اللاجئون العراقيون في لبنان.. قلوبهم على البلد وسخطهم على النظام

أكثريتهم دخلوا عن طريق التسلل عبر الحدود السورية ويعانون صعوبة الحياة والإقامة لكن حلمهم الدائم «تغيير النظام»

TT

تردد كثيراً. ولم يطمئن للحديث الاّ بعد تأكده بعدم رغبتي في الاطلاع على اسمه. بين الفينة والاخرى كان يسترق النظر الى خارج محل الخضر حيث يعمل تحسباً لاي متطفل قد يعير كلامه اهمية.ش هو عامل عراقي دخل لبنان خلسة بعد رحلة عذاب استهلها في سجون بغداد لانه كان من مؤيدي المرجع الشيعي السيد محمد باقر الحكيم، ولم تنته فصولها بعد محطات فراره من شمال العراق الى الاردن وسورية وصولاً الى لبنان. ورغم قرار العفو الذي اصدره الرئيس العراقي صدام حسين مؤخراً عن المساجين والمطلوبين، لم يطمئن الشاب ذو السابعة والعشرين ربيعاً، مكرراً: «ملفي في العراق اسود، وعودتي في ظل هذا النظام تعني الاعدام». مع اشتداد قرع طبول الحرب الاميركية على العراق، يشعر الشاب بقلق مضاعف اضيف الى مسلسل حياته غير القانونية في لبنان وتواريه المستمر عن حواجز الجيش ورجال الامن وتحديد وجهة سيره اليومية. خوفه على ذويه الذين غاب عنهم منذ عام 1997، لم يردعه من المجاهرة بانه يتمنى تغيير النظام، واصفاً الرئيس العراقي صدام حسين بـ «الاميركي الديكتاتوري». لكنه يستدرك «اي عراقي شريف لا يرضى بحكم الاجانب». هو نموذج من 30 الف عراقي غالبيتهم من الشيعة، دخلوا الاراضي اللبنانية خلسة عن طريق سورية هرباً من الاضطهاد السياسي ومن حالة الجوع والفقر التي يعيشونها داخل العراق. وتشير مصادر الى ان هذا الرقم هو تقريبي وقد حصلت عليه احدى المؤسسات الانسانية عن طريق استمارات للمساعدة. وهو مرشح للارتفاع مع اشتداد الحملة الاميركية على العراق.

وعلى الرغم من ترداد اللاجئين للازمة «ضرورة تغيير النظام في بغداد» يبدو ان العراقيين «الشرعيين» الموجودين على الاراضي اللبنانية لا يخفون هذه الامنية علماً ان التردد في الكلام هو السمة البارزة في صفوف الجميع.

احدى الطالبات العراقيات الاشوريات في الجامعة الاميركية في بيروت، اخفت اصولها العربية. وجواز سفرها الاميركي هو ورقة عبورها الى هذا العالم. وعلى قدر الامتيازات التي يحملها جواز معطى من بلاد «العم سام»، تتجنب الشابة باستمرار الاختلاط مع جموع الطلاب او المشاركة في اي نشاط جامعي معاد للولايات المتحدة، الا انها تقول: «انا قلقة جداً على عائلتي الموجودة في العراق. هم ضاقوا ذرعاً من النظام الحاكم ولا يملكون سوى الصلاة املاً في ابعاد شبح الحرب»

* بين الضاحية وسد البوشرية

* يتمركز اللاجئون العراقيون في لبنان كل حسب مذهبه. ففي حين يتخذ الشيعة وهم يشكلون غالبية اللاجئين، من الضاحية الجنوبية لبيروت مقراً لهم حيث تتوفر لهم حماية المراجع الدينية، يقبع المسيحيون الاشوريون في ضواحي بيروت الشرقية، وتحديداً في سد البوشرية والنبعة. والسواد الاعظم من المتسللين العراقيين الى لبنان يتنقل من دون اوراق ثبوتية الاّ ان البعض نجح في الحصول على بطاقة لاجئ من «مفوضية الامم المتحدة للاجئين» مما يمنحه وعداً بالهجرة الى احدى الدول الغربية (كندا واستراليا والولايات المتحدة). وقد عقّد مكتب اللاجئين منذ فترة وسائل استصدار هذه البطاقة او تجديدها، علماً انها لا تحمي حاملها من اجراءات الامن اللبناني ولا تسمح له بالعمل. والسبب هو عدم توقيع لبنان على اتفاقية جنيف للاجئين الصادرة في العام 1951، مما يفضي الى اوضاع انسانية صعبة يعيشها العراقيون في لبنان حيث تضيق السبل بهم ولا يجدون مناصاً سوى العمل بأجور قليلة. وفي حال القبض عليهم يرحّلون الى بلادهم حيث ينتظرهم المصير المجهول. وتضاف الى مآسيهم، مسألة عدم تسجيل المواليد العراقيين على الاراضي اللبنانية، وحتى افادة المستشفى التي يحصلون عليها لا يتم الاعتراف بها احياناً.

يقول «م. أ» الذي يعمل ناطوراً في احدى الابنية في بئر العبد انه «وصل الى لبنان عام 1997 بعد تأمين مبلغ 400 دولار للمهرب» وهو منذ ذلك التاريخ لا يبارح حدود المنطقة حيث يعمل. تزوج من لبنانية وله بنت (سنتين) غير مسجلة في اي قيد.

يتحدث «م. أ» عن وجود «سماسرة» في مكتب مفوضية اللاجئين وعن امتيازات يحظى بها العراقيون المسيحيون من خلال مجلس كنائس الشرق الاوسط، مؤكداً ان «قبول الولايات المتحدة طلبات الهجرة للقلة - القليلة من العراقيين رغم استيفاء معاملات العديد منهم الشروط القانونية يفضح نوايا هذا المكتب وسيطرة الوساطات عليه».

يؤكد «م. أ» «ان العودة الى بلاده تبدو مستحيلة لأن «صدام شخص لا يمكن الوثوق به» متمنياً تغيير النظام في بغداد مع تجنيب الشعب العراقي اي حرب».

* رأي السفارة العراقية

* لكن وجهة النظر العراقية الرسمية في لبنان تنفي جملة وتفصيلاً ما قد يقوله اي لاجىء. فالملحق الاعلامي لجمهورية العراق في لبنان نوري التميمي يرى ان غالبية العراقيين الموجودين على الاراضي اللبنانية يملكون اوراقاً شرعية وجوازات سفر رسمية، نافياً وجود ظاهرة لاجئين عراقيين دخلوا الاراضي اللبنانية خلسة. مضيفاً ان «لبنان بلد يتمتع بالاستقرار والنظام، والسيطرة على الحدود ممكنة وعمليات التهريب بسيطة». ويؤكد ان «تكثيف الحملة العدائية الاميركية ضد العراق تزامن مع عودة منظمة للعديد من العراقيين الموجودين في لبنان تمت بالتعاون مع السلطات اللبنانية وهؤلاء يعيشون حياتهم بشكل طبيعي بعد عودتهم»، مشيراً الى «ان السواد الاعظم من المهاجرين غادر العراق بسبب حالة الحصار وبحثاً عن ظروف افضل للدراسة او العمل».

ورداً على سؤال عن الطلبات الكثيرة التي يشهدها مكتب مفوضية الامم المتحدة للاجئين في لبنان للهجرة ووجود غالبية شيعية من معارضي النظام يقول التميمي ان «الحديث عن طلبات اللجوء الانساني هو جزء من الحرب الاعلامية التي تشن على شعبنا»، لافتاً الى ان «تقسيم العراقيين على اساس مذاهبهم هو جزء من سياسة معادية للعراق ومدفوعة من الولايات المتحدة الاميركية. وفي كل بلد ثغرات ودكاكين للسياسة الاميركية تستغل هذه المواضيع» ويقول التميمي: «ان العراق بلد واحد متماسك وتقسيمه مذهبياً وطائفياً هو جزء من لعبة ينساق اليها الاعلاميون العرب».

وبين مطرقة الاوضاع المعيشية والقانونية المزرية وسندان قلق العودة الذي يساوي لدى البعض الاعدام، يعيش العراقيون في دوامة قد لا يتسنى لهم الخروج منها قريباً. وهذا ما عبر عنه علي الذي يعمل نادلاً في مقهى رغم اجازة الآداب التي يحملها، قال انه «غادر العراق املاً في الحصول على حياة كريمة قد يجدها في اي بلد غربي». وقد حسب ان وجوده في لبنان محطة قصيرة لكن «الحياة تقلب مشاريع الانسان رأساً على عقب».

وينفي علي اي علاقة له مع تيارات سياسية معارضة، لكنه لا يثق بقرار العفو الصادر مؤخراً «فالبهدلة التي يلاقيها المرء في اعمال وضيعة قد تكون افضل بكثير من تعذيب السجون العراقية».

قلق وجوع وفقر سمات مشتركة لغالبية اللاجئين العراقيين في لبنان. وفي ظل شبح الحرب المسيطر على العراق وتوافد القوات الاميركية وتمركزها في المنطقة لا يجد علي وامثاله سوى التلفزيون وتحديداً القناة الفضائية العراقية لسماع خطب القائد «العظيم» وخططه لمواجهة العدوان.