غياب الهوية الثقافية لبيروت التسعينات وتساؤل حول أبعاد طمس معالم أشهر شوارعها

TT

«بريجيت باردو» او «ب. ب» في صورة جريئة تحتل الواجهة الرئيسية لسينما «الحمرا» مع فيلم «الحقيقة» مطلع الستينات، حينها كان ثمن بطاقة الدخول خمسة قروش لبنانية، وكان الشباب يقفون في خط مستقيم يرنو الواحد منهم الى صورة «ب. ب» الفرنسية ويحلم بحسناء يعيش معها فصول حب تشبه تلك التي يحكي عنها الفيلم، فالشارع كان يضفي رونقاً خاصاً على بيروت الستينات يمنحها هوية ثقافية عبر صالات السينما ومقاهيه والعدد الكبير من المحال التجارية والشركات التي كانت مقصد الجميع، ويشكل مكاناً يتسع لكل الناس، والصالات التي كان يعج بها الشارع، ابرزها سينما «الحمرا» ومسرح «قصر البيكاديللي» و«الكوليزيه» و«مونت كارلو» و«الدورادو» وغيرها، تشهد على تاريخ منطقة لطالما شكلت عز بيروت ولا ندري لماذا اريد طمس معالمها بعد الحرب الأهلية اللبنانية.

من المسؤول عن تدهور حال دور السينما في الحمرا؟ هل هم اصحاب الصالات الذين لم يواكبوا التطورات العديدة التي حصلت بعد الحرب؟ ولماذا نمت صالات في مكان آخر؟ وهل كان هذا على حساب صالات السينما في الحمرا؟ وهل من السهل تحويل هذه الدور الشاهدة على حقبة «ذهبية» من تاريخ بيروت الى محال تجارية؟ الا يحق لبعض الصالات بلفتة رسمية من الدولة كالبيكاديللي مثلاً التي تعتبر «تراثاً لبنانياً».. لاستضافتها العديد من النجوم كالسيدة فيروز وشوشو ودريد لحام وزياد الرحباني وشارل ازنافور وداليدا؟

اسئلة عديدة تدور في بال كل من يمر في شارع الحمرا وتقلق العديد من اصحاب هذه الدور الذين وصلوا الى درجة اليأس فكانت النتيجة الإقفال او النزاع... أو الامل «بركي بكرا بصير شي».

يضم شارع الحمرا احدى عشرة صالة، باكورتها كانت سينما الحمرا التي افتتحت في 6 اكتوبر (تشرين الاول) 1957وكانت الاولى خارج الوسط التجاري مع انتقال الحركة الى الشارع الذي اعتبر حينها مقصد الشباب المنتقل من الوسط ليؤسس هوية حديثة. وزحمة الرواد كانت تمتد في سينما الالدورادو الى الخارج على الرصيف حتى الفرن الملاصق لمدخل السينما حينها اصدرت البلدية قراراً في الستينات منعت فيه الخروج من الصالات في الوقت عينه.

وكان لكل صالة من هذه الدور جمهور معين نسج علاقة خاصة مع هذه الامكنة حتى بات جزءاً لا يتجزأ منها. فرواد صالة «اديسون» كانوا طلاب الجامعة الاميركية و«البيكاديللي» كانت ملتقى الفنانين العرب والعالميين.

غير ان بوادر الازمة التي طرأت على صالات «الحمرا» تعود الى سنين الحرب اذ تعرضت كغيرها من المباني الى احتلال ميليشياوي فرضته قوى الامر الواقع التي سيطرت على الشارع. اما محاولات خروج القطاع السينمائي في الحمرا من ازمته، فقد بدأت مطلع التسعينات بعد طي صفحة الحرب الاهلية فكان لا بد من اعادة ترميم هذه الصالات، التي تعرض جزء كبير منها الى الخراب من جراء الاهمال وتحطيم الكراسي وتسرب المياه الى الصالات.

وفي هذه الاثناء تم الترخيص لعدة مجمعات في مناطق مختلفة تضم من 3 الى 8 صالات سينما، اضافة الى المطاعم والمقاهي واماكن التسلية. ولم يعد هناك سينما واحدة بل مشروعاً متكاملاً كما «لي دون»، في منطقة فردان و«الكونكورد» في الصنائع (غرب بيروت) و«سوفيل» في الاشرفية (شرق بيروت) وغيرهم. وهذه المجمعات بالرغم من ضخامتها تختلف مساحة صالاتها الا ان بعضها لا يضم اكثر من 70 كرسيا ويشير جمال عيتاني مدير شركة (عيتاني السينمائية)، التي تملك سلسلة من دور العرض (البيكاديللي، سارولا، برودواي، جان دارك، مارينيان...)، في هذا الصدد ان الدولة هي سبب مشكلة دور السينما في الحمرا.

فبعد ان كانت الرخصة تتطلب مواصفات وشروطا دقيقة مراقبة من قبل البلدية، شرّع بعد الحرب لعدد من الدور من دون اي مواصفات خاصة من ناحية عدد الكراسي او الصالات، وحوّل البعض مرآب السيارات في المجمعات الكبرى الى صالة بهدف الكسب التجاري. ولم يعد اصحاب المجمعات السينمائية الحديثة يعتمدون على الربح من خلال الصالات بل من المحلات والمطاعم المحيطة بها. ويضيف عيتاني ان قانون الايجار الذي صدر بعد الحرب ارغم المستأجرين على دفع مبالغ طائلة كبدل للصالات، الامر الذي ضاعف الازمة.

اما سبب تحول دور السينما في الحمرا قبل اقفال معظمها الى عرض الافلام العربية، كما يوضح عيتاني، فيعود الى سيطرة شركتين لتوزيع الافلام الاجنبية في لبنان مما يؤدي الى الاحتكار كذلك امتلاك هؤلاء الموزعين للمجمعات السينمائية ويقول ان معظم الدور التي كانت تملكها شركة عيتاني السينمائية قد أقفلت، باستثناء سينما «سارولا» التي تتكبد الخسائر يومياً من دون اي مردود، مشيراً الى ان الفيلم الوحيد الذي حصد ارباحاً لا بأس بها هو «صعيدي في الجامعة الاميركية». بالاضافة الى ذلك، برزت بعد الحرب ظاهرة تهريب الافلام كذلك الصحون اللاقطة، الامر الذي جعل الصالة «خسارة في خسارة». فيسرا وعادل امام ونبيلة عبيد لم تعد اسماء قادرة على جذب المشاهد اللبناني الذي بات يفضل افلام «العنف» و«الاكشن» الهوليودية.

هذا التاريخ الثقافي اللبناني بفعل جملة العوامل التي ذكرت آنفاً وبفعل المتغيرات التي طرأت على شارع الحمرا بات يشكل مشهداً مضحكاً مبكياً.

فـ «الالدورادو» تحولت الى محل للألبسة يحمل الاسم عينه كذلك «البافيون» وسينما «الحمرا» التي لا زالت تحتفظ باللافتة. ولم تنجح افلام «البورنو» المهربة من جذب المشاهدين في سينما «اديسون»، التي ينتظر شاغلها «الخلو» لإقفالها، وسينما «مونت كارلو»، تم تأهيلها لتصبح استديو تصوير لقناة راديو وتلفزيون العرب ولم يعد فيها شيء يدل انها كانت صالة سينما، اذ اعيدت هندسة الصالة من جديد وأبقي على بعض الكراسي عند المدخل ربما للذكرى، كذلك سينما «الاسترال» و«السارولا» جميعها اصبح في الرمق الاخير.

والصالات الاخرى اقفلت نهائياً والبعض وضع لافتة كتب عليها (مقفل بسبب التصليحات)، التي تستمر منذ سنوات في عذر لا يقنع احداً لكنه لا يثير شماتة الآخرين.

هكذا يتضح ان مشكلة صالات السينما في الحمرا بشكل رئيسي هي مالية، الا ان هناك اسباباً اخرى منها انتهاء دور مالك الصالة ليحل مكانه الموزع كذلك اختلاف اذواق الرواد الذين باتوا بمعظمهم من الشباب بعد ان كانت السينما في الماضي «نزهة العائلة». وبهذه الطريقة، تطوى الصفحة الاخيرة من حياة شارع كان شاهداً على الثقافة، لكن يبدو ان ارادة خفية ترمي الى دفن معالمه لاحياء «المدينة» العريقة للمستقبل.