لبنانيات واجهن السخرية وتابعن دروس محو الأمية

تلاوة القرآن هي الهدف الأول وعدم الشعور بالجهل حيال الأولاد والأحفاد

TT

اختارت عجوز في الثالثة والسبعين الالتحاق بالمستوى الاول في دورة محو الامية على الرغم من انها تلقت في سن مبكرة بعض العلوم التي تخولها معرفة مبادىء القراءة الاولية، ولم تهتم بما يقال هنا وهناك بل تريد اتقان القراءة.

اما لماذا تتوجه كبيرات السن في لبنان الى دروس محو الامية، فالسؤال طرحته «الشرق الأوسط» على عدد من المنتسبات الى الدورة التي تجمع مستويات ثلاثة. واجتمعت النسوة في حلقات على طاولات صغيرة اعدت غالباً لتعلم قراءة القرآن وبعضهن ممن يعييها الجلوس على الارض اتخذت مع طاولتها المدرسية المرتفعة ركناً من الصف.

* أعمار متباعدة

* ضجيج الاصوات المتصاعدة حين القراءة، واصوات المعلمات يطلبن منهن الكف عن اللهو والمزاح المتبادل، وهناك معلمة المستوى الاول (الصف الاول) تؤنب احداهن بأدب التعامل مع الاكبر سناً، لانها ببساطة «لم تنجز واجبها في المنزل». اما احدى التلميذات فتستأذن ممازحة «اريد ان ادخل الى الحمام»؟،. واخرى تحدث زميلاتها عن اتمامها واجباتها المدرسية بقولها «انا حافظة كرجة مي». وهناك من تقول: «انت اكبر مني، لكنني اشطر منك بكثير».

والمستويات الثلاثة تجمع اعماراً متباعدة ومتنوعة، منهن من يصحبن حفيداتهن اللواتي يشاطرنهن الدروس ذاتها في مدارسهن. واخريات يأتين متأخرات فيتخلفن عن الدرس الاول، وبعضهن احببن المعلمة فقررن البقاء في الصف نفسه السنة المقبلة نساء كثيرات انتسبن الى الدورة فكان لنا لقاء بهن قبل بدء الصف.

علوية فواز (ام ماجد) تبلغ من العمر 62 عاماً، وقد تلقت علومها الاولى منذ عقود فنالت شهادة في الصف الثالث الابتدائي، وبعد ذلك كان قرار الاهل بمكوثها في المنزل وكانت في تلك الآونة تتلقى علومها في القرآن داخل البيت، وبعد ان ألمت بقراءة «جزء عم» من القرآن الكريم، اتجهت الى مهنة خياطة الملابس وبدأت معها تكتب المقاسات وتقول: «كنت اعرف الحسابات جيداً». وبحثت ام ماجد كثيراً عن من يعلمها القراءة بشكل افضل، لكن حلمها لم يتحقق نظراً لضيق وقتها فهي سيدة منزل وام لعائلة كبيرة. اما اليوم تقول «اصبح لدي خادمة واولادي شقوا طريقهم في الحياة، ووقتي يتسع للقراءة والزيارات ايضاً. واصبحت وقد ترفعت الى المستوى الثالث في دروس محو الامية بعد ثلاث سنوات من المتابعة اجيد قراءة الادعية والسور القرآنية. ولا انكر اني اتغيب احياناً عن الصف مرغمة».

وام ماجد من الشهيرات في صفها بتكرار عبارة «كرجة مي» فعندما تسألها قراءة سورة من القرآن الكريم تقول: «انا أقرأها لأني اعرفها كرجة مي». وتضيف ايضاً «اشاهد اليوم الافلام العربية وأسعد في قراءة اسماء الممثلين». ويهتم ابن ام ماجد بتعليمها الكتابة من خلال املاء او اسماء تكتبها للاشخاص والاشهر والايام «وهو يصحح لي اخطائي».

* الكتابة أصعب من القراءة

* اما نسيمة مطر فتصغر ام ماجد بعشر سنوات (50 عاماً) وهي تشاطرها الصف الثالث وتعتبر «ان الكتابة اصعب بكثير من القراءة، واحاول في المنزل ممارستها لكنني اتراجع ولا استطيع».

وتقول الحاجة نسيمة «لم استطع قراءة اسمي يوماً، والله يرحم امي وابي، اللذين لم يعلموني. وعلى الرغم من ذلك فأنا اعذرهم لانهم كانوا فقراء يعيشون في القرية ولم يملكوا حتى القليل من المال لتسجيلي في المدارس الحكومية» وتأسف نسيمة لان ابنتها تضحكها فكرة التعلم فتقول لها «شو بعد في عمر لتتعلمي»، وتعلق نسيمة: «هي تؤلمني عندما تقول هذا». مضيفة «كان قلبي محروقاً لأقرأ، واليوم اقوم بتهجئة الكلمات والاحرف على يافطات المحلات عند وصولنا الى قرانا في منطقة الجنوب، كما اقرأ الكلمات العربية الواردة في التلفزيون، وكثيراً ما اقرأ المجلات والجرائد امام ابنتي الصغرى لترشدني. ويسعدني كثيراً اني استطيع قراءة اسماء اولادي، وهذا ما يلغي اي قهر تجاه الاستهزاء من قبل العديد من الناس. ولن اتورع عن تكرار التجربة لتقوية اسلوبي وتطويره».

وتقول امينة فرحات (46 عاماً) «لم اكن اعرف شيئاً، واشعر اني ولدت من جديد وبدأت انظر الى الحياة بمنظار آخر. والحقيقة لم اقل لأحد من عائلتي اني تسجلت في صف محو الامية لاني اردت ان افاجئهم. دائماً يقولون نزورك في المنزل، ولا نجدك، ويسألني كل من زوجي وابني عن وجهة سيري فلا اجيبهم اجابة نافعة».

وتقول امينة «من المؤسف ان يستهزىء احدهم بمحو الامية لان المسألة بكل بساطة تؤدي الى تسهيل نمط حياتنا كسيدات لا يقرأن، خصوصاً اننا اليوم نستطيع الدخول الى المستشفى والتوجه الى اي غرفة نريد من دون سؤال مكتب الاستعلامات». وتقول امينة ضاحكة «لدي سبعة احفاد احدهم يقول لي: تاتا دروسنا مثل دروسكم، كيف هذا وانت اكبر مني بكثير». وتذكر امينة انها رغبت في القراءة اكثر من الكتابة «فهل سنكتب مكاتيب بعد هالكبرا».

واكبرهن منيفة سمور (73 عاماً) قالت ضاحكة: «وهل فاتنا القطار كي ننصرف عن العلوم»، ثم تستطرد لتقول: «اتعلم بهدف قراءة القرآن وهل تبقى لي غيرها سلوى في آخر العمر، حتى ان بناتي وهن متزوجات شجعنني كثيراً على الانخراط في هذه الدورة، وانا اشعر بحماس شديد لتعلم القراءة وإن كان اخي يسخر مني، وهو الذي كان يضربني كي اذهب الى المدرسة سابقاً، اما اليوم فيقول لي هل تريدين نيل شهادة. لكنني اشعر بالتحدي لاني اصبحت اكتب اسمي في معاملات المصرف بعد ان كان اصبعي متسخاً دائماً من البصم.

تزوجت فاطمة خليل في سن مبكرة، وهي الآن في الـ 51 من العمر، وتقول: «لم اكن اعرف اي حرف من الاحرف الابجدية، لكن شغفي بالعلم دفعني الى تشجيع اولادي على نيل شهادات عليا، فمنهم الطبيب والمهندس وخريجة ادارة الاعمال. وقد كان العلم هدفي لكن العمر داهمني وسنوات الحرب ضيعت املي بالتعلم باكراً، ولو في صف لمحو الامية. ولطالما حاول اولادي ان يعلموني لكن خجلي امامهم لمجرد جهلي القراءة والكتابة كان يمنعني من المتابعة، وكنت اتساءل دائماً كيف اقف امام ابني وانا اجهل قراءة كلمة بسيطة حتى. وكنت احاول دائماً ان اكتم جهلي هذا عن كل المحيطين بي واقنع نفسي باني لست السبب في هذا، بل والديّ اذ قررا ان اعتني بأخوتي وانا الكبيرة عوضاً عن دخول المدرسة. وهو ما انعكس علي في تربيتي لبناتي، فلم ادع واحدة تعمل في المنزل رغبة مني في اهتمامهن بدروسهن».

* تحد لإثبات الإرادة

* لم تقل فاطمة لاحد انها انضمت الى عدد من راغبات العلم والقراءة «ليس خجلاً ولكنني اردتها مفاجأة تبرهن على حماسي وارادتي. واردت كذلك ان احقق ما حرمت منه ولم افكر في سني المتأخرة. وليس في نيتي اليوم الانتساب الى الجامعة او الوظيفة بقدر ما ارغب في قراءة القرآن واسماء اولادي. وقد باتت القراءة الآن شغلي الشاغل وهي تأخذني من الزيارات وترتيب المنزل».

اما سكنة حمد (60 عاماً) فقد ادخرت المال وقامت بتسجيل نفسها خفية في بادئ الامر لان اسرتها لم تكن ترغب في انتسابها الى دروس محو الامية. اما هي فكانت تشعر بالغبن خصوصاً عند زيارتها الاماكن المقدسة حين يتوجب عليها قراءة الادعية واداء الفرائض والصلوات «كنت ارجو الناس ليقرأوا عني، اما الآن فتحسن لفظي خلال اداء الصلاة». وتضيف سكنة «احياناً ادعو حفيدي ليسمِّع لي فيقول ليس لي جلد على دروسك وانت في الصف الاول الابتدائي».

واخيراً تأتي رمزية العساف (63 عاماً) مصدر «ازعاج» للكثيرات لانها ببساطة والدة المعلمتين في المستوىين الاول والثالث، ولديها بالتالي حظوة في الصف، مما يشعل غيرة رفيقاتها ويعبرن عن ذلك ممازحات «تنجحها ابنتاها لانها امهما وهل هذا عدل؟ فهما بالتأكيد تقوياها بالدروس في المنزل». وفي احدى المرات سألت المعلمة امها عما اذا كانت قد كتبت فرضها في المنزل فقالت الحاجة رمزية «وهل تتركن لي مجالا لذلك انتن واولادكن؟». وتقول رمزية ساخرة انها تتعلم «لاؤمن مستقبلي»، بينما الحقيقة انها اقتنعت بالانتساب الى الصف منذ سنوات، على الرغم من الحاح ابنتيها الدائم. واليوم «رضخت للامر بناء على رغبتهما. وانا منذ البداية ذكية لاني اعرف من دون تعليم مسبق جميع الارقام واتقن الحساب واطلب ارقام التلفون واحفظها جميعاً، واستطيع تهجئة الكثير من الاحرف واحفظ اشكال اسماء الاشخاص على دفتر التلفونات».