قروش». وفي مدخل شارع محمد فريد تتصدر صورة عبد الناصر الدكان القديم ذا الارفف شبه الخالية وثلاجة المشروبات القديمة عند الباب ومن تحتها صورة شيخ بملابس صعيدية، هو والد الحاج كمال محمود حسن (65 سنة) الذي يحب الحديث بفخر عن الريس ويقول: عبد الناصر امتداد للزعيم سعد زغلول، فقد كافح سعد زغلول لاخراج الانجليز من مصر وتحقق الحلم على يدي عبد الناصر.

وما زالت ذكريات عربدة عساكر الاحتلال في شوارع القاهرة تحتل مساحة كبيرة من ذاكرة الحاج كمال الذي كثيرا ما اشتبك والده معهم وذهب الى السجن بسبب ذلك كما يقول. ويبدو ان العامة من البسطاء قد استراح كل منهم لايجاد تفسير خاص به لتعلقه بالثورة وقائدها، «ايام الثورة لن تعوض، فقد كان الريس يهتم بكل منا وكأنه أخوه، أو ابنه، وأذكر انني ارسلت له شكوى اتظلم فيها من الضرائب الضخمة التي فرضوها علي عام 1964. وبعد يومين فقط فوجئت بضابط رتبته كبيره يأتي حتى المحل ويحقق في الشكوى، اما اليوم فأعاني من الغرامات الجزافية التي لا تنظر بعين الرحمة لعجوز مثلي».

قالها احد اصحاب محلات العصير المنتشرة في شارع عماد الدين، وقد ثبت صورة لعبد الناصر مع ابنه خالد تحت زجاج مكتب النقود الذي يجلس اليه في مدخل المحل.