لبنان يتعامل مع الأحداث المنحرفين بمنطق الاستيعاب

مسؤول الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة ألكسندر شميث: الطفل الذي لا يملك حذاء سيسرقه من أمام باب المسجد

TT

مجرمون ام ضحايا؟ تصعب الاجابة على السؤال ويحتار الضمير. فالتحديد خاضع الى اجتهادات ودراسات. ذلك ان المسألة ترتبط بأطفال بالكاد خرجوا من براءتهم ليتحولوا الى منحرفين وفق ما تنص عليه القوانين الجزائية. لكنهم بالتأكيد يستحقون فرصة جدية لاعادة تأهيلهم وكسبهم عناصر فعالة وصالحة في المجتمع اللبناني. واذا لم نمنحهم هذه الفرصة سنجد انفسنا حيال رواد سجون بامتياز، لانهم آنذاك سيتمرسون في الانحراف ويملكون القدرة والبراعة في فنون الجريمة وفظاعتها.

ويرى بعض اهل القانون ان عزلهم وعقابهم هو الحل الامثل لتلقينهم دروس الاصلاح وعدم مخالفة القوانين. فيما يرى البعض الآخر ان اصلاحهم في اجواء تربوية صحية امر ممكن بقليل من الجهد المكثف لطراوة عودهم بحيث نجنبهم ونجنب المجتمع المدني مصيراً اسود.

ويقف في صف هذا البعض «المتسامح» والمتفهم عدد كبير من الجمعيات الاهلية المعنية بشأن الطفولة والمراهقة والاحداث المنحرفين في لبنان الى جانب منظمات دولية بذلت ولا تزال تبذل جهوداً بغية تحويل الحدث المنحرف الى عنصر واعد ومفيد لانسانيته ومجتمعه ووطنه.

بداية يصف منسق مكتب الامم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة في بيروت والاختصاصي في شؤون القاصرين والقاصرات الكسندر شميت لـ«الشرق الاوسط» النظريات القائلة بأن المنحرف يحمل في جيناته ومنذ ولادته بذور الجريمة والعنف بأنها نظريات خاطئة، «فالحدث المنحرف هو في الاساس ضحية بيئته العائلية وظروفه الاجتماعية. وفي لبنان تحديداً هو ضحية الفقر والعنف الموجه ضده». ويوضح «ان الجو الاقتصادي الحالي في لبنان يحمل سمات مشجعة على الجنوح، لا سيما لدى الجيل المولود في الثمانينات من القرن الماضي، اي جيل ما بعد الحرب بمشكلاته». لكنه يستدرك قائلاً: «تبقى نسبة الجريمة في لبنان متدنية جداً ولو كانت ضجتها اكبر من حقيقتها بالمقارنة مع غيره من الدول الكبرى ودول العالم الثالث. والفضل يعود الى النظام الاسري الثابتة فعاليته لجهة تحصين الاولاد. وبالاخص في الطبقات المجتمعية المتوسطة. فالفقر المدقع هو السبب الاول للانحراف، والاحصاءات التي اجراها مكتب مكافحة المخدرات والجريمة تعطي ارقاماً دقيقة في هذا المجال، وتؤكد ان النسبة الكبرى من الانحراف ترتبط بالسرقة لدى القاصرين، وبالبغاء لدى القاصرات والدافع هو الرغبة في الربح السريع والحصول على بعض ما حرم هؤلاء الاطفال منه».

ويحذر شميت من خطر المخدرات على المراهقين وتحديداً من انتشارها وسهولة بيعها في بعض المدارس والجامعات واماكن التسلية التي تجذب القاصرين والقاصرات، مشيراً الى «ان الحملات الوطنية لمكافحتها ليست كافية نتيجة التدخلات احياناً من بعض الجهات لحماية كبار التجار» مع التوضيح «ان هذه المشكلة عالمية وليست لبنانية فقط. لكن علاجها في لبنان يلزمه الكثير من تحديث للقوانين المرتبطة اضافة الى توعية للمجتمع».

ويورد شميث ان احدى الفتيات وقعت في شرك المخدرات، فسارع والدها الى معالجتها، وصارح مدير المدرسة بالمشكلة. لكن المدير فور تبلغه الخبر بادر الى فصل الطالبة من المدرسة، عوضاً عن احتضانها وتكليفها توعية زميلاتها بعد علاجها وشفائها.

من جهة ثانية، ينوه شميت بالقانون اللبناني المتعلق بالاحداث بعد تطويره، واصفاً اياه بـ«القانون الرائد» سواء لجهة العقاب او التأهيل. كذلك ينوه بجهود وزير العدل بهيج طبارة في هذا الاطار، «لانه ومنذ منتصف التسعينات دأب على العمل لاصدار قوانين خاصة وحديثة ترعى الاحداث المنحرفين».

* «القوانين المعدّلة»

* واحدث القوانين المتعلقة بالاحداث المنحرفين صدرت بتاريخ 6/6/2002 حاملة شعار «اهتمام متواصل لمواكبة عدالة الاحداث» وتصنف هذه القوانين الحدث المنحرف بأنه «الشخص الذي لم يتم الثامنة عشرة من عمره وقد ارتكب جرماً معاقباً عليه في القانون، مع الاشارة الى انه لا يلاحق جزائياً من لم يتم السابعة من عمره حين اقترافه الجرم، وتتخذ بحقه تدابير هادفة الى حمايته ما لم يبلغ الثانية عشرة من عمره».

اما دور قضاء الاحداث، الذي يعتبر الراعي الاول لشؤونهم فترتكز مهامه على «اتخاذ التدابير الاكثر ملاءمة لوضع الحدث مع طبيعة جرمه، على ان تكون هادفة الى اصلاحه واعادة دمجه في المجتمع. ويتابع تنفيذ هذه التدابير عبر المندوب الاجتماعي والمؤسسات المتخصصة مع اعادة النظر بالتدبير واستبداله عند الضرورة او توقيف تنفيذه وفق نتائج التطبيق».

ويستفيد الحدث المخالف للقوانين الجزائية من معاملة منصفة وانسانية وتخضع اجراءات ملاحقته والتحقيق معه ومحاكمته الى بعض الاصول الخاصة مراعاة لصالحه وبغية تمكينه من لعب دوره في المجتمع. ومن اهم هذه الاصول «ان لا يتعدى التوقيف الاحتياطي فترة شهرين، في حال كان جرمه من نوع الجنحة، قابلة للتجديد مرة واحدة بقرار معلل. وفي حال كان جرمه من نوع الجناية، لا تتعدى فترة توقيفه الاحتياطي ستة اشهر قابلة للتجديد مرة واحدة بقرار معلل». وتحرص وزارة العدل على «ان يتم توقيف الحدث في اماكن مخصصة له بحيث لا يكون على اتصال مع السجناء الراشدين وان تكون جلسات المحاكمة سرية وبحضور المندوب الاجتماعي واولياء الحدث». ومن الممكن اخلاء سبيل الحدث خلال كل مراحل التحقيق والمحاكمة بناء على طلب الحدث او اولياء امره او مدير مركز التوقيف، كما يعود الى القاضي في كافة مراحل التحقيق والمحاكمة، واذا رأى في الامر ضرورة اخلاء سبيل الحدث او تركه من دون ان يقدم احد طلباً بهذا الشأن.

ومن اهم القواعد الراعية لمهام الضابطة العدلية وقوى الأمن الداخلي خلال التحقيق الاولي مع الاحداث المخالفين للقوانين الجزائية وبموجب المذكرة رقم 207/304 بتاريخ 11/ 10 /1999، الزامية الاتصال فوراً بالمندوب الاجتماعي ودعوته الى الحضور، ولا يجوز البدء بمساءلة الحدث ما لم يكن المندوب حاضراً اضافة الى عدم تعنيف او ترهيب او اهانة او ايذاء الحدث قبل التحقيق وخلاله وبعده.

ويفترض ان تسعى قوى الأمن الداخلي عبر سرية السجون الى تأمين ظروف ملائمة للحدث الموقوف والمحكوم، تتيح له بعد مغادرته امكانية بناء حياة افضل، ومن مهام هذه السرية اعتماد برامج تأهيلية هادفة الى التوعية والتثقيف والتدريب المهني بالتعاون مع الجمعيات الاهلية وتأمين ظروف حياتية انسانية لائقة ومحترمة داخل اماكن التوقيف.

وتطبيقاً للنصوص القانونية المتعلقة خصصت ثلاثة اماكن لتوقيف الاحداث المخالفين القوانين الجزائية هي: سجن رومية (في منطقة المتن في جبل لبنان) حيث افرد جناح خاص في المبنىC من السجن للقاصرين الذين تتراوح اعمارهم بين 15 و18 عاماً. وتتولى جمعيات غير حكومية المتابعة التربوية والاجتماعية لهم.

* المبادرة

* ولمعالجة واقع القاصرات المنحرفات تضافرت جهود وزارتي العدل والداخلية المدعومة بالمساعدة الفنية من مركز الامم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة في لبنان لافتتاح «مركز المبادرة» في 11 فبراير (شباط) من العام الحالي.

ويعتبر هذا المركز اول معهد تأديب للفتيات في لبنان والشرق الاوسط، وهو يؤمن الفصل النهائي للقاصرات المخالفات القوانين عن الراشدات في سجون النساء. ويستقبل القاصرات الموقوفات والمحكومات من عمر 15 سنة الى 21 سنة شرط ان يكون تاريخ ارتكاب الجرم قبل سن 18.

ويستوعب المركز 30 فتاة، ويعتمد نظاماً متدرجاً يتطور مع تطور القاصرة حيث يبدأ بالنظام المغلق الذي يحصر البرامج التأهيلية داخله الى النظام المفتوح نسبياً، ويقدم فرص تدريب وعمل في مستشفى ضهر الباشق الحكومي الملاصق له في منطقة المتن. ويشرف عليه ويديره فريق عمل متخصص يؤمن عملية تأهيل القاصرات.

ويتألف المركز من قسم المنامة الذي يضم خمس وحدات، كل وحدة منها هي عبارة عن غرفة منامة وغرفة جلوس وحمام. وقد اعطي تسميات مدروسة من شأنها ان تساهم في عملية التأهيل هي وحدة «يا هلا» لاستقبال القاصرات الوافدات الى المركز ووحدة «البدر» للقاصرات الموقوفات ووحدة «الفجر» للقاصرات اللواتي يتبعن نظاماً مغلقاً، ووحدة «الشمس» للقاصرات اللواتي يتبعن نظاماً مفتوحاً داخل المركز، ووحدة «النور» للقاصرات اللواتي يمارسن تدريباً مهنياً او عملاً في مستشفى ضهر الباشق.

كذلك يضم المركز قسم الخدمات الذي يتألف من غرفة طعام ومطبخ وغرفة غسيل، اما قسم التأهيل فهو يتألف من مكتبة بالاضافة الى ممارسة النشاطات التربوية والى اجهزة كومبيوتر، تتدرب القاصرات على استعمالها بعد تلقيهن دورات في المعلوماتية.

المنسقة الاجتماعية المشرفة في المركز ماري رعد توضح لـ«الشرق الاوسط» «ان فصل القاصرات عن البالغات من المجرمات هو قبل اي امر آخر تطبيق لاحد قوانين حقوق الانسان عموماً، والقاصرين تحديداً، اذ لا يعقل ان تسجن المراهقة مع البالغات من المجرمات، اللواتي يكن قد ارتكبن جرائم ذات نوعيات متعددة. مما يسيء الى انسانيتها ويدفعها الى تعلم وسائل انحراف جديدة، فيما الهدف من التوقيف هو اصلاح الفتيات المنحرفات وتأهيلهن وليس خسارتهن».

واضافت رعد: «اليوم لدينا ست موقوفات ومحكومات سيدخلن مركز «المبادرة» ويستفدن من الخدمات التي يقدمها. والنشاطات كثيرة ومتنوعة ذات طبيعة اجتماعية وتربوية ومهنية اضافت الى الدورات التدريبية»، لافتة الى «ان عدد الموقوفات معرض دائماً للزيادة او للنقصان سواء لجهة تسجيل جنح او جرائم جديدة ترتكبها القاصرات او لجهة انتهاء عقوبة احدى الموقوفات»، ومضيفة: «حالياً تمضي القاصرات اوقاتهن في سجن النساء في بعبدا وهن يشاهدن التلفزيون ويأكلن ويرقدن في بيئة غير سليمة تربوياً واخلاقياً، كذلك يشوبها العديد من الامراض الجلدية وغيرها».

واشارت رعد الى ان النظام في مركز «المبادرة» سيكون مختلفاً عن انظمة السجن، على رغم ان المسؤول عن ادارة المركز هو آمر سجن الاحداث في رومية النقيب غبريال يمين، لكن الحضور الأمني، اذا صح التعبير، سيكون غير منظور للفتيات الجانحات لأن العناصر الأمنية بعيدة عن المكان وان ابقته تحت المراقبة، فالحارسات الاربع المكلفات مراقبتهن لسن سجانات بالمعنى المتعارف عليه. وتطور البرنامج الاصلاحي سيمنح القاصرات حرية مشروطة بعد فترة مراقبة، ليستطعن في نهاية المطاف العمل في المستشفى الملاصق والعودة الى المركز بعد انتهاء الدوام. وغرف المبنى هي اشبه بالمنزل كذلك اثاثه واسرته باغطيتها الملونة بالزهور واجهزة التلفزيون وغرف الطعام والمكتبة».

واشادت رعد بجهود مركز الامم المتحدة لتحقيق هذه الخطوة، مشيرة الى «ان المسؤول الكسندر شميث تعهد انه لو بقيت موقوفة واحدة فسيسعى مع الجهات المختصة اللبنانية لانشاء مركز لها».

من جهته قال شميث، المغادر قريباً الى افغانستان في مهمة اخرى، بعد قضائه ستة اعوام في لبنان، «ان فكرته لن تستكمل الا بانشاء مركز مشابه للنساء وفي مبنى قريب ومتوفر وسط الصنوبر في الموقع ذاته، لان ظروف سجن بعبدا وسجن زحلة (في البقاع) غير مقبولة انسانيا، فيما تحسنت ظروف المسجونات في طرابلس (شمال لبنان)».

وفي موضوع الاحداث المنحرفين اوضح شميث «ان التعاطي معهم يجب ان تحكمه نظرة الى المستقبل وتركيز على العائلة، والفتاة المنحرفة انخراطها اسهل في المجتمع لكن تأهيلها اصعب من الصبيان، لانها لا تقبل الملاحظات والنقد، فهي اكثر حساسية واكثر عنفاً اذا استوجب الامر ذلك».

* الفقر وانحراف القاصرين

* وشدد شميث على «ان تأهيل القاصرين يقود الى تأهيل البالغين، فالبداية مع الصغار اسهل واقل كلفة، لا سيما في ظل القوانين الجديدة التي تستوجب عدم ابعاد الجانح عن اهله، ما لم يكن الضرر الذي ارتكبه هو نتيجة ارغام او اعتداء من الاهل. ففي حوادث سببها اعتداء الاب على ابنته مثلاً، نبحث عن اقارب للابنة من ذوي الثقة، ونؤمن مرشدة اجتماعية تتابع الوضع والعلاج والنظام الطبي والنفسي للضحية واهلها».

وتوقف شميت عند نظرة المجتمع حيال الفتاة المغتصبة «فالتعامل معها حتى من اقاربها يصير محكوماً بمفهوم العار، وحينها تصبح الفتاة ضحية مرتين. اما وضع الشاب المنحرف فهو اسهل حال».

ويورد شميث حالة احدى الفتيات المحكومة بتهمة قتل والدها بالاشتراك مع والدتها والتي تبلغ 18 عاماً حالياً والسبب هو اعتداء الوالد الجنسي المستمر عليها. وحالة الفتاة الراهنة تستوجب فصلها عن والدتها لأنها تعاني من اضطرابات نفسية خطيرة. فهي تكره والدها وتؤمن انه يستحق القتل، ولكنها في الوقت نفسه تشعر بالذنب لاقدامها على هذه الجريمة. وخلال حديث المشرفين التربويين معها تبين انها تشعر ايضاً بالذنب كون والدها اقدم على اغتصابها، وكأنما كانت تشجعه بطريقة غير مباشرة على ذلك، كما كانت ايحاءات بعض افراد العائلة وتعليقات الجاهلين منهم. ولأن حالة هذه الفتاة معقدة جداً نقلت من سجن النساء في بعبدا قبل فترة الى مركز «الراعي الصالح» في منطقة سهيلة (كسروان) لتتلقى رعاية نفسية خاصة.

واسباب الانحراف لدى القاصرين قد تتميز بخصوصية لا علاقة لها بمفهوم الجريمة كما تقول مديرة مركز تأهيل الفتيات والمسؤولة في سجن الاحداث في رومية روز ماري قرقر، مضيفة ان احد المراهقين الذين لا مأوى لهم تعمد سرقة سيارة نائب حتى يسجن ويجد مكاناً ينام فيه. كذلك اشارت قرقر الى ان نسبة من الاحداث غير اللبنانيين سجنوا بتهمة التسلل خلسة الى الاراضي اللبنانية وامضوا عقوبتهم وهم لا يزالون في السجن ولا احد يهتم لمصيرهم لأن اطلاق سراحهم يستوجب اجراءات من الأمن العام. ولفتت الى «ان مشكلة سجن الاحداث في رومية هو ان الفصل بين القاصرين والراشدين ليس تاماً، فالقاصر حين يريد العبور الى المشغل او المشتل او المدرسة او اي من مراكز التدريب المهني يمر بالكبار. والافضل ان نتحاشى ذلك».

ويتصدر الفقر قائمة اسباب الانحراف ويقول شميث: «الطفل الذي لا يملك حذاءً سيسرق اول حذاء يجده حتى لو كان امام باب المسجد». لكنه يؤكد ان 75% من الجرائم المرتكبة هي عبارة عن جنح لها طابعها الظرفي للفعل الجرمي، ويعطي مثلاً عن المراهق الذي يسرق دراجة ليقودها ثم يعيدها، فاذا امسكت به الجهات الأمنية اعتبر مجرماً، مع ان الامر لا يعد كونه جنحة، خصوصاً اذا لم يكن القاصر قد ارتكب اي مخالفة قبل ذلك، والعقاب يجب ان يكون عبارة عن الزام القاصر بالقيام بأعمال ذات طابع خدماتي مدني تفيد المجتمع تكفيرا له على جنحته هذه وليس اعتقاله وعزله كأنه مجرم خطير».