ماذا فعلت الثورة باليهود المصريين؟ د. يونان لبيب: هتلر سبب خروج اليهود من مصر.. د. رفعت السعيد: عبد الناصر طرد اليهود حتى لا يصبحوا طابورا خامسا لإسرائيل

TT

ثلاثة انفجارات مدوية هزت اوضاع اليهود في مصر بعد الثورة وجعلتهم يغلقون ابوابهم على انفسهم، وينتظرون اللحظة المناسبة للهرب الى اسرائيل، كان الانفجار الاول المانياً في صحراء مصر الغربية، والثاني مصرياً عالمياً عقب اشتعال حرب 56، اما الانفجار الثالث فقد كان يكمن في شخصية اليهود انفسهم الذين كان من السهل عليهم ان يتحولوا الى طابور خامس لاسرائيل.

تعددت الاسباب والنتيجة واحدة وهو خروج اليهود من مصر ولكن يظل السؤال معلقا الى الان؟

هل خسرت مصر بخروج اليهود، وكسبت اسرائيل؟

قبل ان نصل لمرحلة الثورة كان لابد من الرجوع الى حقيقة وضع اليهود في مصر قبل قيام ثورة يوليو 1952 وبداية هجرة اليهود الى مصر بتشجيع من محمد علي. وقد تمتع اليهود الذين زادت هجرتهم الى مصر في عهد الخديوي اسماعيل بكل الامتيازات الاجنبية، وحسب تعداد السكان لعام 1917 فقد بلغ عدد افراد الجالية اليهودية في مصر 59.581 نسخة، وكان التطور الاقتصادي في مصر هو عامل الجذب الاساسي لقدومهم واستيطانهم فيها.

يهود البنوك ويرتبط تاريخ البنوك في مصر بإنشاء اليهود لها، وقد نجح اليهود بعقليتهم الاقتصادية المشهورين بها في احتكار هذا المجال. واشتهرت عائلات بعينها في عالم البنوك مثل عائلة: قطاوي والموسيري وسوارس.

كان البنك العقاري المصري والذي تأسس عام 1880 اول بنوك مصر واسسته ثلاث عائلات يهودية سوارس ـ رولو ـ قطاوي. كان رأسمال البنك عند تأسيسه 40 مليون فرنك فرنسي، وصل الى 8 ملايين جنيه عام 1942 وقد لعب هذا البنك دورا خطيرا في الاقتصاد الزراعي المصري فنتيجة القروض التي منحها للملاك الزراعيين اصبح يتحكم في اكثر من مليون فدان مصري.

وفي عام 1898 تم انشاء البنك الاهلي المصري والذي لعب دورا هاما في تاريخ مصر الاقتصادي، كان رأسماله 3 ملايين جنيه استرليني، وقد تحول الى بنك مركزي عام 1951، وكان «روفائيل سوارس» هو صاحب امتياز التأسيس يشاركه «ميشيل سلفاجو» و«ارنست كاسل».

كذلك البنك التجاري المصري والذي عرف وقت تأسيسه عام 1905 باسم بنك التسليف الفرنسي ثم تحول الى شركة مساهمة مصرية باسم البنك التجاري المصري عام 1920 وكان رأسماله مليون و200 الف جنيه استرليني.

هذه البنوك الثلاثة كانت اشهر البنوك التي سيطر عليها يهود، وكان هناك بنوك اخرى صغيرة ساهمت في تشكيل الحياة الاقتصادية في مصر، والى جانب البنوك امتدت سيطرة اليهود لمجالات اخرى هامة مثل قطاع البترول فقد قام اميلي عدس بتأسيس الشركة المصرية للبترول برأسمال 75000 جنيه في بداية العشرينات، في الوقت الذي احتكر فيه اليهود «ايزاك ناكامولي» تجارة الورق في مصر.

كما اشتهر اليهود في تجارة الاقمشة والملابس والاثاث حتى ان شارع الحمزاوي والذي كان مركزاً لتجارة الجملة كان به عدد كبير من التجار اليهود، كذلك جاءت شركات مثل شركة شملا: وهي محلات شهيرة اسسها «كليمان شملا» كفرع لمحلات شملا باريس، وقد تحولت الى شركة مساهمة عام 1946 برأسمال 400.000 جنيه مصري.

شيكوريل: اسستها عائلة شيكوريل عام 1887 ورأس مجلس ادارتها «مورنيو شيكوريل» عميد العائلة، وكان رأسمال الشركة 500.000جنيه، وعمل بها 485 موظفاً اجنبياً و142 موظفاً مصرياً.

بونتبور يمولي: اشهر شركات الديكور والاثاث، اسسها هارون وفيكتور كوهين.

جاتينيو: سلسلة محلات اسسها موريس جاتينيو الذي احتكر تجارة الفحم ومستلزمات السكك الحديدية وقد كان لموريس جاتينيو دور في دعم الحركة الصهيونية ومساعدة المهاجرين اليهود.

وكانت عائلة «عدس» من العائلات اليهودية الشهيرة في عالم الاقتصاد واسست مجموعة شركات مثل بنزايون ـ هد ـ ريفولي ـ هانو ـ عمر افندي.

كما احتكر اليهود صناعات اخرى مثل صناعة السكر ومضارب الارز التي اسسها سلفاتور سلامة عام 1947 برأسمال 128.000 جنيه مصري، وكانت تنتج 250 طن ارز يوميا، وشركة الملح والصودا التي اسستها عائلة قطاوي عام 1906.

كذلك وصلت سيطرة اليهود الى قطاع الفناق فقد ساهمت موصيري في تأسيس شركة فنادق مصر الكبرى برأسمال 145.000 جنيه وضمت فنادق كونتيننتال ـ ميناهاوس ـ سافوي ـ سان ستيفانو.

نشط اليهود ايضا في امتلاك الاراضي الزراعية وتأسست شركات مساهمة من عائلات احتكرت بعض الزراعات مثل شركة وادي كوم امبو التي تأسست عام 1904 بامتياز مدته 99 عاماً، ورأسمال 300.000 جنيه مصري وامتلكت 30.000 فدان في كوم امبو غير 21.000 فدان وشقت 91كم من المصارف والترع و48 كم من السكك الحديدية.

كذلك شركة مساهمة البحيرة التي تأسست في يونيو 1881 برأسمال 750.000 جنيه مصري وامتلكت 120.000 فدان.

وعلى هذا الاساس استطاع اليهود في مصر تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة بلغت اقصاها في الفترة من 1940 وحتى 1946 في الوقت الذي كان الاقتصاد العالمي يعاني ركودا نتيجة ظروف الحرب العالمية الثانية واستطاع يهود مصر ان يصبحوا اغنى طائفة يهودية في الشرق الاوسط، ولم يتأثروا بالغاء الامتيازات الاجنبية عام 1937 أو انخفاض معدلات الهجرة الى مصر، أو حتى صدور قانون الشركات رقم 138 والذي صدر في يوليو 1947 لتنظيم الشركات المساهمة، لكن كان قيام اسرائيل عام 1948 واندلاع الحرب بين اليهود والعرب اثره في تحديد دور طائفة اليهود في مصر، وبعد قيام ثورة يوليو، ازداد الموقف اضطرابا، بعد ان تغيرت موازين القوى بين العائلات اليهودية والسلطة الحاكمة في مصر، فقام معظمهم بتصفية اعماله واملاكه، وهاجر الكثير منهم الى اوروبا واميركا واسرائيل.

* عملية لافون

* وقد ازدادت هجرة اليهود من مصر بعد فضيحة لافون عام 1955، تلك العملية التي حاول فيها الموساد الاسرائيلي افساد العلاقة بين مصر والدول الاجنبية عن طريق اظهار عجز السلطة عن حماية المنشآت والمصالح الاجنبية. وقتها كان عدد اليهود في مصر 145 الف يهودي جرى تهريبهم بأموالهم عن طريق شبكة «جوشين» السرية التي كانت تتولى تهريب اليهود المصريين الى فرنسا ـ ايطاليا ـ ثم الى اسرائيل.

وقد تضاربت الآراء حول مسألة خروج اليهود من مصر، البعض اكد ان عبد الناصر طردهم، واخرون قالوا انهم خرجوا من تلقاء انفسهم.

يقول الدكتور نبيل عبد الحميد استاذ التاريخ المعاصر والحديث: كل الظروف تضافرت في اخراج اليهود من مصر بعد الثورة فعبد الناصر كزعيم له مسار وطني شعر أن من واجبه اخراج اليهود، وبخاصة بعد فضيحة لافون، بالاضافة الى ان الفكرة الصهيونية سيطرت على عقول اليهود في مصر ففي اسرائيل كانوا يروجون لفكرة ارض الميعاد، والاستقرار والوطن القومي، وهذه تيمات عزف عليها الصهاينة لكن الترحيل الفعلي لباقي اليهود تم بعد عام 1961 بعد صدور قرارات التأميم، فلم يعد لليهود مكان في الحياة الاقتصادية ففروا بأموالهم وانفسهم، ولكن ينبغي الا ننسى ان هناك يهودا لم ينظروا لديانتهم على انها جنسية، ولكنها مجرد ديانة وكانوا مصريين حتى النخاع، وهناك المحامي الشهير المصري اليهودي شحاته هارون الذي اصر على عدم ترك مصر، ومات فيها وبعد وفاته رفضت عائلته استقدام حاخام من اسرائيل للصلاة عليه، والان عندما ننظر للامور نظرة عقلانية متأنية نجد انه كان على عبد الناصر التأني في مسألة خروج اليهود. فليتهم لم يخرجوا فالكثير منهم كان له باع كبير في الاقتصاد ومنهم من اسهم في بناء اماكن حربية مثل المطارات، اذكر انه كان هناك يهودي يدعى «حيينا» وكان يحتكر تصدير محصول البصل من مصر، وعندما انهار تصدير البصل استدعاه عبد الناصر ولكنه رفض العودة ولهذا اقول انه كان علينا احتواء اليهود لانهم كانوا يعرفون اسرار الحياة الاقتصادية ولكننا طردناهم مندفعين بمشاعر غير منطقية.

أما د. رفعت السعيد امين عام حزب التجمع يقول: 80% من سماسرة البورصة المصرية كانوا يهودا ولكن لا ننسى ان الثورة لم تتعرض لمشكلة اليهود الا بعد عدوان 1956 لانه لم تظهر مشكلة منهم قبل ذلك، وليس صحيحاً انه تم ترحيل اليهود بسبب ديانتهم، ولكن بسبب الخوف من أن يصيروا طابورا خامسا لاسرائيل في مصر. ورغم ذلك بقي في مصر عدد من اليهود الذين لم يكونوا على علاقة باسرائيل والرافضين للصهيونية.

والثورة لم تفكر في التصدي لمشكلة اليهود بعد قيامها لانها لم تكن مستعدة لاستيعاب البنية الاقتصادية المملوكة لليهود ولا شك ان هناك يهوداً ظلموا من جراء هذا القرار والنتائج طبعا كانت تركهم لمصانعهم وارضهم وشققهم وكلنا يعلم اين ذهبت شقق اليهود اخذتها الحراسة وتم توزيعها على ضباط الجيش.

ويقول د. يونان لبيب رزق: خروج اليهود من مصر بدأ مع تقدم القوات الالمانية في صحراء مصر الغربية فقد خشي اليهود من انتصار الالمان في الحرب، وتكرار مذابح النازي في مصر ففروا الى جنوب افريقيا ومع قيام الثورة كان هناك حرص على عدم الصدام باليهود لكن اول صدام بين اليهود والثورة كان بعد غارة اسرائيل على غزة عام 1955، ثم كانت التصفية الاجبارية بعد عدوان 1956 كان اليهود شاعرين بوجود عداء ضدهم في الوقت الذي بدأ فيه تمصير المؤسسات الاقتصادية فشعروا ان هناك اتجاهاً ضدهم. ولا شك ان اسرائيل كسبت من يهود مصر الذين مثلوا اضافة اقتصادية لها، والان لا نستطيع القول هل اخطأ عبد الناصر أم لا، فالمسائل لا تؤخذ الا بوضع الظروف التاريخية المحيطة بالقرار في عين الاعتبار.

ويؤيد خالد محيي الدين ذلك قائلا: كان الجو العام ضد اليهود، الناس في الشارع كانت ترفض ما يحدث، ليس السلطة بمفردها، وعبد الناصر كان حريصاً على ان يمنعهم من اللعب بمقدرات البلاد، وامسك البلد بيد من حديد، وهذا لم يرض اليهود، وكان خروج الكثير منهم بعد عام 1956.