مقاهي القاهرة نراجيل وحكايات وتجارة ومكاتب متنقلة

TT

رغم مرور الزمن، وتغير العوامل الاجتماعية التي تشكل واقع المجتمعات، إلا ان المقهى عالم فريد يميز المجتمع المصري وبخاصة في القاهرة العاصمة، فمنذ بدايات القرن الماضي كان المقهى ملتقى الساسة والأدباء الذين كانوا محط أنظار العامة، يلتفون حولهم ويتناقشون معهم ويستمعون لهم، بل ان المقاهي كانت في بعض الاحيان منبت ثورة، وكان شخوصها وحي إلهام كثير من الكتاب والأدباء الذين أثروا الثقافة العربية، كما كانت مقهى الفيشاوي في منطقة الحسين والتي كانت مهبط الحرافيش بزعامة الأديب نجيب محفوظ، وها نحن في عام 2003 وماتزال المقاهي تحتفظ برونقها، قد يختلف دورها، قد يتعدد روادها وأسماؤها، إلا انها ما زالت تمثل جلسات فضفضة للمصريين في شوارع القاهرة. فحكايات المقاهي وعوالمها كثيرة ولاتنتهي، قد تتبدل أحوالها، ويتغير نوعية روادها، لكنها في النهاية تحفل بجو ثري، خصب من الحواديت يصنعها روادها الذين يقصدونها من أجل أهداف مختلفة تتنوع حسب نوعية الرواد أنفسهم، فهناك مقاهي الطوائف والمهن مثل مقهى «بعرة» الذي يرتاده كومبارس السينما وريجيسيراته في انتطار أي دور ولو لدقائق سواء في السينما أو التلفزيون، ولهم حكاياتهم حول النجومية وطموحاتهم التي تكسرت مع الزمن، ومقهى «الندوة الثقافية» التي يرتادها الكتاب والمثقفين والتي من فرط رغبة اصحابها في المحافظة على طابعها المميز يرفضون تقديم الأنواع الرخيصة من دخان النراجيل والتي قد تجذب زبائن لا علاقة لهم بالثقافة أو الابداع، ويحكى ان مدير الندوة الثقافية قرر في العام الماضي تقديم نوع رخيص من المعسل على نراجيله وراح يقصد المقهى رواد من مختلف الفئات الى جانب راغبي تدخين التمباك من الكتاب والمبدعين وقد استمر ذلك فترة قصيرة الى ان جاء أحدهم ووضع الى جوار رصيف المقهى بضاعته من أقفاص الطماطم، وطلب شيشة وعندما أبصره صاحب المقهى أخبره ان طلبه ليس في المقهى، ومن يومها امتنع المعلم عن تقديم مثل هذه الانواع من المعسل.

وهناك مقهى «الابيض» الذي يقصده الموسيقيون والملحنون ومؤلفي الأغاني في شارع السودان بالدقي، ولا حكايات بالطبع يمكن أن تدور في جلساتهم إلا حول الغناء، والمطربين والمطربات ومقالب الشعراء مع بعضهم، كل هذه الاحاديث وغيرها تدور وهم يلعبون الطاولة ويدخنون النراجيل، وهذه المقاهي بسبب نوعية روادها لا تغلق أبوابها وتعمل طوال 24 ساعة في خدمة زبائنها، وهناك ايضا مقاهي النوبيين والصعايدة والتي يجلس عليها بعض ابناء النوبة والقادمون من الجنوب، وهو ما يشير الى ان أبناء الجنوب المصريين عندما يتوجهون الى القاهرة يبحثون فورا عن مقاهي مواطنيهم من الصعايدة، ويجلسون عليها متلاحمين.

ومن أحدث المقاهي في وسط القاهرة مقهى «التكعيبة» والذي يحاول الحفاظ على نوعية معينة من رواده مثل المخرجين والكتاب والفنانين التشكيليين الذين يمثلون أغلبية بسبب وقوع المقهى وسط عدد من قاعات الفن التشكيلي مثل قاعة المشربية وتاون هاوس وكريم فرنسيس، ومن أشهر رواد التكعيبة جورج البهجوري الذي يأتي له من أجل رسم اسكتشاته وهو يدخن الشيشة ويتحدث مع اصدقائه في السياسة والفن، ورغم هذا فمقهى التكعيبة ليس قاصراً على الكتاب فقط، حيث ترتاده فئات كثيرة من الناس سماسرة لتأجير الشقق المفروشة، تجار يعقدون الصفقات، أطباء ومحامون، كما لا يخلو المقهى من الألعاب النارية التي يقدمها بعض الصبيان أمام الرواد في مقابل نفحة من القروش.

ومنذ سنوات بعيدة شهدت منطقة وسط القاهرة مولد مقهى «زهرة البستان» والتي كانت تضم بين جدرانها عددا كبيرا من الكتاب والشعراء وفئات مختلفة من محبي الفكر والثقافة، وكان طبيعيا ان تدخل مقهى البستان فتجد عددا من الكتاب الشباب يلتفون حول أديب أو شاعر من كبار الشعراء يستمعون إليه أو يعرضون عليه ما كتبوه، في حين يدور الحديث في باقي المقهى بشكل طبيعي حول أمور إبداعية أو فكرية حتى السياسة لم تكن تتوارى في تلك الأحاديث، ذكريات قديمة يتذكرها عم احمد موسى «شيخ قهوجية» المقهى حينما يتذكر يحيى الطاهر عبد الله الذي كان يأتي للمقهى ويجلس فيه ليقرأ قصة جديدة يتلوها على زملائه دون ان تكون معه ورقة يقرأ منها، كما شهد مقهى البستان ظهور ابراهيم فهمي الكاتب النوبي الذي كان يتخذ من إحدى مناطق المقهى مكتبا في الداخل لكتابة قصصه أثناء تدخينه الشيشة.

ويقول عم موسى اذكر آخر يوم رأيت فيه الاستاذ ابراهيم قبل ان يرحل عن العالم كان يسعل وهو يحكي عن فيلمه الذي كان سيعرض مساء ذلك اليوم وكان عنوانه «بلاد العطر والذهب» اخراج هاني لاشين في الوقت الذي كان زملاء ابراهيم من المبدعين يودعونه الى مثواه الأخير، يتذكر عم احمد موسى كثيرا من المبدعين الذين جاءوا الى المقهى من بلادهم قاصدين الزهرة، حاملين معهم طموحهم في الجلوس الى كاتب ما، يستطلعون بحديثه ووجهات نظره.

مقهى زهرة البستان الذي كان شبه محطة لكتاب الاقاليم يأتون إليه من كل صوب، وكان رواده من القلة بحيث لا تستطيع عدهم، صار الآن يزدحم برواده من كل الألوان، طلبة جامعات، بنات وشباب يشربون الشاي ويدخنون النراجيل، ويرتدون أفخر الثياب، يتحدثون في كل شيء إلا الثقافة، أما رواد المقهى القدامى فقد رحل معظمهم فلا تكاد تجد منهم إلا القليل، يجلسون غالبا على الرصيف خارج المقهى تاركين ساحتها للرواد الجدد من الشباب المهمومين بالروشنة ومفرداتها والبحث الدائم عن المتعة وملء وقت الفراغ.

نفس الشيء يتعرض له مقهى مهران «أفتر إيت» after eight الذي هجره معظم رواده القدامى لكنه رغم ذلك ما زال يحتفظ ببعض من طابعه القديم، المعلم فؤاد مهران صاحب المقهى يقول انه كان المكان المحبب للمطرب الشعبي شفيق جلال وكان يتميز بكونه مكانا يلتقي فيه محبو عقد جلسات النكت والأفيهات والتي كانوا يسمونها «الأفيه». أما الآن فقد اختفت تلك الجلسات وما عاد يرتاد المقهى حاليا سوى الفتيات والشباب وبعض الاجنبيات اللواتي يحضرن بصحبة بعض الفنانين الشباب، يأتين الى المقهى مبهورات بجوه الشعبي ويدخن الشيشة التفاح، ويستمعن الى الألحان الجديدة التي تتفجر في المقهى ويصدح بها مطرب أو ملحن في ركن هنا أو هناك.

وما يميز المقهى ان بعض التجار يتخذونه مكتبا لقضاء الأعمال وانهاء عمليات التجارة أو أخذ المواعيد الهامة، فهناك من يتلقى مكالمات هاتفية على تليفون المقهى، وهناك من يجعل من المقهى مكاناً للسهر حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، هناك من يلعبون الاستيميشن أو الطاولة أو الدومينو، وفي أثناء ذلك يتناولون الألوان المختلفة من الأطعمة بعد ان جذب المكان محلات الفول والساندوتشات التي وجد أصحابها في المقهى مكانا مناسبا لبيع الاطعمة للرواد.

كما شهد شارع طلعت حرب عودة مقهى «ريش» الذي عاد بعد طول انتظار لفتح أبوابه. فقد طرأ عليه بعض التحولات، فرغم انه ما زال مقصداً لكبار الكتاب الذين يملكون الكثير من الذكريات بين جنباتها، إلا ان اسعارها المرتفعة شيئا ما جعلت الكثيرين من المبدعين الشباب يحجمون عن ارتيادها وراحوا يجلسون في مقاهي «أفتر إيت» و«الندوة الثقافية» و«الحرية» التي تعد من أكبر مقاهي وسط القاهرة والتي مازالت تملك حتى الآن ترخيصا لتقديم المشروبات الكحولية لروادها وركنا خاصا لممارسة لعبة الشطرنج، كما ان «الحرية» مازال مكانا لكثير من كبار السن وارباب المعاشات الذين يواظبون على التواجد في المقهى لتبادل الاحاديث عن ذكرياتهم القديمة.

ولا تتعجب اذا دخلت احد هذه المقاهي التي لا بد ان يوجد بها جهاز تلفزيون وتجد الجميع وكأن على رؤوسهم الطير بسبب مباراة في كرة القدم يتزايد الاهتمام بها حسب أهمية الفريقين. حقا ان عالم المقاهي عالم فريد في ذاته يمثل واقع المجتمع المصري، اختفت الثقافة من غالبية المقاهي، ولم يعد هناك متميزون، وطغت هموم الحياة، وضغوطها، والواقع الاقتصادي على أحاديث روادها.