شكري.. تفاصيل أخرى عن الحياة والكتابة والقراءة في كتاب جديد

TT

ما تزال سيرة الكاتب المغربي محمد شكري، وكذا مواقفه وآراؤه وتصوراته الموازية لكتاباته، تشد اهتمام القراء والمعجبين، داخل المغرب وخارجه، كما تشغل بال المهتمين بقضايا كتابة السيرة الذاتية لدى محمد شكري، في بعدها الاستثنائي المتواصل. وفي كل كتاب جديد لمحمد شكري، وفي كل حوار أو حديث معه، ما نفتأ، نحن، نكتشف المزيد من الجوانب الجديدة المضيئة لحياة هذا الكاتب ولتجاربه في العيش والكتابة والقراءة والتأمل، وهو الذي يفضل أن يوصف فقط بـ«الكاتب الطنجاوي»، (نسبة إلى مدينته المفضلة «طنجة»، هاته التي استهوته أكثر من غيرها من المدن الأخرى، فاستوحاها في جل أعماله الأدبية)، بدل صفات أخرى أضحت اليوم لصيقة به، وبوضعه الاعتباري، كـ«الكاتب الكبير» و«الكاتب العالمي»..

في هذا الإطار صدر هذه الأيام كتاب جديد، بعنوان «حوار»، وهو، كما يدل على ذلك عنوانه، عبارة عن حديث مطول مع محمد شكري، كان قد أنجزه معه كاتبان مغربيان شابان، ممن تعرفا، عن قرب، عن شكري، واقتربا من محيطه، ومن بعض عوالمه وتجاربه، في الحياة وفي الكتابة، وهما الكاتب المسرحي الزبير بن بوشتى والناقد يحيى بن الوليد. كتاب ينضاف إلى سلسلة الحوارات والاستجوابات العديدة، الصحفية وغيرها، التي أجريت مع محمد شكري داخل المغرب وخارجه.

صدر هذا الكتاب/الحوار عن مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء 2003، وذيل بملحق خاص بألبوم صور لمحمد شكري، يختصر، هو أيضا، جوانب من حياة الكاتب، منذ الطفولة، مرورا بصور أخرى تظهره مع بعض الكتاب العالميين والعرب والمغاربة، ومع بعض الزعماء ورجال السياسة المغاربة: (تنيسي وليامز، ألبرتو مورافيا، أدونيس، البياتي، علال الفاسي، محمد بنعيسى، عبد الرحمن اليوسفي، محمد الأشعري، محمد زفزاف، عثمان العمير، أحمد المديني، محمد خير الدين، إميل حبيبي، جان جينه، بلند الحيدري، وغيرهم).

أما باقي مكونات الكتاب، فجاءت عبارة عن أجوبة متنوعة لمحمد شكري عن الأسئلة المختلفة التي وجهها له المحاوران، والتي تدور، في مجملها، حول قضايا تهم أساسا أسئلة «الكتابة» عند شكري، ومسألة «تلقي أعماله»، وأسئلة أخرى حول «المغرب الراهن»، و«الطفولة»، و«الترجمة»، و«المرأة»، و«أدب المراسلات»، ومدينة «طنجة»..

وعبر مختلف هذه المحاور التي اختار المحاوران مساءلة شكري بصددها، يقربنا كاتبنا، مرة أخرى، من بعض تفاصيل حياته وعوالمه، الماضية والراهنة، منها ما يتقاطع مع بعض ما سبق لشكري أن كتب عنه وحكاه في بعض كتاباته المنشورة، ومنها أشياء وتفاصيل أخرى جديدة ونادرة، بالنظر لارتباطها، من ناحية، بحياته هو، ولكونها تضيء لنا، من ناحية ثانية، كما للأجيال القادمة، بعض المحطات الأساسية من تحولات المغرب الاجتماعية والثقافية والسياسية، ليس فقط من منظور كاتب عايش التجربة عن كثب وفي العمق، ولكن أيضا من منطلق تجربة معيشة فذة بين كاتب ومدينة، وبين كاتب وعالم متغير من حوله، يقدمها شكري بأسلوبه الخاص، المشوق والممتع والمؤثر، بحيث نحس أحيانا بأحاديث شكري وكأنها محكيات جديدة تروي حكاية الذات مع مغامرة الكتابة ومع سؤال الكينونة والصيرورة، في سرود ملؤها الصدق والانتقاد والجرأة في القول وصياغة الخبر وتقديم المعلومات والكشف عن جوانب من المسكوت عنه، كما يقدمها، أيضا، بطريقة تتجاوز كذلك المعطى الخبري إلى إعمال الذهن والتفكير حول قضايا ثقافية وتاريخية وسياسية وسوسيوثقافية وأدبية ونقدية وسايكولوجية، من قبيل حديثه، مثلا، عن مسألة «قتل الأب»، كما سبق له أن كتب عنها بفتنة في الجزأين، الأول والثاني، من سيرته الذاتية: «الخبز الحافي» و«زمن الأخطاء»: «إن موت أبي في ذهني تم في اللحظة التي مات فيها أخي. إننا لا نقتل آباءنا إلا بقدرما يقتلون أنفسهم فينا. إن الأب هو الذي يعجل أو يؤجل، يقصر أو يطيل موته في أبنائه. والموت درجات متفاوتة...»(ص19). وكما يقدم محمد شكري مواقفه، بجرأة أصبحنا نفتقدها في مشهدنا الثقافي العربي ككل، من بعض القضايا المتعلقة بوضعية الإبداع والقراءة والنقد الأدبي في المغرب وفي العالم العربي، يسافر بنا شكري، مرة أخرى كعادته، في عوالم الآداب العالمية الرحبة، من خلال العديد من رموزها، وانطلاقا من معرفة قوية بها وبكتابها، كما سبق لشكري أن أمتعنا، كذلك، بجوانب من تلك المعرفة في كتابه الممتع «غواية الشحرور الأبيض»، وفي غيره من كتبه البيوغرافية حول بعض الكتاب العالميين: بول بولز، جان جينه، تنيسي وليامز.

نقرأ في هذا الكتاب، كذلك، العديد من آراء محمد شكري وتصوراته الشخصية، وكذا معايشته لمجموعة من المواقف المرتبطة بكتابة نصوصه وتلقيها، وقضية النشر التي أصبحت على نفقته، بعد قصة الاستغلال التي تعرض لها كاتبنا من بعض مؤسسات دور النشر العربية والأجنبية، ومبيعات كتبه، وشهرة بعضها، كالخبز الحافي تحديدا، دون نصوص أخرى، والعلاقة بين التخييلي والواقعي في سيرته الذاتية، وموضوع قتل الأب في الإبداع، وأسئلة المغرب الثقافي، ومسألة المنع التي تعرضت لها سيرته الذاتية «الخبز الحافي»، في المغرب وفي الجامعة الأميركية بالقاهرة، وكذا رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، فحديثه عن تجربة التناوب السياسي في المغرب، في شخص عبد الرحمن اليوسفي، الوزير الأول، آنذاك، في حكومة التناوب، وعلاقته باتحاد كتاب المغرب وبمؤتمراته، والصعلكة التي اتهم بها، وصورة «الأب» في ارتباطها بالطفولة، والترجمة التي حظيت بها كتبه الإبداعية إلى العديد من اللغات العالمية، بما فيها اللغة العبرية، وعلاقته ببعض الكتاب العالميين والعرب، والمغاربة، الذين زاروا طنجة أوأقاموا فيها، كبول بولز وجان جينه والطاهر بن جلون، وعلاقة شكري بالمرأة، في الكتابة وفي الواقع، وكذا علاقته بمؤسسة الزواج، والانتحار والمسرح، وبأدب المراسلات، سواء من خلال حديثه عن تجارب بعض الكتاب الآخرين مع كتابة الرسائل، كأرتور رامبو، أو من خلال تجربته في هذا المجال، مع كل من محمد برادة، وعبد الوهاب البياتي، وغيرهما. ويمكننا شكري، مرة أخرى، من قراءة بعض الحواشي عن مراسلاته تلك مع برادة، وعن مشروع كتابة رواية مشتركة مع نفس الكاتب، لم يبدأ لكي يكتمل.. كما يتعرض شكري، في هذا الحوار، لطبيعة علاقاته الموازية مع بعض الكتاب والتشكيليين المغاربة، كعلال الفاسي ومحمد برادة ومحمد بنيس، والتشكيلي المغربي الراحل الغرباوي، وحديثه كذلك، عن الرقابة التي كانت تخضع لها قصصه. ويختم هذا الحوار مع شكري بحديثه عن مدينة طنجة، عن الدهشة الأولى وعن ذكرياته فيها. كما يتحدث عن الوضع الأسطوري والدولي السابق للمدينة، وعن بعض ما كتب عنها، بما في ذلك حديثه عن التحولات المتتالية عليها.

كل هذه الأمور، إذن، تجعل من هذا الكتاب/ الحوار، مع محمد شكري، وثيقة أخرى ومرجعا لدارسي التحولات الثقافية بالمغرب وخارجه، تتم الاستعانة به لتسليط المزيد من الضوء بخصوص بعض الجوانب المرتبطة، أساسا، بقراءة محمد شكري وإعادة قراءته، من ناحية، وبقراءة مسار حياتي وإبداعي وثقافي، عرف الكثير من المحطات والتحولات.. وما كان لذلك أن يتحقق، أيضا، بهذا المستوى الحواري اللافت في هذا الكتاب، لولا أسئلة المحاورين، تلك التي كانت، في مجملها، عميقة ومحفزة، وأحيانا مستفزة، لمحمد شكري لجره إلى التحدث، بصراحته وجرأته المعهودة فيه، وكذا التحليق، بحرية وبعمق، في عوالمه الذاتية وفي عوالم الآخرين، وفي عوالم الكتابة والقراءة والأدب والثقافة والسياسة والنشر والتلقي.