على خطى ابن عربي: رحلة عبر الأندلس

غابة نخيل رخامي تحكي سيرة تحولات المدن والرجال والحضارات

TT

كان الهدف الأساس من ذهابي إلى قرطبة حضور مؤتمر نظمته «وقفية روجيه غارودي لحوار الحضارات» عن صلة فكر محي الدين بن عربي بعالمنا المعاصر. خصوصا وأنه ولد في الأندلس وقضى أول خمسة وثلاثين عاما من حياته فيها. استغرق المؤتمر 3 أيام، وهذه بعض المقاطع من دفتر يومياتي عن الرحلة.

لم يتطلب التجمع أمام الفندق وقتا طويلا. ومن هناك اتجهنا صوب المسجد الكبير. بدا لي كأنني أشاهد المسجد الأموي وما يحيطه باستثناء ورشات الصناعة الحرفية التي تكثر حوله هناك في الشام وتختفي هنا ليحل محلها عدد قليل من محلات الهدايا الصغيرة والمقاهي.

في الباحة الواسعة التي زرعت بأشجار البرتقال والنارنج كانت تنتظرنا ماريا الدليل السياحي. أثارني نحفها الشديد ولعل العينين المتسعتين وسط وجه مثلث صغير والنبرة المرتعشة وراء هذا الإحساس. «أنتم ترون في الباحة الواسعة أشجار البرتقال التي جلبها العرب معهم من سورية. لكن في الأصل كان هذا الفناء مزروعا بأشجار النخل. وهي مخصصة للوضوء. هل ترون هذه النافورة. يقال اليوم إن الفتاة التي تريد الزواج عليها أن تأتي إلى هنا وتغتسل في مائها... بالنسبة لي لم أفعل ذلك حتى الآن لذلك لا أستطيع أن أؤكد صحة ذلك الادعاء». قبل أن ندخل إلى المسجد نفسه استدرك ستيفن مذكرا بأنه المكان الذي وقع تحول ابن عربي صوب «الطريق» متخليا عن شؤون الدنيا. ولم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة بعد. تدريجيا راحت ماريا تقودنا إلى الداخل: وكأن كل خطوة محسوبة بقرون. هاانذا وجها لوجه مع غابة من نخيل رخامي متداخل: إذا سرت بين صفي الأعمدة شاهدت الأقواس على الجانبين منصوبة فوق أعمدة رخامية تراكبت كل اثنين منها فوق بعضهما البعض. وهذا ما أتاح لتثبيت قوسين متتالين من حيث الارتفاع. لكن الأبهة الحقيقية للمشهد هي في السحر الذي تتركه التيجان حيث يلتقي القوس بالعمود. كانت المصابيح الخافتة المنبعثة من طاسات معدنية معلقة من سقف المسجد يمنح الحاضر لمسة عابرة من ذلك الماضي البعيد. يأتينا صوت ماريا مرة أخرى: «هذا المسجد بدأ بناءه عبد الرحمن الأول، وهو أمير أموي تمكن من الهرب من أيدي العباسيين بعد استيلائهم على الحكم. أثناء عبوره مع أخيه الأصغر نهر الفرات، ناداهما قائد الجند مانحا إياهما الأمان. وتحت وطأة برودة الماء القاسية رجع الأخ الغرير. وهناك من موقعه رآهم يذبحونه بعد رفضه العودة. بعد أربع سنوات من التخفي في تونس، انتقل عبد الرحمن إلى المغرب ومن هناك أرسل عبده بدر (الذي أعتقه لاحقا) إلى قرطبة للاتصال بكتيبة كان الأمويون قد بعثوا بها قبل خمسة عشر عاما لهزم تمرد وقع في الأندلس. وما ان تمكن خادمه من كسب تأييدهم لسيده حتى حضر عبد الرحمن إلى المدينة التي استولى عليها ولم يمض وقت طويل قبل أن يسيطر على كل الأندلس ويفرض الإمارة الأموية عليها».

* حديث القناطر والاحجار

* تقتادنا ماريا عبر القناطر نفسها، فتصبح الرؤية مختلفة. هنا يتملك المرء شعور كأن القنطرة العليا هي ظل للقنطرة السفلى، بسبب زيادة عرض الأولى عن الثانية بمسافة قصيرة. كذلك يحرر هذا الفارق في العرض الفضاء أمام الناظر ليترك في نفسه شعورا عميقا بالانفراج على الرغم من كثرة الأعمدة والقناطر. ومع استخدام أحجار ذات لونين أصفر وأحمر مادة للقناطر في هيئة أشرطة مخططة بهذه اللونين ثم تقلب اللون الأصفر إلى أبيض من صف إلى آخر يجد الماشي داخل المبنى أنه يتلمس شبكة متعاقبة من الألحان اللونية بأنماط لا متناهية ومتكررة من دون أن تدخل في نفسه الملل. كأن عينيه تتحركان في فضاء خال من نقطة واحدة تتمحور حولها عناصر المبنى. إنه الانبهار الدافئ الذي يجرك إلى الأنماط المتكررة حيث تخلق أشكال الضوء المنبثة في ذلك الفضاء عوالم متقلبة مفتوحة قابلة للتجدد على الرغم من استخدامها أشكالا فسيفسائية قليلة. كأن المعماري أراد تقليد صورة الكون فأينما تلتفت خلال ليل صاف ستجد المشهد نفسه. هل كانت هذه الآية دليله وراء رفضه لخلق مركز ومحور واحد لمسجد قرطبة: «أينما تولوا فثمة وجه الله».

جاء صوت ماريا مترجرجا مرة أخرى ليوقظني من ذهولي: «كانت هنا كاتدرائية صغيرة مقسومة إلى نصفين بحاجز واحدة للمسلمين والأخرى للمسيحيين. ثم اشترى عبد الرحمن الأول الأرض من أصحابها المسيحيين عام 785، ولم ينته العمل فيها حتى عام 796 على يد ابنه هشام. كذلك تم الالتزام بنفس معمار المسجد الأموي في دمشق. بل حتى المحراب أقيم باتجاه الجنوب مثلما هي الحال هناك لأن مكة تقع إلى جنوب دمشق». أوقفنا ستيفن عند محراب مدهش يسور حافته نص قرآني. «مع هذه الآيات أنهى ابن عربي كتابه الفتوحات المكية...» استرجعت ماريا خيط السرد وهي تدفعنا برفق صوب أصابع التاريخ خطوة خطوة. «من هنا تم بناء الجزء الجديد من المسجد في عهد عبد الرحمن الثاني الذي حكم بين عامي 822 و852... فبإزالة الجدار الجنوبي له وإضافة عدة فسح جديدة اتسع المسجد مع تزايد عدد المصلين فيه. كان هذا المسجد مركزا جامعيا أيضا ففيه درّس الفيلسوف ابن رشد وابن ميمون وغيرهم...». لا بد أنه الحنين كان وراء بناء هذا المسجد بهذا الشكل. ذلك الحنين الذي اجتاح عبد الرحمن الداخل للمسجد الأموي الذي يعرف أن عينيه لن تريانه مرة أخرى. أي مشاعر غمرته وهو يرى ذلك الصرح الشامخ يعود ثانية في حلة أكثر توهجا. نندفع خطوات أخرى مع ماريا. «هنا بدأ التوسيع الثالث للمسجد. وهذا جرى في زمن الحكم الثاني ابن عبد الرحمن الثالث، مؤسس الخلافة الأموية في الأندلس، كان ازدياد عدد المصلين إلى سبعين ألف شخص وراء قراره بتوسيع المسجد حوالي سنة 962. ولم يتغير أي شيء فيه باستثناء تكرار صفوف القناطر بنفس الأسلوب مع تنويعات غنية جدا في الزخرفة العربية كما ترونها هنا. مع ذلك من يرى هذا المتحف المدهش بدون أي معرفة بتاريخه لن يظن أن إنجازه بهذا الشكل قد تم خلال ما يقرب من قرنين».

* دمشق أخرى في الأندلس

* عدنا إلى الفندق على عجل. كان أمامنا وقت قليل جدا قبل التوجه إلى «مكتبة الأندلس الحية» لحضور افتتاح ندوة ستستمر حتى يوم الأحد تحمل عنوانا ذا دلالة: بين الغرب والشرق، الرحلة الروحية: دلالة وتأثير أفكار ابن عربي على عالمنا اليوم. قطعنا الطريق الرابط بين الفندق والمكتبة على الأقدام كانت قرطبة تبعث لي هي الأخرى بدلالتها الصورية. هاأنذا أجد نفسي أمام دمشق أخرى: دمشق مقدسة لدى أبنائها، شبيهة بتلك التي وصفها ابن جبير في رحلاته، لا تلك التي ابتلعتها المباني الحديثة الخالية من أي روح. وإذا تحول الجزء الأكبر المتبقي من دمشق القديمة إلى ورشات عمل موشكة على الانهيار نجد قرطبة ترتع ببهاء أسطوري: اللون الأبيض الناصع يكللها والطرق مرصوفة بشكل قريب إلى ما كانت عليه أيام الدولة الأموية: الحصى والجبس بعيدا عن الإسفلت الحديث. ومع نظام حديث لتصريف المياه أصبح العيش مثاليا للشباب أيضا في محلات منسوخة عن حي القصاع الدمشقي.

في ثنايا خطوط المدينة التي تختفي رائحة الماضي وسطها يتلمس المرء هذه الحقيقة البسيطة: ولدت قرطبة من لب حنين الدمشقيين الأوائل الذين جلبوا معهم معمار البيت والمحلة الدمشقية، جنبا إلى جنب مع الياسمين والنافورة وأشجار النخل والبرتقال. وحينما وصل الاسبان إلى أمريكا اللاتينية بنوا نسخا أخرى من دمشق تحت وطأة حنين لمدن عربية أصبحت جزءا من كيانهم. يقول اراغون في قصيدة «العالم مسكون بالأغنية»، ولعلي كنت أدندن بلحنها حينما تبدلت الكلمة الأخيرة في أذني لتصبح: «العالم مسكون بدمشق». أو «بالحنين». كان الترحيب حارا لنا في المكتبة التي تضم أيضا مركز «وقفية روجيه غارودي». كانت القاعة المخصصة للمؤتمر غاصة بالجمهور الإسباني. قدم بابلو بنيتو أستاذ الفيلولوجيا العربية في جامعة اشبيلية مع الباحثة البريطانية سيسليا توينش كلمة افتتاحية مشتركة تحمل عنوان «لون الماء»، وهي إشارة إلى عبارة شهيرة للجنيد «لون الماء يحمل لون حامله». كل البصمات التي تركها المصممون على هذا المبنى مستلهمة من المعمار الشرقي: كان فناء المكتبة مزدهرا بنباتات وأزهار متنوعة موضوعة في أصص بأحجام مختلفة، وفي كل الزوايا تبرز الأقواس والزخرفة العربية لتزرع شعورا عميقا في نفسك بأنك لم تبرح بعد الشرق.

* مدن تتداعى وتقلّد نفسها

* عدت إلى الفندق قبل منتصف الليل بقليل. كان زميل حجرتي نيكولاس مستلقيا على سريره، وعلى السرير الثالث جلس شاب لم أره من قبل. تركت ملامحه في نفسي انطباعا بأنه من أقاصي أفغانستان أو ربما من البوسنة. بادر حينما رآني بتعريف نفسه بعربية مثيرة للدهشة: «أنا خضر». سألته بفضول: «من أين جئت؟».. «من فاس... لقد عبرت مضيق جبل طارق قبل أربع ساعات فقط».

أمعنت النظر قليلا في لحيته الكثة المشذبة وشعره الحليق. ولا بد أن غياب الشاربين عن وجهه ترك وداعة خاصة فوقه تجعل المرء يشعر بأنه على معرفة قديمة به. قال نيكولاس: «خضر من ولاية فرجينيا». سألته وأنا أتابع عينيه الحالمتين، متخيلا إياه بالبرنس المغربي وهو يتجول في ليالي شتاء فاس البارد: «لا بد أنك تعيش منذ فترة طويلة في المغرب». «لم يمض علي سوى أسبوع واحد هناك... أنا جئت لحضور مؤتمر ابن عربي».

«لا بد أنك تشعر بالتعب وتريد النوم... أنا سأخرج قليلا».

«أنا أيضا أحب الخروج. لم آكل أي شيء منذ الظهر».

قال نيكولاس: «اعذراني إن كنت لا أستطيع الخروج معكما. إنه الرشح اللعين».

كان دخول خضر المفاجئ في الرحلة عنصرا تغريبيا آخر لها. ها نحن نسير كصديقين قديمين في مدينة تقلد مدينة شرقية أخرى: دمشق. ولعل الأخيرة تقليد لمدينة أخرى أقدم منها: حلب. أو لعل الأخيرة تقليد لمدينة نينوى الآشورية. نينوى تقليد لبابل. بابل تقليد لأور وهلم جرا. وأخيرا بغداد تقليد لكل هذه المدن. الفارق الوحيد أن مدننا جرفت تدريجيا تحت وطأة الرغبة بالانسلاخ عن جلودنا. في زيارتي الأخيرة لبغداد بعد غياب عنها لأكثر من ربع قرن صدمتني تلك البيوت الموزعة على مضارب بدوية محض. كان معمار كل منها مختلفا عن الآخر: هل يمكن تصديق وجود عمارة رومانية في بغداد؟ الصخر المتجهم محل القرميد الأصفر الرقيق؟ هناك تجد العمارات الزجاجية التي تغلي تحت درجة تتجاوز أحيانا الخمسين في شهري تموز وآب. بدلا من أحياء الكرخ الشهيرة التي كانت مسرح طفولتي والتي مسحت عن الوجود إلى الأبد: سوق حمادة والسوق الجديد والجعيفر، نشأت عمارات سكنية صماء منحت اسم «شارع حيفا». حتى حلب المبنية قبل أكثر من أربعة آلاف عام أراد أثرياؤها التجار أن يزيلوها في أوائل القرن الماضي لولا تدخل المعماري الفرنسي دانجييه الذي استقدمته بلاده بعد احتلال سورية. قال ذلك المعماري عام 1931 معترضا على طلبات بعض سكانها بتدمير أجزاء من البناءات القديمة: «حلب القديمة مدينة جميلة للغاية، لذا يجب الحفاظ على سيمائها بحرص شديد». لعل صخور المدينة كانت عائقا أمام التجار لإزالتها مثلما هو الحال مع أكثر أجزاء دمشق القديمة. «هل ذهبت إلى فاس لغرض الدراسة»؟ سألت خضر.

«يمكنك أن تقول ذلك... أنا أريد أن أترجم كتابا لابن عربي».

«أي كتاب»؟

«مواقع النجوم».

«ولماذا في فاس»؟

«قال ابن عربي إن فهم هذا الكتاب يحتاج إلى شيخ».

«هل وجدت واحدا ضليعا بفكر ابن عربي»؟

«ليس مهما معرفته بالفكر بل أن يكون قد تتلمذ على شيخ آخر يتسلسل أساتذته جيلا بعد جيل منتهين بمريد معاصر لابن عربي».

«هل من الضروري أن يكون تلميذا مباشرا لابن عربي»؟

«إذا كان ذلك ممكنا فشيء عظيم، وإلا يكفي أن يكون صديقا لأحد مريديه». في مطعم صغير، جلسنا عند طاولة مصفوفة خارج زقاق ضيق. كانت الساعة قريبة من الواحدة صباحا. مع ذلك جلس عدد من الرجال والنساء داخل المطعم وخارجه مستغرقين في الحديث والشراب. من قائمة الطعام كان علينا أن نختار بعض الأطباق الصغيرة «تاباز» بدون معرفة طبيعتها. فكل شيء مكتوب بالاسبانية. كان النادل حريصا على شرح كل الأطعمة بالاسبانية حتى حينما كنا عاجزين عن التواصل. طلبت بعض الوجبات التي تبدو كأنها بطاطس مقلية وسلطة طبيعية ليتضح بعد فوات الأوان أنها شيء آخر مختلف تماما عن توقعاتنا.

بدا خضر غائبا عن التفاصيل المحيطة به. كان جالسا أمامي يداعب من وقت لآخر لحيته، كان ممكنا لي أن أتلمس تمتعه بلحظات لقائنا، وفرصة التحدث بعربية طليقة مثيرة للدهشة. قفزت إلى ذهني هذه المفارقة: أستطيع أن أرى نفسي في محل خضر (الاسم الذي منحه إياه شيخه في فاس بدلا من ماتْ): شاب عراقي حالم في الخامسة والعشرين غارق بفكرة تغيير العالم عبر الثورة الاشتراكية. ولغرض التمكن من التأثير فكريا على تحقق الهدف، استغرق ماتْ (الذي أنا) في قراءة مئات الكتب الغربية في الفلسفة والسياسة والاقتصاد. انطلاقا من جملة ماركس الشهيرة: انشغل الفلاسفة في الماضي بتفسير العالم، المطلوب الآن تغييره. بدلا من ذلك أجدني بعد خمس وعشرين جالسا أمام نفسي (ماتْ أو خضر الأميركي) مستغرقا بمشاريع حالمة من نوع آخر.

بعد حصوله على شهادة الليسانس في الفلسفة من جامعة فرجينيا، أراد أن يكمل في حقل الدراسات المقارنة. كانت فكرة تعلم العربية جارفة عنده، ولم يكن عسيرا عليه إقناع الجامعة لإرساله إلى عمّان على نفقتها لتحقيق هذا الهدف. كان كل شيء يسير مثلما هو مخطط له، حتى مجيء ذلك اليوم الذي ذهب خلاله إلى مكتبة صغيرة لبيع الكتب القديمة. كان صاحبها عراقيا اضطر إلى نقل تجارته من بغداد إلى عمان في أيام الحصار. كانت أجزاء الفتوحات المكية الأربعة متراصفة جنبا إلى جنب مشبعة بأتربة ولعل صاحب المكتبة راودته فكرة بيعها بأرخص ثمن ممكن أو التخلص منها لغياب اهتمام القراء بالثقافة العربية الكلاسيكية. قال خضر «كان لون الورق الأصفر ورائحته الغريبة وراء قرار شرائي لهذا الكتاب». لكن هذا الكتاب بدّل مسار حياته تماما.

عند عودته للولايات المتحدة واصل مات دراسة ابن عربي في جامعته وتواصل مع مستشرقين كبار معنيين بابن عربي شرحا وترجمة مثل الأميركيين مايكل سيلز ووليام تشيديك والفرنسية كلود عدس والاسباني بابلو بنيتو. وهاهو الآن بدأ مشروعا كبيرا بترجمة «مواقع النجوم». ومن مدينته الجديدة فاس راح خضر يواصل الاتصال بأولئك الخبراء بفكر ابن عربي المعقد عبر الانترنت طالبا مساعدتهم في وقت هو يواصل عيشه في عالم غريب عن مدينته وبلده، كاسبا وجهه كل يوم ملامح قريبة لمتصوفة الأندلس.

* طليطلة تنقل ثقافة العرب

* حينما استيقظت صباحا كان نيكولاس وخضر قد خرجا من الغرفة. إذ لا بد أنهما حريصان على الوصول إلى قاعة المؤتمر قبل بدئه. أفتح كتابا موضوعا على الكومودينو استعرته من ريتشارد: الحضارة العربية في أسبانيا لبكهاردت. أقرأ هذا المقطع الذي ذكّرني بخضر: «أصبحت طليطلة نقطة نقل الثقافة العربية الإسلامية إلى أوروبا. فدومينغو غونرالفو قام بترجمة كتب الفارابي وابن سينا والغزالي إلى لغة الرومانس (السابقة على الأسبانية) كي تترجم لاحقا إلى اللاتينية، وهذا ما فتح الطريق لتبني أوروبا للفكر العربي. كان غونرالفو ناشطا بين عامي 1130 و1170، وفي تلك الفترة نفسها كان الأكاديميون يأتون من إمبراطورية روما إلى طليطلة وحدانا وزرافات للمشاركة في استرجاع الكنوز المعرفية التي لا مثيل لها من قبل حيث قام جبرا دوس الكرموني بترجمة كتاب بطليموس عن العربية والذي يحمل عنوان «المجسطي» في علم الفلك إلى اللاتينية ثم قام روبرت التشيستري بترجمة كتاب الجبر للخوارزمي مع النظامين العدديين الهندي والعربي إلى اللاتينية وهذا ما أدى الى وصوله إلى أوروبا... وجاء التأثير الأكبر حينما ترجم مايكل سكوتس الاسكتلندي مع هيرمانوس المانوس الألماني كتاب ابن رشد الشهير «تعليقات على أرسطو». كان تأثير هذه الترجمات غير قابل للعد، فهي أطلقت حركة في أوروبا آلت إلى انتصار فكر أرسطو على فكر أفلاطون. فمنذ عام 1251 شرع بتدريس أرسطو بشكل علني في جامعة باريس. وكأنما أعطى ابن رشد وبدون أن يقصد الزخم الضروري للتطور الذي آل في نهاية المطاف صوب العقلانية بعيدا عن العالم الروحي للعرب. فمايكل سكوتس الذي امتدحه روجر بيكون باعتباره القوة الأولى وراء جعل أرسطو مقبولا ولأنه ترجم نظرية أبو اسحاق البيتروجي في الفلك والذي حاول بعد ابن رشد وابن طفيل أن يبدل نظام بطليموس الفلكي بآخر لا يتعارض مع فلسفة الطبيعة الأرسطية». قفزت من فراشي حينما رأيت عقربي الساعة يشيران إلى التاسعة والنصف. لم يبق هناك سوى نصف ساعة لموعد الفطور.

عند وصولي إلى «مكتبة الأندلس الوطنية» كان المحاضر الثاني على وشك الانتهاء. كانت القاعة الضيقة غاصة بالحاضرين. وفي الركن المجاور للباب نصبت كاميرا تلفزيونية. من برنامج المؤتمر عرفت اسم المحاضر: محمود كيليش من جامعة مرمرة باسطنبول. كان عنوان محاضرته: «أهمية إحياء فهم ابن عربي للإسلام في العالم المعاصر». سجلت بخط متعثر ما أمكنني في دفتر يومياتي من المحاضرة. وفي المناقشة التي دارت حولها قبل انتهاء جلسة الصباح، توقف الدكتور كيليش طويلا عند سؤال أحد الحاضرين الخاص حول مقارنته بين الأصوليين المتطرفين والخوارج. «مثلما هي الحال مع الخوارج الذين كفّروا كل من اختلف معهم فهم بالغوا في تنفيذ الشعائر الدينية والشريعة. إحراجا لغيرهم. لكن الشريعة تشكل 600 آية من 6000 آية يتكون منها القرآن. القرآن يحتوي الشريعة لكنها تحتل جزءا صغيرا منه. أما البقية فيحتوي الحكمة والعلم ومعارف أخرى وكلها جزء من الإسلام... لقد نسي هؤلاء حديث الرسول: اختلاف أمتي رحمة. أما ابن عربي فهو يقر بالاختلاف على أساس أنه ناجم عن اختلاف في الحالات الروحية حينما يقول: اختلاف الأقوال في اختلاف الأحوال».

* المستحيل والممكن في بيت سلمى الفاخوري

* في الطريق إلى الفندق توقف ستيفن عند باب بيت مفتوح. كان وراءه مكتب صغير تجلس خلفه فتاة وأمامها صفت خرائط قديمة للأندلس وبطاقات بريدية ولوحات بأحجام مختلفة. «هل تحبون زيارة زوجة غارودي»؟. بقيت لدينا ساعتان للاستراحة قبل العودة إلى جلسة المؤتمر، لكننا وافقنا بحماس. كان المجاز الذي يقود إلى الحوش شبيها بالبيت الدمشقي. إنه العتبة التي يتجاوزها المرء ليدخل إلى المركز الذي تمثله نافورة، وحولها الأزهار والنباتات المتسلقة. ينفتح الحوش المستطيل الشكل على السماء لكن بالمقابل تسود العتمة تلك الطارمة المفتوحة عليه بفضل السقف الذي هو في نفس الوقت أرضية للطابق الثاني. وهناك كان بابا حجرة كبيرة مفتوحين على مصراعيهما. نهض عدد من الضيوف لاستقبالنا ومن بينهم تقدمت امرأة بطلعة حيية ترتدي قفطانا أبيض وتضع عصابة بيضاء ملفوفة بطريقة أنيقة. احتضنت ستيفن كأنه ابن غاب عنها فترة طويلة. رحبت بنا بحرارة. وحينما جاء دور سميرة لمصافحتها اكتفت الأخيرة بمد ذراع مرتخية صوبها. قالت زوجة غارودي: «ألن تقبليني»؟، بعد لحظة ارتباك اندفعت سميرة لتتبادل معها تقبيل الوجنتين.

استرجعت ذاكرتي تلك النتف من الأخبار التي رددها بعض الأصدقاء قبل أكثر من عقدين، عن تلك المرأة الفلسطينية التي اقترنت بغارودي بعد إعلان إسلامه. «أنا سلمى الفاخوري». كدت أسألها عن زوجها المريض والمقيم في فرنسا. فهو من المفكرين الذين شاركوا في إيقاظي (منذ سن مبكرة) من الماركسية الرسمية، عبر كتابات اعتبرت آنذاك شديدة التحريف: ماركسية القرن العشرين التي حاول غارودي فيها أن يغير مفهوم فائض القيمة التقليدي بعد عصر التكنولوجيا الحديث. أو كتاب منعطف الاشتراكية الكبير الذي انتقد احتلال الاتحاد السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا عام 68 والذي بفضله طرد من المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي. لكن الكتب التي صدرت بعد ذلك التاريخ هي الأجمل: واقعية بلا ضفاف، الذي تناول فيه بيكاسو وكافكا وهولدرين ليشملهم ضمن واقعية أوسع بكثير من تلك التي حددها جورج لوكاش، ثم هناك كتابه المشبع بروح الشعر: حوار الحضارات.

عند هبوطنا ثانية إلى الحوش لمغادرة بيتها. توقفت بجانب النافورة مسحورا بخرير مائها المنتظم الناعم، أمامي انتشرت نباتات استوائية شديدة الخضرة موضوعة في أوعية خزفية كبيرة وورائي تسلق اللبلاب ونباتات الياسمين ظهر الجدار الأبيض الملتقي بزرقة السماء البلورية. كان الضوء والعتمة موزعين بطريقة مثيرة للاستغراب: تشبع الجدار بضوء الشمس فتوهجت أزهار الياسمين مع وريقاتها الخضراء، بينما تلبس الظل موقع النافورة ونباتاتها وورودها، وهناك في الرواق المسقوف (الطارمة) سكنت عتمة جليلة تدفع للتأمل. هنا في هذه البقعة النائية عن الشرق والغرب، في مدينة قرطبة القديمة، أقامت سلمى الفاخوري مملكتها: فردوسها المفقود، بجانب زقاق ضيق يتلوى بتأن صوب مشارف ماض حاضر في ثناياها بقوة. هل تطوف أرواح ابن حزم وولاّدة وابن زيدون ليلا بالقرب من بيتها ولعلهم يلتقون بجانب نافورتها مسترجعين بعضا من لحظات قرطبة السعيدة.

الانسلاخ عن الجلد غير محدد بأولئك التجار بل هو ينطبق عليّ أيضا. صباح الخير أيتها الجرافات التي هدمت صدفتي وجعلتني خارج «وحدة الوجود»: أين تلك الأحياء المتشابهة بزخارفها وقناطرها وشناشيلها؟ تلك الشوارع والأسواق المسقفة الممتدة بلا حدود منكبة على لعبة دائمة بين الظل والضوء؟ هنا في قرطبة يتم التعويض عن تلك المدن التي انحسرت عن الوجود في الشرق: بغداد، البصرة، أجزاء كبيرة من دمشق وغيرها. فبفضل الحنين لعصر عربي ـ إسلامي غابر، ها هي بغداد ودمشق تنهض من الأندلس مرة أخرى. ومثلما تمكن العرب الأوائل أن يغترفوا من كل ثقافات وعلوم وفنون عصرهم بانفتاح وفضول لامتناهيين، ليمنحوا أوروبا القدرة على المضي صوب عصر النهضة: مبدأ الشك الديكارتي ومغامرة العقل المفتوحة، ها نحن نبدأ بجني ثمارها: استرجاع مدننا بعد اندثارها على طرف المتوسط الآخر: الأندلس. هنا أصبحت كل قطعة من ذلك الماضي العتيد ثروة قومية: قرطبة ورشة عمل بانتظار عودة عبد الرحمن الداخل لزيارتها ثانية.

وهنا في بيت سلمى الفاخوري يلتقي الماضي بالحاضر; الوهم بالحقيقة; المستحيل بالممكن. وقبل أن نودعها كنت أستطيع رؤيتها ملكة متوجة لعالم أثيري مسكون بوشوشة النافورة وعبير الياسمين وخضرة شجيرات أفريقيا الغامقة.