السعودية في بيعة الفهد... تيار التطوير الداخلي والموقف الثابت خارجيا

إشراف: عبد الله القبيع ـ إعداد: محمد سمان

TT

قد تكون مصادفة أن يحتفل السعوديون سنويا بيومهم الوطني، وبعد شهر تقريبا يحتفلون ببيعة مليكهم وتوليه مقاليد الحكم. وهما مناسبتان يقفون عندهما كثيرا متأملين (عهد التأسيس) و(عهد الفهد) في آن واحد.

والواقع أن السعوديين حاليا ليس لهم حديث في مجالسهم سوى تحليل أبعاد قرارات جريئة وسريعة اتخذتها قيادتهم بالدخول بقوة في عصر (النظام المؤسساتي)، بدءا بانشاء مجلس أعلى للاقتصاد مرورا بالكشف عن نظم ضرائبي جديد وفتح تملك واستثمار الاجانب في سوقي العقارات والاسهم، وانشاء الهيئة العليا للاستثمار والهيئة العليا للسياحة.

ومن داخل أحاديث المجلس تلك، تبدو حقيقة مهمة، فالقرارات بدت معظمها لا تحمل عنصر المفاجأة الكبرى، فالتغيرات المتلاحقة على المسرح الدولي جعلتها تبدو وكأنها (نتائج حتمية) في رأيهم، تستطيع من خلاله الحكومة التفاعل واستيعاب تلك التغيرات بنفس ايقاع سرعتها، في مقابل واقع داخلي بدا بحاجة الى برنامج تخطيطي وتنظيمي ورقابي مقبول في ظل تحديات المرحلة الحالية والمقبلة، وإن كانت دواعي التنمية الأولى تطلبت (تعددية) الجهات التخطيطية والتنظيمية والرقابية.

داخليا يمكن القول بوضوح تام أن (الايقاع) السريع الذي توصف بها كل تلك القرارات السابقة أن السعوديين لم يتحرجوا ابدا في الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في انشاء كيانات هدفها التخطيط السليم واتباع السياسات الملائمة، فالنجاحات التي حققتها دول مثل كوريا وسنغافورة كان وراءها ليس مجلسا واحدا فقط بل عدة هيئات، فهناك ما عني بشؤون التصنيع وآخر بالتصدير والسياحة وغيرهما. ومن هنا ثمة اتفاق كبير على أن ارادة اقتصادية وسياسية كانت المحفز الاول لكل ما حدث، لكن على الطرف الاخر من يقول هنا ان صانع القرار السعودي وهو يرغب في التفاعل مع التغيرات، يصر بشدة على أن يكون له (نموذج خاص) به ينطلق من ثوابت داخلية تتواءم مع ظروفه، وبيئته، وموروثه، وتقاليده.

وما بين ذلك كله. هناك حقيقة ان ما تحصده البلاد اليوم على الصعيد الداخلي هو نتاج خبرة ثرية ومتراكمة للعاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز في القيادة والتنمية، كانت لها مؤشرات ومقدمات كبيرة خلال الاعوام الماضية عبر سلسلة من قرارات وتنظيمات أدخلت بلاده في قائمة الدول ذات التركيبة المؤسساتية الحديثة، بدءا بخطوة وصفت بأنها جريئة وواثقة عام 1993 باصدار الانظمة الثلاث، وهي: نظام الحكم، ونظام الشورى، ونظام المناطق، فأصبح للحكم في البلاد نظام أساسي ونظام شورى يعطي صانع القرار صورة أكثر شفافية عن المواطن وهمومه، وأخيرا نظام حول البلاد من مجتمع ريفي إلى حد ما إلى مجتمع مدني يوثق العلاقة بين الجغرافية والتنمية.

وبعيدا عن (التنظير) وتحليلات السياسيين، فإن الخطاب التاريخي الذي قدم به الملك فهد بن عبد العزيز صدور الانظمة الثلاثة السابقة، والذي نقل عنه قوله (في التاريخ الحديث تأسست الدولة السعودية الأولى منذ أكثر من قرنين ونصف القرن على تعاليم الاسلام على منهاج واضح في السياسة والحكم والدعوة والاجتماع، وهذا المنهج هو الإسلام عقيدة وشريعة)، يعطي دلالة على أن (عهده) وما صاحبه من تغيرات عصرية، هو في النهاية امتداد طبيعي لمنهج واضح وإن اختلفت طرق الإدارة والتعامل.

ومن هنا يجد المتتبع لظروف عهد الـ20 عاما كماً لا حصر له من النماذج الداخلية التي لا حصر لها، ليس فقط في كيفية التفاعل معها بل تطويعها واستثمارها، فنفط الثمانينيات وطفرته من مدخول تجاوز 100 مليار دولار، وهو رقم وصف بأنه فلكي، لم يشأ الملك فهد بن عبد العزيز أن يجعله يمر مثل سحابة مطر فحض على استثماره لصالح بنى تحتية ضخمة وسبع خطط تنموية ركزت على توسعة القاعدة الانتاجية وتوسيع مصادر الدخل ورفع أداء القطاع الخاص ليتمكن أخيرا من قيادة دفة الاقتصاد.

ونتيجة وكمحصلة لذلك كله، نجح الملك فهد بن عبد العزيز بسياسته تلك في أن تتخطى بلاده مصاعب وأعباء حرب الخليج الأولى والثانية والخروج بدولته بأقل الخسائر من دائرة شح السيولة وضغوط التضخم التي خيمت وألقت بظلالها عليها. ولم يشأ الملك فهد أن يدع ذلك المدخول الضخم لبلاده من دون أن يستقطع منه الكثير لصالح أقدس البقاع للمسلمين تضمه بلاده، فكانت التوسعة الكبرى للحرمين الشريفين في عهده وخصص لها ما يزيد عن 200 مليار ريال.

إن تجربة النموذج السعودي في التنمية تبدو فريدة من نوعها، ففي غضون ثلاثة عقود من الزمن تحولت السعودية إلى مجتمع حديث يتمتع بأعلى مستويات الرفاهية، وخلال تلك الفترة، انصبت جهود التنمية على بناء وانشاء البنية الاساسية والمرافق ووضع الهياكل والاطر التنظيمية للمجتمع والاقتصاد، وتم استثمار ايرادات النفط في برامج انشائية ضخمة، جعلت من السعودية ورشة عمل نادرا ما يشهد العالم مثلها.

إلا أن التقلبات الحادة التي مرت بها أسواق النفط خلال عقد الثمانينيات والربع الاخير من التسعينيات وبما أثر على هبوط ايرادات النفط وبالتالي الانفاق الحكومي، والذي كان وما يزال المحرك الفعلي للنمو الاقتصادي، فكانت تجربة الركود التي ادت بدورها إلى اختلال مؤقت في مسيرة التنمية، وبما أجبر الحكومة والفاعليات الاقتصادية التأقلم مع المعطيات المالية الجديدة. وعلى الرغم من حدة الانكماش الاقتصادي وآثاره السلبية على عدد من القطاعات والاضطرابات التي احدثت في مسار التنمية، فإن الاقتصاد السعودي نجح في تخطي هذه المرحلة واستعاد منحى النمو الايجابي، مع الاشارة إلى بروز ظاهرة عجز الميزانية والحساب الجاري.

كانت هذه التجربة صعبة لكنها كانت الدافع الاساسي وراء تبني استراتيجية التنويع الاقتصادي وترشيد الانفاق وتطوير بنية اقتصادية أكثر تنافسية وكفاءة وقدرة. وليس من قبيل المبالغة الاشارة إلى أن مستقبل التنمية ونتاجها على الامد البعيد تعتمد على مدى توافر الموارد البشرية المدربة وذات المهارات العالية التي تفي باحتياجات الاقتصاد في مراحلة المختلفة.

اما في الحقل الخارجي فإن عهد الـ20 عاما أيضا يحمل نماذج نجحت في تكريس السياسة السعودية كعنصر فعال في المجتمع الدولي وسط احداث أقل ما توصف بأنها (بالغة الحساسية) على هذا المسرح، فقد شهد الملك فهد بن عبد العزيز محطات تاريخية تمثلت في فلسفة الحرب الباردة والنزاعات الاقليمية والقارية.

ولم يشأ الملك فهد ايضا أن تمر هذه الاحداث دون أن يغرس موضع قدم لبلاده فيها كدولة تحظى باحترام على الصعيدين الدولي والاقليمي، وتمثل ذلك في استراتيجية واضحة في سياستها الخارجية مستندة في ذلك الى ثوابت دينية وأخلاقيات واضحة في كيفية تعاطيها مع القضايا العربية والشؤون والتطورات الاقليمية. ولم يكن ليأتي هذا الموقع المؤثر والاحترام الذي تحظى به الرياض من فراغ بل كان نتيجة سياسة حكيمة ومسؤولة وضع دعائمها المؤسس الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ وتمسك بها أبناؤه من بعده، وعمل خادم الحرمين الشريفين على تكريسها كممارسة يومية في السياسة السعودية وتعاطيها مع القضايا العربية والشؤون والتطورات الإقليمية، وتتلخص هذه الثوابت والمبادئ فيما يلي:

أولا: الموقف الصارم والحازم الذي يدافع عن القضايا العربية العادلة، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية باعتبارها القضية العربية المركزية، فالسعودية لم تتوان يوما عن دعم الشعب الفلسطيني ومساعدته في جهاده من أجل حقوقه الشرعية في أرضه ودولته. وفي مقابل ذلك اتسم الموقف السعودي بالوضوح تجاه السياسات الإسرائيلية، حتى أن موقفها من مبدأ (التطبيع) ربطته بالتوصل إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية والنزاع في منطقة الشرق الأوسط على جميع المسارات.

ثانيا: المرونة وبعد النظر في تعزيز التضامن العربي ونبذ الفرقة والارتقاء فوق الخلافات والتجاذبات بين الدول العربية مهما كانت أسبابها. وكان من نتيجة ذلك أن السعودية لم تكن في يوم من الايام طرفا في أي نزاع، بل كانت غالبا الطرف الوسيط الذي حاول رأب الصدع والجمع بين المتنازعين وإزالة النزاع وتغليب المصلحة المشتركة. ثالثا: دعم الدول العربية والوقوف إلى جانبها لتجاوز مشاكلها الداخلية، وأبرز دليل على ذلك الموقف السعودي من المشكلة اللبنانية ورعاية البلاد في عهد الملك فهد بن عبد العزيز مؤتمر الطائف الذي شكل دستورا للبلاد. ولم يقف الأمر عند اللبنانيين بل ترجمت السعودية مواقفها تجاه هذه الثوابت رقميا، إذ بلغ حجم المساعدات التي قدمتها للدول العربية 22 مليار ريال خلال خطط التنمية في صورة مساعدات للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في هذه الدول ودعم لجهودها من أجل الأمن والسلام الداخلي والاستقرار الاجتماعي.

رابعا: دعم مشروع مجلس التعاون الخليجي منذ إعلان قيامه، إذ كانت السعودية أولى الدول التي فتحت مساهمتها لأبناء دول المجلس في اكتتاب أكبر شركة بتروكيماوية في العالم وهي الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك)، ليقينها بأن الالتصاقات المالية بين الدول هي من أقوى الالتصاقات السياسية والدولية.

وهنا تسجل وقفة للموقف الصلب الذي اتخذه الملك فهد بن عبد العزيز إبان غزو العراق لدولة الكويت فقد كان لهذ القرار مرتكز لتجميع الصف العربي والإسلامي خلف القرارات الدولية والتي مهدت لعملية عاصفة الصحراء وتحرير الكويت.

خامسا: مثلت خدمة الإسلام والمسلمين أعلى قائمة اهتمامات الملك فهد بن عبد العزيز منذ توليه الحكم، إدراكا منه للمسؤولية الإسلامية التي تقع على عاتق بلاده فهي مهبط الوحي ومهد الرسالة وحاضنة بيت الله والكعبة المشرفة. ومن هذه الزاوية انطلقت السعودية في دعمها للدول الإسلامية وتجمعاتها، فقدمت يد المساعدة للأقليات المسلمة ماديا ومعنويا وخصصت مليارات الريالات لدعم انشاء المساجد والجمعيات الإسلامية.

سادسا: رسمت السعودية، ومنذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز وطبقها الملك فهد، سياسة دولية كلاعب مؤثر في الساحة الدولية منطلقة من ثوابت عديدة أبرزها: الإيمان بالسلام العادل والمساواة والمصالح المتبادلة بين الدول.

واخيرا، فمهما يكن من استعراض لـ(عهد الفهد) وما حدث فيه من تغيرات وتطورات والحاجة إلى تقييمه وكيف ينظر إليه، فإن شقيقه الامير سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام حينما سئل عن أكبر انجاز لعهد شقيقه، قال: «عمارة المسجد الحرام والنبوي وتحرير الكويت».