رسالة أخيرة إلى محمد شكري

حسونة المصباحي

TT

اكتب اليك هذه الرسالة بالرغم من انني اعلم انه لن يكون بمقدورك ان تقرأها. اكتبها فقط لأملأ هذا الفراغ الهائل والمرعب الذي خلفت، محاولا ان اوهم نفسي بانك ما زلت بيننا. اكتبها لكي اقنع نفسي بانني سألتقيك ذات صيف بديع في طنجة او في اصيلة لنواصل حوارا ممتعا لا يكاد ينتهي عن الادب وعن الناس وعن الحياة، ولكي نتحاكى طرائف نضحك لها عاليا، ضاربين الارض بأقدامنا. طرائف تمنحنا القدرة على مواجهة مصاعب العيش، وخيانات الزمن. اكتبها وانا اتأمل صورا لك تزين مكتبي وقد وضعت الى جانب من احب من الكتّاب والشعراء.. بورخيس.. جويس، بيكث، البيركامو، اندريه جيد.. ت. س. اليوت.. الطيب صالح.. فرانز كافكا.. وفي جميع هذه الصور انت تبدو في ابهى حالاتك، اي عندما تكون مزهوا بنفسك وباصدقائك وبالحياة ايضا. تلك الحياة التي عذبتك وشردتك وجوعتك واذاقتك المرارات غير انك ظللت تروضها حتى اللحظة الاخيرة من حياتك محاولا ان تنال منها ما في استطاعة مجنون جميل مثلك ان يناله! اول مرة رأيتك فيها كانت مطلع الثمانينات. سألتك: «هل عندك وقت لكي نتحدث قليلا؟» فاجبت على الفور: «عندي دائما وقت اذا ما كان الحديث مفيدا!». ثم اظن انك قبلتني فطفت بي في الاماكن التي تحب في طنجة، مشيرا بين وقت وآخر الى بعض من الشخوص الذين كنت قد تحدثت عنهم في قصصك وفي سيرتك الذاتية. ولانك ابدعت في تصويرهم فانه بدا لي كما لو انني اعرفهم منذ زمن بعيد. بعدها صرت ازورك كل صيف في طنجة وانا في طريقي الى اصيلة او «زهرة القلب»، كما اصبحت اسميها. وعندما كنت اهتف اليك لأعلمك بيوم قدومي، كنت تصرخ في بتلك النبرة المحببة للنفس: «اذا نسيت السجائر وتلك الاشياء الاخرى التي احب فلا تحاول ان تطرق بابي!». وعندما اجيئ ومعي ما طلبت، كنت تفرح مثل طفل وتصيح في فتحية، خادمتك الطيبة: «ها هو التونسي قد حل ضيفا علينا.. عليك ان تطبخي له طاجين سمك لذيذ ينسيه الاطباق الالمانية الباردة!». ثم تضيف غامزا لها بعينيك: «اسعي.. انه اكول.. وصاحب لسان سليط.. فان لم يرضه طجينك فسوف يفضحنا بين الناس.. خذي بالك منه اذن!».

صديقي العزيز: لن انسى ابدا تلك الجلسات الرائعة في شرفة شقتك المتواضعة في شارع البحتري (شارع تولستوي سابقا)، والتي كنا نخوض خلالها مناقشات طويلة حول الادب العربي والعالمي وحول مسائل كثيرة اخرى تتصل بالفن وبالحياة عموما. وقد كشفت لي تلك المناقشات اننا نتقاسم نفس الآراء بخصوص العديد من المبدعين من العرب والاجانب. ولا بد ان اقول لك انك انت الذي ساعدتني على اعادة اكتشاف الموسيقى التونسية الاصلية متمثلة في حبيبة مسيكة التي احرقها احد عشاقها غيرة وسار في جنازتها نصف سكان تونس العاصمة، وخميس ترنان، الذي جاء اجداده الاندلسيون الى بنزرت بعد سقوط غرناطة، والهادي الجويني ذو الاصول الاندلسية ايضا والذي كنت تعشق اغنيته الشهيرة: «تحت الياسمين في الليل.. نسمة والورد محاذيني..»، وعلي الرياحي الذي مات وهو يغني على ركح المسرح البلدي في تونس العاصمة مطلع السبعينات، ومليحة التي قضت بداء السل، والتي اعددت عنها برنامجا مؤثرا لاذاعة طنجة. فما اسمعتني اياه، وكنا جالسين في شرفة شقتك، اجهشت بالبكاء. وكنت انت قد اكتشفت هؤلاء الفنانين وانت لا تزال شابا يافعا تصارع من اجل الحصول على قوتك اليومي. وربما لهذا السبب يمكنني ان اقول انك اصبحت بالنسبة، لا فقط جزءا اساسيا من المغرب الذي احب، بل وايضا قطعة من حياتي ومن وجودي. وهذا ما اتاح لي التعرف عن كثب على تفاصيل حياتك اليومية والادبية. وقد كنت جد سعيد بمصادقة حيواناتك الاليفة التي كانت تخفف عنك وطأة الوحدة، انت الذي فضلت حياة العزوبية، وكرهت مؤسسة الزواج.

صديقي العزيز: آخر مرة رأيتك فيها كانت في فندق «ريتز» الواقع في شارع ضيق بالقرب من بيتك وكنت قد عدت للتو من اصيلة حيث وقع تكريمك، لذا كنت متعبا، ضيق الصدر بالحديث مع الناس. ويومها قلت لي: «اريد ان اختفي في شقتي ثلاثة ايام او اربعة حتى ارتاح من متاعب اصيلة!». وقد احترمت حريتك فلم اعاود الاتصال بك مطلقا بعد ذلك. وهكذا غادرت طنجة من دون ان اراك. وعندما مرضت اتصلت بك هاتفيا لاطمئن على صحتك فقلت لي متحديا بانك سوف تنتصر على المرض الخبيث مثلما انتصرت على العديد من الامراض الاخرى التي صادفتك في حياتك التي عشتها بالطول والعرض. وعندما انتهى العلاج الكيماوي، قلت لي وانت رائق المزاج: «تعال.. فطجينك ينتظرك!». فحتى اللحظة الاخيرة من حياتك كنت متيقنا من ان الفتى الشقي الذي كان، بامكانه ان ينتصر حتى على الموت الداهم. لقد قال شاعر البرتغال الاكبر فارناندو بيسوا ذات يوم بان القدرة الحقيقية لدى الفنان هي المخادعة. مخادعة حتى ذلك الألم الذي يعذبه ويؤرقه ويهدد حياته. وقد استطعت انت يا صديقي العزيز ان تثبت هذا عبر كفاحك الطويل من اجل الحياة، وايضا عبر جميع اعمالك الابداعية ابتداء من رائعتك «الخبز الحافي» وحتى «وجوه» مرورا بـ«مجنون الورد» و«الخيمة» و«زمن الاخطاء»، مثبتا بذلك ان الالم يمكن ان يكون مادة خصبة لأدب اصيل وحقيقي وانساني النزعة.

ماذا اقول لك في النهاية؟ اقول لك نم هانئا يا صديقي العزيز في مأواك الاخير، فقد تركت الكلمة الطيبة التي تنعش الروح، وتجعل الامل ينفتح حتى في الازمنة الاشد قتامة وعسرا، وداعا!