51 عاما في قيادة التعليم

TT

من باب التعليم العام في السعودية، دخل الملك فهد بن عبد العزيز، قبل 51 عاما، رسميا مسرح العمل السياسي الدولي، حيث قاده اول منصب رسمي في حياته العملية كأول وزير لوزارة المعارف الى تصنيفه كأبرز قائد إسلامي في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين.

الملك فهد عندما تجاوز في مناصبه الرسمية في بلاده موقع وزارة المعارف، لم يتخل حتى اليوم عن دعم قطاع التعليم من خلال مواقع المسؤولية الاخرى، الامر الذي دعا الى تكليفه في العام 1965 برئاسة اللجنة العليا لسياسة التعليم في السعودية، وما زال. وقبل ان يصبح مسؤولا عن التعليم كان طالبا اعجب بأدائه في الدراسة والده المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، حيث يروى ان الملك عبد العزيز كان يزور أنجاله في احدى المدارس، وكان قد تشكل لديه انطباع سابق من خلال الملاحظة الشخصية، الى جانب ما ينقل له من تقارير عن اداء نجله فهد وتقدمه في دراسته، وأعجب بذكائه وإدراكه ورغبته في الحصول على المزيد من العلم والمعرفة. وفي تلك الزيارة ألقى الطالب فهد بن عبد العزيز على والده، ارتجالاً، مجموعة من الأمثال والحكم والمقطوعات الأدبية شعراً ونثراً فسأله الوالد من أين أخذت هذه المختارات التي ألقيتها حفظاً؟ فأجابه: أخذتها من كتابي «دروس التهذيب» وهي مادة كانت تدرس في المدارس الابتدائية آنذاك قبل أن يستغنى عنها بمادة المطالعة، فسر الملك عبد العزيز لجوابه، وشكر مدرسيه على عنايتهم.

وكان المؤسس يقول لأنجاله بصريح العبارة: أنتم أحرار في تحديد مستقبلكم، لكني أذكركم بأن الصالحين والأقوياء من الناس هم الذين يعرفون كيف يخططون لمستقبلهم، وليكن معلوما لديكم أنها لا تتحقق الأهداف مالم تدعموها بالعلم والمعرفة والخبرة والخلق القويم، وفوق كل هذا بالإيمان بالله وكتبه ورسله.

ويقول الدكتور عبد العزيز الخويطر وزير المعارف السعودي الأسبق، في ذكرى مرور 20 عاما على البيعة، ان تَوَلّي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد الحكم قبل عشرين عاماً لا يعني بدء تأثيره على النمو والتطور الذي وصلت إليه البلاد; فأول مشاركة لـه جاءت بالتأثير المهم هي توليه وزارة المعارف; فالتعليم هو مفتاح باب التقدم، ومنه يوصل إلى الغايات التي يتطلع إليها المجتمع في جميع مرافق حياته.

ويضيف الخويطر بالقول: أدرك ـ حفظه الله ـ أهمية التعليم هذه، فالتفت التفاتة مصلح على التعليم، وركز جهده على الكم والكيف، فنشر المدارس في البلاد، أدناها وأقصاها، وزاد المدارس في المدن والقرى، وفتحها في المناطق النائية، وفي البراري، ثم توّجها بإنشاء جامعة الملك سعود، ففتح الباب على هذا في التوسع في التعليم العام ونشره، وفي التعليم العالي بإيجاد النواة، وهذه النواة لأنها وضعت في تربة صالحة، ووقت ملائم، نمت حتى وصلت اليوم إلى ثماني جامعات، مع الكليات المتفرقة التي سوف تؤدي في آخر الأمر إلى توسع يوصلها إلى جامعات.

وفي خطاب رسمي عقب توليه الحكم، قال الملك فهد: من أهدافنا أن يستمر نشر العلم بالسرعة التي يسير عليها، ثم أن نركز على رفع مستوى التعليم، فنعنى بالكيف عنايتنا بالكم. وكانت انطلاقته بالتعليم انطلاقة جادة متوثبة كان فيها يسابق الزمان، ويطوّع الظروف; لأنه كان يدرك أنّ التعليم هو الركيزة الأساسية لبناء كيان الأمة ورفع مستواها، لذلك عمل على إشادة صرح العلم والمعرفة، فوضع القواعد الأساسية لبناء النهضة التعليمية، وعمل على توفير مقوماتها في ما نشهده من تطور ملموس في انتشار المدارس على نطاق واسع من المملكة على رحابة امتدادها واتساع رقعتها، حسب حديث عبد العزيز بن عبد الله السالم امين عام مجلس الوزراء السعودي في ذكرى البيعة.

ويعتبر السالم ان محدودية التعليم في البلاد لم تكن العائق الوحيد امام مهمة اول وزير معارف، بل ان تنوّع طبيعة أرضها ما بين سواحل منخفضة وجبال مرتفعة وصحارى واسعة، فهي (السعودية) بلاد تشبه القارة، ومع اختلاف عوامل الطبيعة الجغرافية وتناثر السكان بين الوهاد والمرتفعات والوديان والجبال، فقد استطاع الملك فهد أن يجتاز كل تلك العقبات لإيصال العلم إلى جميع السكان في مختلف البلدات والقرى والهجر، وكانت تلك نقلة كبيرة في مجال التعليم الذي امتد ليشمل الحاضرة والبادية، فلا يشعر أي مواطن أنه لم تتحقق له الدراسة لأنه في قرية منزوية أو هجرة بعيدة أو في صحراء تكاد تكون مقطوعة الصلة بالمدن الآهلة بالسكان، وبهذا الامتداد الكثيف بدأت مسيرة التعليم خطواتها الفسيحة رأسياً وأفقياً، ولم تقف جهود الملك فهد عند حدّ، سواء حينما كان وزيراً مسؤولاً عن التعليم أو بعد أن أصبح ملكاً يؤمن بأهمية الرسالة العلمية، فقد عمل على توسيع النطاق التعليمي على مختلف مراحله وتنوع برامجه واتساع قاعدته.

ويشير السالم الى ان التعليم العالي شهد ايضا قفزة عالية على يد الملك فهد، ويقول: انه كما اهتم بالتعليم في بناء قاعدته الأساسية اهتم بالتعليم في ما فوق ذلك، فقد وجَّه اهتمامه للتعليم العالي بعد أن أرسى دعائم المراحل الأولية، فكانت الجامعات التي ضمَّت آلاف الطلاب، وكَثرتْ التخصصات المطلوبة لمواكبة النهضة التي تشهدها البلاد في العديد من الميادين وعلى مستويات كثيرة تشمل جميع المناطق، وتستجيب لمطالب المجتمع، وتسد احتياجاته.

وربط الامين العام لمجلس الوزراء السعودي العام الماضي بين مناسبة مرور عشرين، ومرور 50 سنة على توليه وزارة المعارف.

لكن الملك فهد يرى نفسه معتزا بالانتماء الى اسرة التعليم، ويقول مخاطبا حشدا من مسؤولي التعليم والطلبة خلال زيارته لجامعة الملك عبد العزيز في العام 1983: إن من الأشياء التي أعتز بها انتسابي لأسرة التعليم. وإذا كنت قد أديت واجبا من الواجبات في ما يتعلق بالنهضة التعليمية في المملكة العربية السعودية فلا أدّعي أنني أنا ـ فحسب ـ الذي أديت هذا الواجب الذي وصلنا به إلى مركز مشرّف جدا بالنسبة للمملكة العربية السعودية. لكنّ هناك مشاركين لي في هذا العمل أدوا الأمانة، منهم مَنْ تغمدهم الله برحمته، ومنهم مَنْ يعملون الآن في مختلف القطاعات سواء كانوا في وزارة المعارف أو في أماكن أخرى. وفي نفس المناسبة يقول الملك فهد: نحن لا ندّعي الكمال، لأن الكمال لله عز وجل، ولكننا نستطيع أن نقول إن الفترة التي لا تتجاوز الثلاثين عاما على الانطلاقة الأولى للتعليم والتي أوصلتنا إلى المراحل التي وصلنا إليها الآن سواء كانت في الناحية العلمية أو الصناعية أو الاجتماعية، تعد قصيرة جدا. وبعد 7 سنوات من ذلك الحديث، يستقبل الملك فهد في قصر السلام جمعا من مواطني البلاد ويرى امامهم ان: مستوى الجامعات السعودية أصبح مشرّفا، وما زلنا ننتظر المزيد من الارتفاع بهذا المستوى، ليكون الناتج العلمي في مستوى طموحاتنا الكبيرة.

ونقل مسؤولون وفعاليات من دول عربية واجنبية، ممن التقوا بالعاهل السعودي خلال زياراتهم الرسمية للبلاد احاديث الملك فهد بشغف واعتزاز حول تجربة التعليم في السعودية. وينصفه احدهم فيقول: يحق للرجل ان يفتخر. وصل اعداد الملتحقين بالتعليم العام والجامعي الى معدلات هائلة مقارنة بالمدة الزمنية التي انطلق فيها التعليم في بلاد كان 90 في المائة من اراضيها تعاني من غياب كامل للحركة التعليمية الحديثة وحتى البدائية.

ولا يقتصر تفكير وحديث الملك فهد عن التعليم، على المجالس الرسمية او مع ضيوفه، بل انه ذهب ابعد حينما اشرك معه اكثر من مليار مسلم وجه اليهم حديثه في خطاب حج العام 1995، فقال: إننا نعكف في المملكة العربية السعودية على مراجعة الأهداف والسياسات التربوية والتعليمية التي تتوافق مع تعليم العقيدة في بلادنا لنحافظ دائما على هذه الثروة، ونعدها الإعداد الجيّد للمستقبل وننطلق إلى الغد بكل ثقة وإيمان وطمأنينة إلى سلامة تكوينها وأصالته. وكما تحدث مع الحجاج فانه طرح تجربة ومسيرة التعليم التي قادها بنفسه، امام مجلس الشورى السعودي في العام 1998، حيث كاشف اعضاءه بمعدلات واتجاهات التعليم العام والمتخصص حتى تلك اللحظة بالقول: كان نمو عدد مدارس البنات خلال تلك الفترة الماضية أسرع من نمو عدد مدارس البنين، فقد بلغ النمو في مدارس البنات 12.4 في المائة سنويا في حين بلغ في مدارس البنين 5.3 في المائة سنويا، وازداد عدد الطلبة والطالبات في جميع مراحل التعليم العام والعالي من 547 ألف طالب وطالبة عام 1390هـ إلى أكثر من 4.5 مليون طالب وطالبة عام 1418/1419هـ، أي أن عدد الطلاب والطالبات تضاعف أيضا أكثر من ثماني مرات خلال الفترة المشار إليها، وهي فترة قصيرة جدا في بناء الأمم والشعوب. كما ارتفع عدد الطلبة الملتحقين بمدارس ومعاهد التعليم الفني من 840 طالبا عام 1390هـ إلى نحو 420.28 طالبًا في (العام الهجري) 1418/1419، أي حوالي 33 ضعفًا خلال الفترة نفسها.