أهالي الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية يشاركون معاناة أبنائهم في «سجن الأمل والانتظار»

عائلات عبيد والقنطار والديراني وياسين تعلق آمالها على مفاوضات «حزب الله»

TT

تطغى السرية على اجواء المفاوضات التي تدور حالياً بين «حزب الله» والحكومة الاسرائيلية بوساطة المانية لإطلاق سراح المعتقلين اللبنانيين والعرب من السجون الاسرائيلية. ويسود التكتم على تطوراتها في ظل معلومات مفادها ان الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله امهل الاسرائيليين ثلاثة اسابيع لحسم عملية التفاوض واطلاق من طالبت بهم اللوائح من دون استثناء، والا سيأتي الوسيط الالماني المفاوض ارنست اورلاو الى بيروت ويكشف سبب تعثر الصفقة.

وكانت ملامح التعثر بعد مرحلة اوحت بالتفاؤل في المساعي المبذولة قد بدأت اثر اجتماع الحكومة الاسرائيلية في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي واعلانها الموافقة على اطلاق جميع المعتقلين باستثناء عميد الاسرى اللبنانيين في السجون الاسرائيلية سمير القنطار، لارتباطه بعملية «نهاريا» عام 1979 والحكم عليه بالسجن 542 عاماً. وبالطبع جوبه هذا الامر بإصرار نصر الله على موقفه الحازم الذي أعلن فيه تمسك الحزب بإطلاق جميع المعتقلين اللبنانيين والعرب والذين يقارب عددهم 400 معتقل وفي مقدمهم القنطار مقابل اطلاق سراح الجنود الاسرائيليين الثلاثة الذين اسرهم الحزب عام 2000 قرب مزارع شبعا، اضافة الى الحنان تيننباوم الذي اسر بعد استدراجه الى لبنان.

وقد اعتبر نصر الله ان رفض اسرائيل اطلاق القنطار مخالف للاتفاقيات التي عقدها الوسيط الالماني مع الجانب الاسرائيلي ثم نقلها الى الحزب في بيروت.

وكان نصر الله قد اعلن في 28 اغسطس (آب) الماضي بمناسبة ذكرى اختطاف احد قادة الحزب الشيخ عبد الكريم عبيد عام 1989 من منزله في قريته جبشيت في جنوب لبنان «ان سواعد المقاومين ستقوم بأسر المزيد من الجنود الاسرائيليين اذا لم يكف العدد الحالي لانجاح عملية التفاوض». كما وجه آنذاك تحذيراً بإقفال الملف. كذلك كان نصر الله قد حسم مسألة ارتباط صفقة المفاوضات بإطلاق سمير القنطار، الامر الذي قطع الطريق امام اي سعي اسرائيلي لحلول جزئية واي محاولات لتفريغ النجاح في الصفقة وانتصار حزب الله في مضمونه، لا سيما بعد توصل الحزب الى التقدم في المفاوضات بأسلوب لم تتعوده الانظمة في التفاوض مع اسرائيل. وقد اسفر هذا الاسلوب عن طلب الاسرائيليين متابعة المفاوضات وابقائها سرية على ان تعطى قوة دفع جديدة وبمعزل عن السعي الاسرائيلي لإيجاد سلسلة مخارج منها ما تردد عن تخفيف حكم القنطار الى 25 عاماً بدل 542، ليصار الى إطلاق سراحه في ابريل (نيسان) المقبل، ومنها الاشتراط على ان يتم اطلاق الجاسوس الاسرائيلي المعتقل لدى مصر عزام عزام، ومنها نقل القنطار الى المانيا، واطلاق سراحه منها. لكن المعادلة تبدو واضحة لدى «حزب الله» إما اطلاق الجميع وإما طرح السؤال عن البديل لنجاح المفاوضات المعتقلة في عنق الزجاجة.

هل سيقدم الحزب على أسر مزيد من الجنود الاسرائيليين كما وعد امينه العام، الذي أكد «انه يقوم بكل ما يلزم لانجاز عملية كاملة»، مضيفاً «ان لنا أخوة أعزاء يعانون في سجون الاحتلال ولهم عائلات واطفال وامهات في انتظارهم».

ويبدو ان وعد السيد يبلسم انتظار الاسرى وعائلاتهم، وليس اليوم فقط وانما منذ سنوات وسنوات، كما قالت لـ«الشرق الأوسط» السيدة اقبال القنطار والدة الاسير سمير القنطار، فقد التزم السيد في عام 1996 بتحرير ابنها الاسير، وأضافت «مهما كان الثمن، التفاوض سيتم، وفشل شارون تجاه شعبه لن يحوله اعتقال سمير الى نجاح، لا سيما ان شريكه في العملية أحمد الأبرص أطلق عام 1985، ولا حجة لدى اسرائيل بالاستمرار في احتجازه».

وقالت القنطار ان «سمير يسمع الاخبار من سجنه ويتابع تفاصيل ما يجري وكل السيناريوهات التي يتم تداولها بشأنه لا أساس لها.

وعن الخطوة المرتقبة في حال فشلت المفاوضات قال بسام القنطار شقيق سمير: «العائلة تحضر لما بعد انتهاء هذه الجولة السريعة، واذا تبين ان لا رجوع عن اصرار اسرائيل سنطلق حملة تضامن واسعة من اجل سمير.

وتعود الوالدة الى القول: «لا صفقة من دون سمير، وأنا لم اقطع الامل منذ اليوم الاول لأسره، واليوم اكثر من اي وقت سابق والفضل لحزب الله واصراره». وتضيف: «كأن الحكومة الاسرائيلية حاقدة شخصياً على ابني. الامين العام للامم المتحدة كوفي انان طالب باطلاق سراحه اثر الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان، في اطار تنفيذ القرار 425، لكن رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ايهود باراك رفض. كذلك حاول وزير الاسرى الفلسطيني هشام عبد الرزاق بذل جهود شخصية لتحرير سمير، وقد كان رفيقه في الزنزانة لمدة 17 عاماً لكنه لم ينجح.

وعن الوضع الحالي لسمير القنطار بعد 25 عاماً، جال خلالها على جميع السجون الاسرائيلية واستقر في سجن نفحة في صحراء النقب، قالت والدته: «سمير مصاب بالربو، نال ما يكفي من التعذيب وهو يعاني من رصاصة لا تزال مستقرة في رئته اليمنى، تهدده دائماً بخطر كبير. ولم يتمكن من انجاز دراسته للحصول على الماجستير في العلوم الانسانية والاجتماعية بسبب العقبات والصعوبات من الجانب الاسرائيلي. بعد اسره تزوج شقيقه وشقيقاته الثلاثة واصبح في العائلة 12 حفيداً، يعرفه كل منهم من خلال الرسائل والصور. هو يحتاج الى بعض الاغراض في سجنه ونرسل له ما تيسر من المال ليشتريها.

ساجد ابن الشيخ عبد الكريم عبيد يشعر بصلة ما مع عائلة القنطار وغيرها من عائلات الاسرى، يقول لـ«الشرق الأوسط» تعرفت على بسام القنطار ابن قرية عبيه في جبل لبنان، وكان عمري ثماني سنوات، اي بعد عام من اختطاف كومندوس اسرائيلي لوالدي. وبسام يكبرني ببضع سنوات. شعرت بتقارب يجمعنا وغيرنا من عائلات الاسرى بمعزل عن الدين والطائفة والميول الفكرية والعقائدية.

ويستعيد ساجد الذي يحضر لنيل اجازة في الاعلام حكاية اختطاف والده شيخ القرية وامام مسجدها فيقول: «فجر الجمعة في 28 ـ 7 ـ 1989، حوالي الساعة الثانية، استفقت على صوت قوي. كان هناك من يحطم باب البيت في الظلام، فالكهرباء كانت مقطوعة. لحقت بأمي التي ارخت عباءتها على رأسها وتوجهت الى المدخل، لتتفاجأ بحوالي 25 جندياً اسرائيلياً بكامل اعتدتهم العسكرية وكاشفات الضوء فوق رؤوسنا، يصرخون: «اين الشيخ؟». اجابت الوالدة: «لا أعرف. ثوان فقط وكانوا في غرفة نومه، حدست والدتي هدفهم، فخرجت مسرعة الى الشرفة وبدأت بالتكبير، ذلك ان اهل القرية اتفقوا فيما بينهم على التكبير لدى تعرضهم للخطر الاسرائيلي. أعادها الجندي بالقوة الى الصالة. انتهى الامر بسرعة. خطفوه وكان عمري سبعة اعوام فقط واليوم بلغت 21 عاماً، لم اكن اعي ما يحصل. لا أعرف كثيراً هذا الوالد. اذكر انه كان مقاوماً وقائداً ومحرضاً على المقاومة ضد الاحتلال في خطبه ولقاءاته مع الناس. ومن احاديثه، عرفت ان الاسرائيليين يحتلون ارضنا وهم اعداء وظالمون.

ويسترجع ساجد طفولته المبتورة والتي حظي خلالها بعلاقة مميزة مع والده، كما يطيب له ان يقول، مضيفاً ان «الشيخ اجاد رغم مشاغله الكبيرة الاهتمام بعائلته واولاده الخمسة. كنا نأكل معاً ونرتاح معاً وكان يتولى تدريسي ومراجعة فروضي بنفسه، ويصر على اصطحابي في جولاته وزياراته. كنت اراه الأب والمدرس والمثل الاعلى. بعد اعتقاله ترسخت صورته المثالية في وجداني.

عائلة عبيد بقيت ثلاثة اعوام لا تعرف عنه اي خبر، وبلغ عدد رسائلها اليه عبر المنظمات الدولية 100 رسالة، عادت كلها نتيجة رفض اسرائيل السماح له بتسلمها الظهور الاول للشيخ كان على شاشة التلفزيون الاسرائيلي عام 1992 خلال مقابلة دامت حوالي ربع ساعة، تحدث فيها عن معاناته في المعتقل وخوفه على اولاده وتحديداً طفلته مجاهدة التي كانت في سريرها قرب سريره لحظة الاختطاف وعمرها لم يكن يتجاوز عدة اشهر. قال انه يراها في احلامه ويتخيل كيف تكبر. ولا يفارقها بفكره لحظة واحدة. بعد اربعة اعوام، اي في عام 1996 تلقت العائلة بطاقة بريدية تحمل مشهداً لبحيرة طبريا وبضعة اسطر بخط الشيخ، يسأل عن احوال اهل بيته وعمن بقي على قيد الحياة ومن مات.

الاتصال الثاني كان مأساوياً. في عام 2000، بعد انقطاع تام لأخباره، نجحنا بإبلاغه عبر رسالة حملها الصليب الاحمر ان والدته توفيت، فرد معزياً بكلام يعكس معنوياته المرتفعة، ثم تواصلت الرسائل، وتوسعت، وبدأ يخاطب كتابياً كل فرد من افراد العائلة، وآخر الرسائل كانت لتهنئة ساجد وساجدة، 18عاماً، بخطبتهما.

ويتوقف الابن عند دور والدته ومعاناتها وقدرتها على تولي الشؤون الحياتية للعائلة في غياب الشيخ، وخوفها على اولادها ودعمهم بالقوة اللازمة ليكبروا ويقبلوا حرمانهم الوالد لانه مقاوم ومؤمن.

واليوم تستعد هذه العائلة لعودة الشيخ، الذي حول السجن الى مدرسة تخرج الابطال، كما يقول ساجد الذي نشأ في حضن المقاومة، مضيفاً ان الشيخ صائم منذ سنوات، لا يفطر الا في الاعياد، رفيقه في الزنزانة منذ عام 1998 هو مصطفى الديراني الذي اختطف ايضاً من منزله في بلدة قصرنبا في البقاع فجر 22 ـ 5 ـ 1994 ليلة عيد الاضحى، كما يحكي ابنه محمد، الذي كان يبلغ الثامنة من عمره آنذاك». ويضيف انه لا ينسى مشهد والدته المكبلة اليدين والقدمين وهي تزحف بطريقة غريبة على درج البيت محاولة اللحاق بالجنود الاسرائيليين الذين حملوا زوجها.

وحكاية اقتحام منزل الديراني تشبه ما حصل مع الشيخ عبد الكريم عبيد. الاسلحة والاصوات المرعبة وكاشفات الضوء التي تعمي الابصار. وكلام عربي لجندي اسرائيلي فيما السلاح موجه الى الرؤوس «اذا تحركتم سنطلق النار عليكم».

يقول محمد «لم تستمر العملية اكثر من عشر دقائق، اخذوا ابي وقالوا ان البيت ملغم وغادروا، سارعنا بدورنا للهرب الى بيت الجيران. لم ينفجر منزلنا، وحين طلع الصباح حضرت فرقة من الامن الداخلي وتفقدت المكان. عدنا الى المنزل وبدأ مشوار العذاب». وتتدخل ام علي ديراني لتقول: «غادرنا القرية بعد اختطاف زوجي الى بيروت، غاب الاولاد بضعة ايام عن المدرسة، ثم عادوا بعد ان طلبت من الادارة ان تعاملهم بطريقة طبيعية ومن دون تعاطف يؤثر سلباً على تحصيلهم». وام علي مجازة في الادب الانجليزي، وتدرس هذه المادة في احدى المدارس الرسمية. وتقول: «تعرفت الى مصطفى في اطار «حركة أمل» التي كنا ننتسب اليها». قبل خطوبتهما وقع الاجتياح الاسرائيلي على لبنان عام 1982، «حينها كان «الحاج» مسؤولاً امنياً، بقي يحارب سبعة ايام عند مثلث خلدة، بوابة بيروت الجنوبية. كنت اعرف ان عمله خطير، فنحن لم نتمكن مرة خلال خطوبتنا وبعد الزواج من القيام بنزهة او زيارة ترفيهية. كنت اتوقع استشهاده وقد اصيب مراراً، وجرح وكان يمشي متوكئاً على عصاه».

وتدلنا ام علي على العصا المعلقة في زاوية صالة الاستقبال ثم تضيف: «كيف اتوقع ان يختطف زوجي في ظل الانتعاش الامني الذي كان سائداً عام 1994 والحضور الكثيف للجيش اللبناني في البقاع، حتى كان الواحد يخاف من الاحتفاظ بسلاحه الفردي في المنزل. كيف يمكن ان اصدق ان 25 جندياً يستطيعون اقتحام غرفة نومي ويتجولون في منزلي وكأنهم يعرفون كل زاوية فيه، يحملونني مع سارة؟ التي كانت تحبو الى غرفة ابنتي طيبة، يعزلون ابنائي الثلاثة في غرفتهم ويقول لي احدهم في لهجة فلسطينية «نحن اسرائيليون نريد زوجك حياً، لا تصرخي»، ثم يسألني مباشرة: «اين الطيار؟» (كان يقصد رون آراد الاسرائيلي الذي وقع من طائرته وحمله مصطفى الديراني وأسره لعامين). قلت له: «لم اسمع بهذا الاسم من قبل ولا اعرف عمن تسأل. ولمحت بطرف عيني انهم حملوا زوجي وغادروا في سيارة، تشبه سيارتنا».

وانقطعت اخبار مصطفى الديراني سنتين. الصدمة لأم علي كانت لحظة مشاهدتها صورته في صحيفة عند طبيب الاسنان، كيس اسود يغطي رأسه ومكبل اليدين مع عبارة: «مصطفى الديراني في طريقه الى المحكمة». قالت: «أصبت بانهيار وبكيت مفجوعة، ثم حملت الصحيفة الى مركز الصليب الاحمر واخبرت المسؤول ان صورة زوجي المنشورة تشكل اهانة للانسانية بأسرها. طلبت بذل المساعي لرؤيته، فأجابني كالعادة بالرفض وبأنه لا يستطيع اعطائي وعوداً كاذبة».

بعد بضعة اشهر تحركت الوساطة الالمانية وحصلت على بطاقة صغيرة تحمل مشهداً من مدينة حيفا واربعة اسطر بخط أبو علي. وفي المقابل سمح لنا ببطاقة مماثلة وأسطر قليلة تحوي طمأنة عائلية.

وهكذا من عام 1996 حتى عام 2000 لم تتلق عائلته اي خبر، وكان مصطفى الديراني في سجن الصرفند المخابراتي الذي لا يعرف مكانه الا قلة. في عام 2000 شاهدت ام علي زوجها على شاشة التلفزيون خلال محاكمته وقرأت آثار الهم والارهاق على وجهه، كما قرأت الاصرار وقوة المعنويات.

واليوم ما تزال رسائل الديراني تعد على اصابع اليد الواحدة، ربما رسالة واحدة كل ستة اشهر، لكن عدد الصفحات ارتفع وباتت تتضمن قصائد لابنتيه سارة وطيبة، كما تتضمن نصائح للاولاد.

وتقول أم علي «كتبنا رسالة له في تموز لإبلاغه ان الأولاد نجحوا في دراستهم. علي اصبح في السنة الجامعية الثالثة في هندسة الاتصالات، ومحمد بدأ دراسة طب الاسنان، وحمزة وصل الى الصف الثالث الثانوي، وكذلك طيبة انهت الدراسة التكميلية. والصغيرة سارة صارت صبية وتستعد لتقديم شهادة البريفيه. لكن لم اتسلم رداً منه لأعرف ما اذا وصلته رسالتي».

واليوم يكبر الامل بإطلاق سراح مصطفى الديراني انطلاقاً من الايمان بالله، تقول زوجته، فالله لن يتخلى عنه، واعتماداً على كلام السيد حسن نصر الله ووعده القاطع بعودة الاسرى، وربما تكون الوسيلة الحالية غير ناجحة، لكن بالتأكيد توجد وسائل اخرى سيستخدمها الحزب لتحريرهم.

* والدة أنور ياسين: الانتظار صار أصعب بعد الوعد بإطلاقة

* أنور ياسين هو رابع الاسرى الذي قابلت «الشرق الأوسط» عائلاتهم. تعبت والدته جميلة في انتظاره منذ 16 ـ 9 ـ 1987 اثر تنفيذ عملية عسكرية في منطقة جبل الشيخ واعتقاله في سجن نفحة الصحراوي وعلاجه اثر اصابته بعدد من الطلقات والحكم عليه 30 عاماً. وتجد والدة انور ان الانتظار صار اصعب بعد الوعد بإطلاق سراحه، وهي تدعو بالخير للسيد حسن نصر الله في كل صلاة تؤديها. قابلته 3 مرات وقال لها: كل المعتقلين اخواني لا تفرقة بين مناضل وآخر مهما كان انتماؤه ودينه وفكره وعقدته.

لا تستطيع مغالبة دموعها حين تتحدث عن انور، تتدخل شقيقته الصغرى لتقول «تعبت امي، نخاف عليها من الانتظار واسترجاع الحكاية». لكن الام تحب هذا العذاب على ما يبدو، كأنه وسيلة اتصال بالابن الغالي. تخاطب احدى صوره الكبيرة الموزعة في الصالة، وكأن لا حضور في المنزل الا لأنور. حضور بالقوة لمكافحة الغياب والاسر. هو اصغر الشباب، توضح والدته، مضيفة: كان جدياً يتمتع بحس الفكاهة، وكان محترماً مجتهدا في المدرسة ووطني قدر ما تشائين.

وتجد الوالدة ان النضال هو الطريق الحتمي لأولادها، فهم من بلدة الدلافة في قضاء حاصبيا، حيث ترك الاحتلال الاسرائيلي بصمة مُرة «تعذبنا كثيراً في بلدتنا. كنا ننزل في الليالي المثلجة الى المغاورلنحتمي من القصف الاسرائيلي وذلك منذ الستينات.

كل اولادي يكرهون اسرائيل، وكلهم شاركوا بعمليات مقاومة. هذا واجبهم. لكن قلب الأم لا يحتمل. قبل مغادرته المنزل عشية اعتقاله ودع الجميع. قلت له من دون ان اعرف نيته: العين لا تقاوم المخرز تعقل يا بني، لكنه اجابني: العين ستحارب المخزر والحق لن يموت، ربما ليس في جيلنا ولكنه لن يموت. ولن نعيش تحت ظلم اسرائيل». وتضيف الام: «خرج نسيت ان اقرأ آية الكرسي وادعو الله ان يحفظه كما هي عادتي لدى مغادرة اولادي المنزل، ركضت الى الشرفة، شاهدته يبتعد وقرأت آية الكرسي وطلبت من الله ان يحفظه. بعد ايام سمعت في الاخبار بعملية جبل الشيخ وبأن المقاومة اشتبكت مع دورية اسرائيلية، وقتلت ضابطاً وجنديين وتمكن عناصرها من الفرار باستثناء واحد منهم اصيب خلال العملية، اعتقلته القوات الاسرائيلية. فقلت لنفسي: الله يسخر له اولاد الحلال ويصبر قلب امه. كنت الأم من دون ان ادري وكان ابني المعتقل، عرفت ذلك بعد ايام حين عاد الاولاد من مهرجان للحزب الشيوعي، رأيت الشباب واجمين والبنات باكيات، عرفت انه اصيب في كتفه ونفدت منه الذخيرة، بعدما غطى انسحاب رفاقه الذين انتظروه ولم يأت». وتضيف جميلة: "اشكر الله انه لم يقع في يد افراد جيش لحد (ميليشيا جيش لبنان الجنوبي) لم يكونوا ليتركوه على قيد الحياة، طلبت من الله ان يقع في قبضة اولاد حلال، ولو كانوا اسرائيليين. بعد شهر ونصف الشهر تلقيت منه اول رسالة طمأنتني عنه، لم يخبرني ما اذا كان قد تعرض للعذاب. طلب مني ان اسامحه على ما سببه لي من قلق ودموع. كيف يطلب مني مسامحته وهو تاج رأسي وفرحة قلبي.

وتحرص عائلة انور ياسين على ارسال المال له في سجنه الحالي، «حسب قدرتنا» كما تقول الوالدة، «ليشتري مع رفاقه في المعتقل الطعام الذي يريدون»، كان يحب «الفراكة» (اكلة لبنانية شعبية وجنوبية) والملوخية ومجدرة العدس، لكنه لم يكن متطلباً.

اول رسالة تلقتها عائلة انور ضمت 3 صور، اخذت بصورة جانبية. خافت الأم لأنها لم تلمح يده، سألته عنها، فتعمد ابراز يديه في صوره اللاحقة. وارتدى سترة عليها صورة غيفارا ارسلها له شقيقه من البرازيل.

وتحمل رسائل انور الكثير من التفاصيل وكأنه يعيش مع افراد عائلته الكبيرة (تسعة اخوة) لحظة بلحظة. لكن الام لم تعد تحتمل فما تريده فقط هو عودة ابنها.

كذلك تريد هذه العودة امهات وزوجات وبنات، ناهيك من الآباء والاخوة والابناء. والمعتقلون اللبنانيون في السجون الاسرائيلية هم سبعة عشر، املهم الوحيد حالياً يكمن في المفاوضات التي يجريها «حزب الله». ويبدو ان الامل صار حلماً في طريق الواقع.

* شعر وإجازة جامعية وفكاهة في المعقتل

* نظم الشيخ عبد الكريم عبيد منذ عام 1994 حتى الآن 15 ألف بيت شعر وانجز دراستين، الاولى مقارنة بين التوراة والانجيل والقرآن الكريم، والثانية هي تفسير للقرآن الكريم، اضافة الى كتابة يومياته وانغماسه في القراءة والتعبد.

اعتقل سمير القنطار ولم يكن قد اكمل دراسته الثانوية في لبنان، لكنه تعلم العبرية والانجليزية وتابع دراسته حتى حصوله على شهادة الليسانس من جامعة تل ابيب المفتوحة، التي تسمح بأسلوب التعلم عن بعد، وقد تخصص بمادة العلوم الانسانية والاجتماعية، انهى دراسة الاجازة في حزيران 1997، وكتب بحثين اضافيين الى المواد هما: «المفاجآت العسكرية في الحرب العالمية الثانية» و«تناقض الامن والديمقراطية في اسرائيل». وهو حالياً يحاول متابعة دراسة الماجستير ومادة «الديمقراطية» وتجاوز العقبات التي وضعتها مديرية السجون، وهو يقول: «انه ما دام الاسرائيليون مصرين ان ابقى هناك فلا مانع لدي من اكمال دراسة الدكتوراه».

انور ياسين اكتسب حس الفكاهة في كتاباته، معتمداً على مقولة شر البلية ما يضحك. وتبرز سخريته من خلال رسائله، فيكتب الى والده: «اين كنت ستحصل على لقاء مع محامية فرنسية لو لم اعتقل. اضحك يا عم وانبسط فاعتقالي كان لصالحك». ويشكر شقيقته التي «كسرت اصبعها» وهي تكتب له رسالة معتبراً اياها «كاتبة عظيمة»، فيعدها بالتعويض عن الاضرار، ومنحها بدل الاصبع يده كاملة.

مصطفى الديراني تفتحت قريحته شعراً في المعتقل، لا سيما لابنته سارة، فهو يهديها قصيدة في ذكرى ميلادها، ويقول لها انه يزرع براءتها في عيونه، يعتبر انها اضحت مثله اسيرة الشوق اليه. يؤكد انه يراها حين يشاء، ويخاف نظرتها اللائمة لغيابه عنها، يعدها بالكثير من الحكايات بعد جمع الشمل.