مي الدفتري: رأيت طبيبا عراقيا يقطع الصابونة إلى ثلاث قطع ليتقاسمها وزملاؤه

انعزلت عن مجتمع لندن ـ إثر زيارة بغداد ـ لأن ثمن فنجان القهوة الذي نحتسيه في المقهى يعيل عائلة لمدة شهر

TT

مي الدفتري من الوجوه المميزة في المجتمع العربي البريطاني في لندن، فهي تترأس «جمعية العون الطبي لأطفال العراق» وعملت بجهد لتفعيلها وللارتقاء بها الى مصاف الجمعيات الزاخرة بالعطاء.

فقد تكفلت الجمعية، منذ عام 1995، بتأمين مختلف اللوازم الطبية لاطفال العراق، فأقيمت العديد من النشاطات التي عاد ريعها لهذا الغرض والتي حظيت بمشاركة عربية وبريطانية واسعة.

آلام الاطفال حفزتها على مضاعفة جهودها، فكدت من أجلهم وهي العراقية الأصل. في مكتب الجمعية التقيتها وكان عرضا مفصلا لنشاطات على مدار ثماني سنوات مستمرة حتى يومنا هذا وان تبدلت الظروف.

* تترأسين جمعية العون الطبي لأطفال العراق. ما هي الظروف التي دفعت بك لتأسيس هذه الجمعية، لا سيما انك مقيمة في لندن منذ زمن؟

ـ لم أكن يوما بعيدة عن العمل الخيري الاجتماعي، فكنت اشارك في تنظيم الحفلات التي تقيمها جمعية متخرجي الجامعة الاميركية في بيروت، المقيمة في لندن، كوني عضواً في الجمعية، كما كنت اعمل بين حين وآخر لأجل جمعية العون الطبي الفلسطيني. وحينها لم اكن اقوم بشيء لأجل العراق لانه لم يكن محتاجا. وفي عام 1991 عندما بدأت حال العراق بالتدهور، فتحت بيتي ودعيت اصدقاء للتبرع للعراق، وفي ما بعد نظمت واصدقاء حفل عشاء في احد فنادق لندن يعود ريعه لأطفال العراق. وتعاونا مع الصليب الاحمر الدولي على مدى ثلاث سنوات تقريبا، اذ كنا نجمع التبرعات ونقدمها لهم، وفي ما بعد حثني الاصدقاء على تأسيس جمعية، لا سيما ان الاموال التي كنا نجمعها للصليب الاحمر كان ينفقها على تنقية وتنظيف مياه العراق، وهو أمر جيد ومهم، لكن نحن كنا نفضل الاهتمام بالادوية واغذية الاطفال، فقمت في فبراير (شباط) عام 1995 والبروفيسورة سعاد طبقشلي وشخص آخر بتأسيس «جمعية العون الطبي لأطفال العراق» وسجلناها كجمعية بريطانية. وهكذا بدأنا بمجلس أمناء يضم ثلاثة اشخاص، ليضم اليوم ستة اشخاص، وتضم الجمعية اربعة عشر عضوا، اضافة الى عدد كبير من اعضاء الشرف ولجنة داعمة من الشباب والشابات المتطوعين، كما لدينا ستة اطباء في كل من العراق والاردن. ومنذ عام 1995 ولغاية اليوم قدمنا ما يفوق مليوني جنيه استرليني ـ ما بين أدوية وعينات طبية ومساعدات ـ لأطفال العراق.

* وهل حينها اعلمتم عن أنفسكم لدى وزارة الصحة العراقية، أم قمتم بأخذ موافقتها لتصدير الادوية الى العراق؟

ـ طبعا، قدمنا أنفسنا كجمعية بريطانية تسعى لتقديم المعونات الطبية لاطفال العراق فحصلنا على الموافقة. ومنذ أن باشرنا بعملنا ولغاية ابريل (نيسان) الماضي لم نتعرض يوما لأي مضايقات من النظام، كنا نرسل المعونات وتصل وتوزع على المستشفيات حسب الجداول التي وضعت من لندن. لم يحصل يوما ان ضاع أو سرق اي صندوق أو حصل اي خطأ، نعمل مع اطباء مستقلين وآخرين متعاقدين مع المستشفيات يرسلون لنا قائمة باحتياجاتهم فنرسل المعونات بالطائرة الى عمان ومن ثم ترسل بالبر الى العراق. والجدير بالذكر انني كنت خائفة من عدم وصول المعونات، لكن احد اركان الصليب الاحمر الذي زاول النشاط نفسه اطلعني على كيفية العمل الصحيحة، ويومها قال لي انه اذا التزمت بالقوانين فعملك سيسير على ما يرام، إذ كنا نرسل نموذجا عن كل دواء قبل ارسال شحنة منه. ومن المهم جدا ان يكون الدواء صالحا لفترة طويلة، لأن توزيعه يستغرق وقتا، فكل دواء نرسله كان صالحا لسنتين وبذلك كنا نحظى على موافقة الأمم المتحدة. لم نواجه يوما مشاكل مع العراق أو مع الأردن، ومع كل شحنة طبية كنا نرسل شخصا ليشرف على توزيعها.

والجدير بالذكر اننا نقوم بارسال الادوية والمعدات الطبية من حقن ومشارط ومختلف اللوازم الجراحية اضافة الى الامصال والمطهرات والمعدات الخيرية والكراسي الخاصة بالمقعدين. كنا نطلب من المستشفيات والاطباء قوائم باحتياجاتهم، ووفقا لها نقوم بالارسال.

الصليب الاحمر كان يؤمن اللوازم الضرورية ونحن نمدهم بالباقي، والجدير بالذكر اننا نقوم ايضا بتجهيز مستشفيات الاطفال، فقد جهزنا غرفة انعاش في مستشفى المنصور في بغداد.

* هل كنتم تصلون الى جميع المدن والمحافظات؟

ـ نعم، والكمية ترسل حسب الاستهلاك، بغداد والبصرة والموصل كانت استهلاكاتها كثيرة، فكنا نرسل كميات كبيرة، كما اننا نقوم بارسال معدات للكليات الطبية. والجدير ذكره ان الأدوية الخاصة بالأمراض السرطانية لا ترسل إلا الى المستشفيات التي تضم «محارق»، لأنه يجب حرق هذه الادوية والمعدات بعد استعمالها.

* ما هي ردة فعلك اثر اول زيارة لك للعراق تحت الحصار؟

ـ ذهبت الى العراق عام 1990 (قبل غزو الكويت) لزيارة والدتي المريضة، وكان قد مضى 15 عاما على الزيارة الاخيرة. يومها حقا سعدت بما رأيت، حالة عمران لافتة إذ اختلف البلد عليّ كثيرا عما كان عليه عام 1975، والشعب كان للتو خارجا من الحرب العراقية ـ الايرانية، ومتفائلا بالمستقبل.. أي كان يلوح في الأفق بصيص أمل، لكن للأسف بعد اشهر قليلة حصل غزو الكويت واندلعت حرب الخليج الثانية وتبددت الآمال.

الزيارة الثانية كانت عام 1996، اردت ان أطلع عن كثب على حاجة الاطباء والمستشفيات فتوجهت للقائهم، وحقا صدمت وتألمت كثيرا لما رأيت، فحالة البلد ـ تحت الحصار ـ كانت مأساوية، مراتب اسرة المستشفيات بلا اغطية، ورأيت طبيبا يقطع الصابونة الى ثلاث قطع ليتقاسمها وزملاؤه! الاطفال يتألمون ولا ادوية كافية، المستشفيات لا تتوفر لديها أدوات التعقيم، حقا ذهلت بما رأيت واعتصر قلبي ألما، خاصة انه حينها كان عندي حفيدة، فقدرت اكثر معاناة وآلام الاطفال. اذكر انه بعد هذه الرحلة لم استطع استعادة نمط حياتي بسرعة، فانعزلت عن مجتمع لندن لفترة قضيتها الى جانب حفيدتي في فرنسا، لم اكن ارغب بالخروج ولقاء الناس، وكنت افكر ان ثمن فنجان القهوة الذي نحتسيه في احد مقاهي لندن يعيل عائلة بأكملها لشهر! لكن في ما بعد، وزيارة تلو الأخرى (كنت ازور بغداد حوالي مرتين في السنة) اعتدت على رؤية وتحمل الصعوبات وكان يخفف عني رؤيتي لنتيجة عملنا وتحسن صحة الاطفال واحوال المستشفيات.

ما رأيته في المرة الاولى حفزني على بذل جهود جبارة، والتحسن كان يحفزني على المزيد من العطاء، والجدير بالذكر انني كنت ازور العراق حوالي مرتين في العام، وآخر زيارة كانت قبل الحرب.

* ألم تفكروا بتوسيع نطاق نشاطاتكم لتشمل جميع المرضى وليس الاطفال فقط؟

ـ نتمنى توسيع نطاق عملنا، لكن الحاجة كبيرة ومعوناتنا كافية وليست فائضة، فضلنا ان نؤمن احتياجات الاطفال بالكامل وألا نوزع اهتمامنا بين نطاقين ويتشتت التركيز ونقصر في المجالين وبالتالي لا يحصل كل طرف على حقه. داوينا حوالي 130 طفلا على مدار هذه السنوات، منذ الحصار مات حوالي مليون طفل عراقي، اليوم نعمل على تفعيل العلاج النفسي، نقوم بدراسات من أجل هذا الغرض، فتكرار الحروب اثر بشكل سلبي جدا على نفسية الاطفال وزرع الرعب والخوف فيهم وجعلهم يعيشون هاجس الذعر، كما اننا سنعمل على تنقية الجو، فاليوم يشهد العراق تلوثا بيئيا خطيرا من جراء استعمال الاسلحة الكيماوية. والمسؤوليات الملقاة على عاتقنا متشعبة.

* هل تقومون بارسال بعثات من الاطباء البريطانيين من حين الى آخر أو تأتون بأطباء عراقيين الى لندن للاطلاع على كل جديد والاستفادة من الخبرات البريطانية؟

ـ موقعنا الالكتروني يُقرأ كثيرا مما اتاح لكثيرين الاطلاع على نشاطاتنا وأبدوا رغبتهم في مساعدتنا، فالكلية الملكية البريطانية لاطباء الاطفال اطلعت على موقعنا وقام القائمون عليها بزيارتي واعربوا عن رغبتهم بتقديم منح لأطباء في العراق ليأتوا الى لندن ويخضعوا لدورات تدريبية تطويرية، وقد طلبوا مني ان امدهم بقائمة حول اسماء الاطباء.

* ما هي الأشطة التي تنظمونها ويعود ريعها للجمعية؟

ـ لدينا ثلاثة انشطة في السنة، نقيم افطارا خلال شهر رمضان المبارك، وافطارنا لهذا العام كان في السابع من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، كما ننظم حفل عشاء ضخما Gala dinner اضافة الى غداء ذي عدد محدود، هذه الانشطة توفر للجمعية سنويا حوالي 150 الف جنيه استرليني، كما نتلقى التبرعات سواء من الافراد او المؤسسات، اضافة الى العديد من الرابطات والمؤسسات التي تخصنا بجزء من مدخول الانشطة التي تنظمها، على سبيل المثال فقد تبرعت لنا «مؤسسة الأمل» البريطانية بجزء من مدخول الحفل الغنائي الذي نظمته اخيرا في لندن تحت اسم Hope Gala. تجدر الاشارة الى ان موقعنا الالكتروني اتاح للكثيرين التعرف علينا سواء من العرب أو البريطانيين، مما امدنا بتبرعات كثيرة، ومن التبرعات المؤثرة، تلك الطفلة البريطانية التي لا يتعدى سنها الاعوام السبعة وتأثرت كثيرا لما رأته على شاشة التلفزيون عن حال الاطفال العراقيين خلال الحرب، فطلبت من أمها ان تستبدل هدية عيد ميلادها بتبرع للأطفال العراقيين، ولما كانت الوالدة قد سبق لها واطلعت على موقعنا، عرفت كيفية توصيل المبلغ. ومما قالته الفتاة لأمها انها تريد ان تتبرع باستمرار لأطفال العراق، وقد قمت بتوجيه رسالة شكر الى هذه الطفلة.

* هل ما زلتم ـ منذ انتهاء الحرب ـ توصلون الشحنات بالطريقة نفسها؟ وهل الفوضى الحاصلة في العراق اليوم اعاقتكم أو اخرت وصول احدى الشحنات؟

ـ بعد انتهاء الحرب وفي مايو (أيار) عرضت الخطوط الجوية Virgin بأن تتطوع بشحن معونة الى العراق وأكدت لنا أن الأمور ستجري على ما يرام وستصل الشحنة في الوقت المحدد، فحضرنا المعونات مع قائمة المستشفيات والاطباء الذين يجب ارسالهم (الاجراء الذي نتبعه دوما) واعطيناها للمكلفين في خطوط Virgin لايصالها. بعد حوالي شهر لاحظ الاطباء تأخيرا في وصول الشحنة فاتصلوا بنا وابلغناهم بأن المعونات ارسلت منذ حوالي شهر ولا ندري عنها شيئا.

في أواخر شهر يوليو (أي بعد حوالي شهرين ونصف الشهر على ارسالها) وصلت الشحنة ينقصها حوالي %40 من الادوية التي كانت مرسلة، كما اننا ارسلنا 20 كرسيا متحركا (الخاصة بالمقعدين) وصل منها ثلاثة. وعندما استعلمنا من القائمين على «الخطوط» حول ما حصل، ردوا ذلك الى الفوضى السائدة في البلاد وبأن الشحنة وصلت اولا الى البصرة ومن ثم ارسلت الى بغداد، وربما حصل ذلك في الطريق. وقد اعددنا لائحة بالنواقص وقدمناها الى قوات التحالف، لأننا نلقي بمسؤولية ما حصل على عاتقهم كونهم المسؤولين عن حفظ الأمن في البلاد. والجدير بالذكر اننا قمنا في شهر اغسطس (آب) الماضي بارسال شحنة (لجمعية العون الطبي وبلا مؤازرة من احد) ووصلت في الوقت المحدد وبلا اي نواقص، وان شاء الله أنوي زيارة العراق في مطلع شهر ديسمبر (كانون الاول) المقبل.

* ما هي الجمعيات والمنظمات الطبية الناشطة اضافة اليكم في العراق؟

ـ هناك الصليب الاحمر والصليب الاحمر الدولي اضافة الى منظمة اليونيسيف ـ التي دخلت العراق مع سقوط النظام ـ ومنظمة HHO.

* هل تأملون ان تتحسن ظروف عملكم في ظل مجلس الحكم الانتقالي؟

ـ لسنا جمعية سياسية ولا نمثل اي فريق سياسي. ولن اقيّم عمل أي من الحكومات لا السابقة ولا الحاضرة ولا المستقبلية. ونأمل ان تتحسن الاوضاع وان يستتب الأمن.

* الى أي مدى وجودك في لندن ـ كونها عاصمة تعج بمختلف الجاليات العربية والاجنبية ـ ساعدك في العمل؟ وهل تشعرين احيانا بأن البريطانيين يقدرون ويتفاعلون مع العمل الخيري اكثر من العرب؟

ـ المجتمع البريطاني حفزني على العطاء وعلمني كيفية العمل الخيري، ثم ان تعدد الجاليات العربية في لندن حفزنا على التعاون وتضافر الجهود. فما من عربي يعمل فقط لبلده او جنسيته وإنما كلنا نتعاون ونشارك في نشاطات بعضنا بعضا. نظرة العرب للعمل الخيري لم تعد قاصرة، انما بدأوا يأخذونه على محمل الجد وينخرطون فيه ويشاركون في نشاطاته.