عجوز سنغالية تنشر رسالة القرآن الكريم واللغة العربية في أعماق أفريقيا

الشيخة مريم أنياس: حفظت كتاب الله في الخامسة ونقلته بالحرف والكلم لآلاف الأفارقة * لولا المساعدات السعودية لما تمكنت من الصبر والاستمرار في رسالتي * دار القرآن في دكار فقيرة ومحاصرة بالمدارس التبشيرية

TT

ألف سؤال وسؤال هو طول الرحلة من لندن الى دكار عاصمة السنغال، الدولة الاسلامية القابعة على ضفاف الاطلسي غرب القارة الافريقية حيث يقيم ثلاثي الفقر والمرض والجهل.

غير أن ظلمة الحيرة والابهام سرعان ما تتبدد بعد الوصول الى دكار والالتقاء بامرأة جاوزت السبعين من عمرها وأفنت شبابها كشمعة تلعن الجهل والفقر وتنير قلوب أجيال من اطفال السنغال والاقطار الافريقية الاسلامية الاخرى بآيات من الذكر الحكيم وحروف لغة الضاد.

الشيخة مريم ابراهيم انياس أو كما يسميها تلاميذ وطلبة «مدارس الحاج ابراهيم انياس لتحفيظ القرآن وتعليم اللغة العربية في دكار» بـ«الشيخة مريم بنت شيخ الاسلام»، نذرت حياتها ومنذ أن حفظها والدها القرآن الكريم في سن الخامسة لتعليم القرآن الكريم حفظا وكتابة ودعوة لجيل من المسلمين في افريقيا التي صارعت فيها الوثنية والمسيحية واليهودية الاسلام منذ الفتح الاول على يد عقبة بن نافع.

في عيون هذه العجوز ترى خليطا من الحزن والاصرار والحسرة والاسف والتفاؤل، وفي سوادهما الافريقي ترى تشاؤما لا يبدده الا بريق اصرار متوج بايمان راسخ على الانتصار المعزز بوعد الله بحفظ القرآن الكريم ونصرة اتباعه من المؤمنين.

الشيخة مريم تتهرب من الحديث عن نفسها وتصر على التجوال بي بين مدارسها من حي الى اخر في ارجاء دكار، وداخل كل مدرسة تصر الشيخة التي اثقل الزمن مشيتها على أن يسبق الفعل والدليل المادي اي ادعاء او قول وتقودني من يدي الى داخل الصفوف التعليمية حيث يتكدس الاطفال من طلبة علم القرآن والشريعة واللغة العربية. أقف الى جانب هذه المرأة الاسطورة عاجزا عن الكلام مبهورا بما اسمعه من ايات الذكر الحكيم وهي تتلى وتجود من حلوق اطفال لم يتجاوزوا الثالثة او الرابعة من العمر.

أود الحديث مع الشيخة مريم ولكنها تواصل تقديم الاطفال على نفسها، تصر على تعريفي بهم واحدا تلو الاخر وتدفعهم للتباري وربما التباهي أمامي لتلاوة ما استقر في قلوبهم وعقولهم من آيات القرآن الكريم ونطقت بها شفاههم بحروف عربية صافية خالية من أي كسر أو اعوجاج.

بعد جولة تنقلنا خلالها بين ابنية «دار القرآن» وصفوف التعليم وغرف الداخلية لمبيت الطلاب، نظرت الى الشيخة مريم وكأنها تقول هل تريد اي قول بعدما رأيت وسمعت؟ نعم اريد أن اسمع قصة حفظ القرآن الكريم وتعليم اللغة العربية في افريقيا على يد اجيال الشيخة مريم انياس من الألف الى الياء.

* رحلة مع الذكر الحكيم

* رحلتي مع حروف كتاب الله الكريم بدأت منذ الصغر، فعندما كنت في الخامسة من العمر ارسلني والدي ابراهيم انياس الداعية الاسلامي والفقيه المعروف في افريقيا الى شيخ موريتاني يدعى الشيخ أحمد رباني كان يتولى مع ابنه تحفيظ ابناء وبنات اسرتي القرآن الكريم وتعليم اللغة العربية، ومنذ ذلك الوقت تابعت بكل اجتهاد ومثابرة مشواري حتى حفظت القرآن الكريم واجتزت امتحانا عقده لي والدي بحضور نخبة من رجال الدين والتعليم، وكانت جائزة اجتيازي الامتحان بتفوق هدية قدمها لي والدي وهي فرسان وبقرة وليرتان من الذهب الخالص وكان ذلك الحدث في العام 1947. وبعد ذلك اصر والدي ان اتوج حفظ القرآن بكتابة ما حفظت وهكذا كان اذ انني كتبت القرآن الكريم كاملا وغيبا وهو ما طمأن والدي.

بعد ذلك تابعت علومي في الشريعة واللغة والنحو والصرف حتى اننى قرأت في دواوين الشعر الجاهلي، وبالطبع كنت اتزود بقراءة مؤلفات والدي في مختلف العلوم الشرعية واللغوية.

بعد زواجي من رجل صالح انتقلت من مدينة «كولخ» الى دكار حيث جعلت من منزل الزوجية مكانا لتعليم القرآن الكريم واللغة العربية للاطفال المسلمين، واقبل الناس على ارسال اطفالهم الى دروسي خاصة ان القرآن الكريم واللغة العربية لم يكونا من ضمن المناهج في المدارس الرسمية التي كان يغلب عليها لغة وثقافة الاستعمار الفرنسي. وهكذا كان منزل زوجي النواة الاولى لـ«دار القرآن» في دكار، التي بات يقصدها طلاب من الدول الافريقية المجاورة مثل نيجيريا وتوغو وغانا وموريتانيا وحتى ابناء الجالية العربية والمسلمة المقيمون في السنغال.

الان، وكما رأيت فقد توسعت الدار بفضل الله وانتشرت فروعها في نواحي دكار والسنغال وحتى اننا افتتحنا دورا اخرى في غامبيا ونيجيريا. وفي السنوات الاخيرة طورنا من اسلوب عملنا اذ اننا دمجنا بين التعليم الفرنسي والتعليم العربي الاسلامي اذ يدرس طلاب المراحل التعليمية المتتالية المناهج الرسمية المقررة من الدولة حتى ما بعد الظهر من كل يوم، وفي المساء يتلقون علوم القرآن والعربية، ولدينا الان اكثر من 1500 طالب وطالبة في مختلف الاعمار والمستويات من الروضة الى الثانوي.

* بين الفخر والاسى

* خلال الحديث أحاول متابعة كل حركات وسكنات وايماءات الشيخة مريم التي توجه التعليمات والاوامر لمن حولها بالهمس واللمس وبلغة العين واليد، فلا يكون من الطلاب او المعلمين الا السمع والطاعة المعبرين عن احترام التلميذ لاستاذه.

مرة اخرى استرجع انتباه الشيخة مريم التي لا تتوقف عن تفقد اطفالها في المدرسة الداخلية وأسالها عن اهداف «دار القرآن» وعن الدعم الذي تتلقاه من الدول الاسلامية؟ تجيبني نظرات الشيخة قبل ان تنطق شفتاها بكلمة ثم تقول بصوت نالت من نقاوته ساعات الصيام ونحن في شهر رمضان الكريم: الدار تسعى الى النهوض بالتعليم القرآني وعلوم الفقه والشريعة واللغة كما اننا نهتم بتنمية النواحي الاخلاقية عند التلاميذ من خلال تعليمهم السنة النبوية والاخلاق الاسلامية القائمة على التسامح والعدل. كما ان الدار تسعى ايضا الى التفاعل مع المجتمع الخارجي من خلال تنظيم الندوات والمحاضرات وايضا تنظيم الدروس التي تخصص لاولياء الامور حتى يكون هناك تكامل بين دور المدرسة والمنزل.

أما وانك تسأل عن الدعم الذي نتلقاه من العالم الاسلامي فلا يمكنني الا حمد الله على نعمته وعلى ما يقدره لنا من الخيرين الطيبين خاصة من السعودية الذين يرون في مجهودنا عملا خيرا يصب في خدمة الدين الاسلامي وهذه الاجيال من الاطفال والشبان الذين يتهددهم السيل الجارف من القيم غير الاسلامية. غير أن هذا الدعم يبقى دون المستوى المطلوب والمسؤولية المناطة بنا وحجم الاقبال على مدارسنا ناهيك من عدم مقدرة الطلاب على دفع اي رسوم، بل إن لدينا تلاميذ نتبنى رعايتهم بالكامل ونقوم بدور دور الرعاية او دور الايتام اضافة الى دور التربية والتعليم.

* تحديات ينطق بها المكان

* وماذا عن التحديات التي تواجهها الشيخة مريم وهي تقوم بهذا المجهود في ظل منافسة واضحة من انصار الفرنكوفونية وحملات التبشير التي تغزو القارة الافريقية منذ عشرات السنين؟ أطرح السؤال على الشيخة مريم فتكون الاجابة في مكان اخر من مدينة دكار. الشيخة مريم تمسك يدي وتنطق بلغة لا افهمها فيتحرك كل من حولها، واذ بها تقودني في السيارة الى احد فروع المدرسة.. تتوقف السيارة أمام مبنى متواضع رفعت عليه يافطة كتب عليها باللغة العربية «مدرسة الحاج ابراهيم انياس لتحفيظ القرآن والعلوم الشرعية». تشير الشيخة مريم الى مبنى ضخم على الطرف الاخر من الشارع وتقول: «هذه مدرستنا البسيطة مستأجرة وذلك المبنى الطويل العريض هو المدرسة المسيحية التبشيرية، وفي الجانب الاخر هناك مدرسة تبشيرية اخرى، هم يتلقون أموالا كثيرة من الفاتيكان ويحاولون منذ سنوات اغراء صاحب المبنى الذي نستأجره ليبيعه وبالتالي يضمونه الى مدرستهم التبشيرية وكأنهم بذلك يريدون اولا توسيع نشاطهم وثانيا القضاء على نشاطنا الاسلامي».

جواب الشيخة مريم على سؤالي عن التحديات وصورة المدرسة المحاصرة بمدرستين تبشيريتين كان خير جواب مشفوع بالبرهان الشافي وخال من الخطب والشعارات الطنانة.

* على حصيرة مع اولياء الامور

* شكرت الشيخة مريم وطلبت منها الانصراف، فقد اشفقت عليها خاصة ان الشمس في دكار كانت حارة والرطوبة القادمة من الاطلسي عالية، علاوة على مشقة الصيام لعجوز شارفت على عقدها الثامن، غير أن الشيخة والمربية لم تتعب بعد وكانت قد هيأت لي لقاء اخر في مكان اخر وهذه المرة مع بعض اولياء الامور الذين افترشوا حصيرة متواضعة وتربعت النساء الى جانب الشيخة مريم والرجال الى جهتي وتبادلنا الحديث الذي كشف عن اعتزاز الاهل بانتماء ابنائهم لمدرسة «دار القرآن» التي توفر لابنائهم علوم الدين والدنيا. وكان أغرب ما سمعته من احدى الامهات التي حدثتني بلغة انجليزية راقية واخبرتني انها فرنسية من اصل سنغالي ولديها طفلان وقد اختارت مع زوجها العودة من فرنسا والاقامة في السنغال لتنشئة طفليهما في كنف الشيخة مريم وفي ظل علوم القرآن واللغة العربية. أم اخرى قالت انها تشعر بالاطمئنان على حاضر ومستقبل اولادها وهي تراهم يرتلون ايات القرآن والى جانب ذلك يتلقون العلوم العصرية التي يتلقاها اقرانهم في المدارس الحكومية او الخاصة.

* رسالة واضحة سنوات العمر الحافلة بالكفاح وساعات الصيام الطويلة لم تنل من هذه العجوز التي تصر على اثقال كاهلي برسالة تود ايصالها للعالم العربي والاسلامي مفادها أن «انتصروا للاسلام في افريقيا» لان الاسلام بالعرب قوي وبغير العرب يقوى.