الاقتصاد السعودي على مشارف العام 2003: إصلاحات هيكلية تتأقلم مع المتغيرات الدولية

TT

قبل نحو شهرين تقريبا من اليوم وهو الذي يصادف مرور 21 عاما على تولي الملك فهد بن عبد العزيز مقاليد الحكم، لا يزال السعوديون يتحدثون في مجالسهم عن القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء بطرح اسهم شركة الاتصالات، فهم يرونه الحلقة الأخيرة في خطوط استراتيجية التنمية الاقتصادية لبلادهم والهادفة إلى إعادة هيكلة القطاع الاقتصادي وتنويع مصادر دخله بهدف التقليص التدريجي للاعتماد على النفط كمورد أساسي. وثمة اتفاق بأن اكتمال تلك الحلقة كانت لها مؤشرات ومقدمات خلال الأعوام الماضية أتت ثمارها بفضل سياسات حكيمة ومرنة اتخذتها حكومة الملك فهد بن عبد العزيز، فقد نجح الاقتصاد السعودي في تخطي مصاعب وأعباء حرب الخليج والخروج من دائرة شح السيولة وضغوط التضخم الذي خيم عليه. قدم التقرير السابع والثلاثون لمؤسسة النقد العربي السعودي (ساما)، الذي تسلمه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز العام الماضي، دلائل واضحة على خروج الاقتصاد الوطني من دائرة الضغوط التضخمية وشح السيولة، في ظل سياسات وإصلاحات هيكلية متأقلما بذلك مع المتغيرات الدولية، والتي انعكست بالمزيد من الخطوات الإيجابية، ترجمها ارتفاع نصيب القطاع غير النفطي إلى نحو ثلثي الناتج المحلي الإجمالي.

ويسجل لتقرير «ساما» شفافيته الكاملة في الحديث عن مسار الاقتصاد السعودي وتحدياته وهو يبدأ عقده الثالث، فبينما اشار إلى التحسن الكبير في الايرادات في ظل استمرار ارتفاع اسعار النفط اعترف بابرز تحدياته وهي: استمرار عبء الانفاق الحكومي، النمو البطيء لبعض القطاعات، تصاعد وتيرة النمو السكاني وما يسببه ذلك من ضغط على البنية التحتية والعلوية وسوق العمل.

وتبعا لتقرير «ساما» صعدت الايرادات الحكومية الفعلية بنسبة 9.74 في المائة خلال العام 2000 إلى 1.258 مليار ريال في حين ارتفعت المصروفات بنسبة 28 في المائة وصولا إلى 3.235 مليار ريال، لينخفض بذلك عجز الميزانية العامة للدولة، لتحقق الميزانية العامة للدولة فائضا مقداره 7.22 مليار ريال، متوقعا في نفس الوقت أن يستمر التحسن في وضع ميزانية العام 2001 في ظل الانتعاش الكبير لأسعار النفط وبفضل سلسلة الاجراءات التي تبنتها الدولة لزيادة الايرادات المحلية وضغط النفقات. وكانعكاس طبيعي سجل ميزان المدفوعات تحسنا كبيرا.

وكشف تقرير «ساما» إلى أن التقديرات تشير إلى تحقيق فائض في الحساب الجاري لميزان المدفوعات بلغ 7.53 مليار ريال مقارنة بفائض قدره 5.1 مليار ريال العام 1999، وهو أمر سيعزز قوة الريال الذي يتلقى دعما كبيرا من «ساما» للمحافظة على استقرار صرف العملة وتكوين رصيد من العملات الاجنبية.

وطبقا للتقرير نما الناتج المحلي بالاسعار الجارية بمعدل 7.21 في المائة مقارنة بمعدل نمو 5.11 في المائة في العام 1999، وحقق القطاع النفطي معدل نمو نسبته 8.52 في المائة، كما حقق القطاع غير النفطي نموا نسبته 7 في المائة، في حين سجل القطاع الخاص معدل نمو نسبته 5.4 في المائة، وبلغ معدل نمو القطاع الحكومي 2.5 في المائة.

وأكدت السعودية في خطة التنمية السابعة (2000 ـ 2004) عزمها على تحسين رصيد الحساب الجاري في ميزان المدفوعات وتحويله من عجز يمثل 3 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي في سنة الاساس الى فائض يمثل نحو 9.6 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي في نهاية الخطة. كما كشفت عن طموحها خفض نسبة عجز الموازنة العامة الى الناتج المحلي الاجمالي من نحو 8.10 في المائة في سنة الاساس الى ما يقارب الصفر في نهاية الخطة، عبر زيادة الايرادات الحكومية غير النفطية وترشيد الانفاق.

وبدا بوضوح أن العوائد النفطية ساهمت إلى حد كبير في الوضع الحالي، كما أن الاستمرار في تحسن الأسعار سيضيف أبعادا جديدا لميزانية الدولة، خاصة مع زيادة وتيرة الصادرات خاصة النفطية (باستثناء زيت وقود السفن) وبلوغها 8.167 مليار ريال قابله أيضا انخفاض في الواردات، وبما كان له أكبر الأثر في انخفاض العجز بين الحساب الجاري وحساب الخدمات والتحويلات.

ويلفت تقرير «ساما» النظر إلى مؤشر مهم وهو عدم وجود غلاء في المعيشة، فقد انخفض متوسط المؤشر العام لتكلفة المعيشة في جميع المدن بنسبة 6.0 في المائة عام 2000، وتعني مستويات الأسعار السلبية أن النمو الاقتصادي ألجم ارتفاع معدلات التضخم. وفي المقابل أيضا فإن النمو في العرض النقدي بنسبة 5.4 في المائة حسب تقرير «ساما» يعد مؤشرا ايجابيا على استمرار النمو، فهو يدل على انخفاض مستويات الاقتراض الحكومي، مما يعني عمليا تلاشي مخاوف الضغوط التضخمية.

وعلى صعيد النشاط الاقتصادي أظهر التقرير وجود تصاعد للحركة الاستثمارية للقطاع الخاص مستندا إلى قاعدة مصرفية مكنته من زيادة قدرته على منح الائتمان وزيادة استثماراته. وزادت رساميل واحتياطيات هذه البنوك بنحو 2.1 مليار ريال لتصل إلى 5.43 مليار ريال في العام .2000 ويشير تقرير «ساما» إلى نمو قطاعات، الصناعة، الكهرباء، النقل والمواصلات، والهاتف مما يدل على استمرار الدولة في دعمها. وبناء على ذلك ارتفع عدد المصانع إلى 3381 مصنعا برساميل بلغت 3.239 مليار ريال. وأظهر تقرير «ساما» استمرار دعم الدولة للأنشطة الاجتماعية والرفاه فزاد عدد الطلبة في التعليم العام إلى 1.4 مليون طالب وطالبة، ونفذت الحكومة مشاريع تنمية عمرانية شملت المياه والصرف الصحي، تصريف مياه السيول، بناء الطرق، وانشاء الحدائق والأسواق، وزادت قدرة القطاع الصحي العام إلى 318 مستشفى.

وتحدث التقرير عن سياسة التخصيص، مشيرا الى انه خيار استراتيجي الهدف منه توسيع دور القطاع الخاص، مؤكدا في هذا الشأن أنه شهد تحولا حقيقيا في العام 2000 من خلال دمج شركات الكهرباء وتوقيع عقد تخصيص الخطوط السعودية، إضافة إلى قرار مجلس الوزراء بتكليف المجلس الاعلى بالاشراف على سياسة التخصيص بوضع خطة زمنية لقطاعات مستهدفة، وهي: الاتصالات، والبريد، والموانئ.

* ثوابت الاستراتيجية

* المتتبع للاستراتيجية السعودية في التنمية الاقتصادية يستطيع استنباط ركائزه السابقة، فالأول تمثل إعادة هيكلته وتنويع مصادر الدخل ينطلق من فسلفة مفادها أن النفط مهما بلغ حجم احتياطه فهو في النهاية قابل للنضوب. ولتحقيق ذلك نفذت الحكومة استراتيجية توسعة القاعدة الإنتاجية وتطوير القوى العاملة، وتضمنت ـ أي تلك الاستراتيجية ـ خطة طموحة للتنمية الصناعية، من أبرز أهدافها:

أولا: تحقيق الحد الأقصى من التصنيع القائم على استخدام الموارد الأولية المتوافرة محليا مثل المنتجات البتروكيماوية والنفطية.

ثانيا: تطوير الصناعات غير المرتبطة بقطاع النفط مثل التعدين والصناعات التحويلية والمواد الغذائية سعيا لتحقيق درجة من الاكتفاء الذاتي.

ثالثا: تشجيع الصناعات التصديرية ذات الميزة النسبية وتأمين الظروف الملائمة لها.

رابعا: رفع الكفاءة الإنتاجية للعمالة الوطنية.

خامسا: تحقيق التفاعل والتكامل في القطاع الصناعي.

سادسا: تطوير العلاقات الاقتصادية مع الدول لتحقيق هدف نقل التقنية بشكل مدروس واجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية. أما الركيزة الثانية في استراتيجية التنمية الاقتصادية فهي تتمثل في رفع أداء القطاع الخاص وزيادة مساهمته في الناتج المحلي من خلال مبادراته وتأهيله شريطة توفير البيئة الاستثمارية والقانونية الصحية التي تضمن له تحقيق هذه الركيزة بنجاح، وهنا تكتمل الحلقة الثالثة في الاستراتيجية وهي تحويل ملكية وإدارة بعض الأنشطة الحكومية ذات الصبغة التجارية إلى القطاع الخاص، بحيث تكون المحصلة النهائية لسياسة التخصيص إيجابية للدولة وللقطاع الخاص.

وتفرض تلك التطورات وجوب إعادة النظر في بعض الجوانب الهيكلية للاقتصاد وتجعله أكثر جذبا للمستثمرين وتشمل مراجعة الأنظمة الضريبية ونظام الاستثمار الأجنبي وغيرها، وذلك على نحو يأخذ في الاعتبار اهتمامات المستثمرين ويؤدي إلى جعل حوافز الاستثمار في البلاد أكثر من تلك الموجودة في دول أخرى.

وهناك ثمة اتفاق بأن إعلان السعودية استراتيجية برنامج التخصيص تعني اعترافا صريحا وإن كان ضمنيا من قبلها بنضج القطاع الخاص وقدرته على اثبات وجوده، ولم يعد إذن مستغربا أن يفصح المسؤولون السعوديون في كل مناسبة عن النتائج التي حققها هذا القطاع خلال خطط مسيرة التنمية، إذ وصل إجمالي مساهمته في الناتج المحلي إلى أكثر من 45 في المائة تقريبا.