القطيف.. ساحل الذهب الأسود

مدينة اختارت أن يحفها النخيل.. لتعيش تحولاتها الاجتماعية في الظل

TT

في ذات اليوم الذي كانت فيه بعض الصحف تنشر خبر الحكم على السيد محمد رمضان بتسعين جلدة واغلاق مطعمه «رنوش» الذي قام فيه بتشغيل فتاتين بالمطعم، معتمداً على قرار مجلس الوزراء الذي اتاح للمرأة العمل في ما يناسب طبيعتها. في ذات اليوم كانت صحف محلية أخرى تنشر على صدر صفحتها الاولى صورة لتسع فتيات من مدينة القطيف يتدربن في أحد المعاهد لبدء خوض تجربة العمل في أماكن البيع الخاصة بالنساء. كل تلك الأحداث جاءت ولا زالت النخب الثقافية في هذه المدينة المسترخية على ساحل الخليج العربي مبتهجة بحصول أديبها «أبو قطيف» عبد الله الجشي على جائزة «شخصية العام» في مهرجان الجنادرية الأخير الذي رعاه خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، وقام بتكريمه بنفسه.

عند الدخول لهذه المدينة أول ما يلفت النظر غياب مظاهر الحداثة العمرانية والحياتية مثل الأسواق الضخمة أو محال بيع الوجبات السريعة، والتي يتذكر قاطنو المدينة أنها تعرضت لهجمات شرسة إبان حملة المقاطعة للمنتجات الأميركية قبل أربع سنوات، وصلت إلى حد الشغب وتكسير واجهتها التجارية.

يقول كاظم الشبيب، رجل الأعمال والكاتب، «بالفعل المدينة تغيب عنها المظاهر الحداثية الخاصة بالمعيشة، ولعل الأسباب تعود لكون البنى التحتية للمدينة بدأ الالتفات اليها منذ حوالي عشر سنوات فقط، فضلاً عن ان رجال الأعمال أظهروا عزوفاً نوعاً ما في افتتاح المشاريع التجارية والعمرانية الضخمة». بينما كان «أبو عامر» سائق التاكسي يقلني الى أحد المواعيد مع الفعاليات الثقافية في المنطقة، كانت احدى الاذاعات العربية في الراديو تحلل تصريح الرئيس المصري حسني مبارك قبل حوالي شهر، والذي أشار فيه الى ولاء الشيعة في المنطقة العربية لإيران. بعد امتعاض «ابو عامر» من التصريح، قال «هذه تهمة تقليدية توجه دائماً لنا. مع أن هناك شواهد كثيرة تؤكد عكس ذلك. وإن كنت لا أنكر أن هناك فئات تعيش هذا التناقض بين ولاءاتها ومواطنتها. شخصياً أفتخر بمواطنتي السعودية وأملك أصدقاء من مختلف جهات السعودية، والدولة قامت بإرسال ابني وابن أخي قبل شهرين لإكمال دراستهما في أميركا بعد فتحها باب الابتعاث». وبعدما غادرت سيارة ابو عامر، وانطلق مبتعدا تنبهت الى أنه كان يضع صورة بحجم الزجاج الخلفي للملك عبد الله، وقد كتب تحتها صقر العروبة.

وكان الملك عبد الله قد استقبل وفودا شيعية في أكثر من مناسبة، وغالبية الحوارات الوطنية التي جرت في مدن سعودية متفرقة حفلت بمشاركة رموز شيعية رفيعة المستوى. يقول الكاتب والمفكر محمد محفوظ «الانتماء المذهبي لا يمنع من التواصل الوطني، بل العكس، هذا التمايز المذهبي قد يكون عامل اثراء للتنوع الوطني». ويضيف «مركز الملك عبد الله للحوار الوطني أظهر قدرة كبيرة على الحوار الايجابي، وأن التنوع الحقيقي للمجتمع بأطيافه المختلفة. ولكن هذا الحوار تراجع في نقاشاته الاخيرة وأضحى يغلب عليه طابع اللقاءات الروتيني». يقول جعفر الشايب، وهو صاحب منتدى ثقافي وعضو المجلس البلدي المنتخب في المنطقة، «هناك مؤشرات حقيقية في القطيف وضواحيها تشير الى الرغبة في الاندماج في الحياة المدنية، وليس أدل على ذلك أكثر من أن منطقة القطيف بلغ حجم مشاركتها في الانتخابات البلدية ما نسبته 45 في المائة ممن يحق لهم التصويت، وهي النسبة الأعلى في السعودية من حيث حجم مشاركة المناطق». جدير بالذكر أن حتى هذه الانتخابات عرفت أيضا القوائم المزكاة من قبل رجال الدين على غرار باقي مناطق المملكة السعودية. وكان من أهم من اصدروا هذه القوائم المزكاة في المناطق الشيعية الشيخ حسن الصفار.

بعيداً عن الجوانب السياسية وعودة إلى التحول الاجتماعي الذي تعيشه المدينة في بعض جوانبه. يظل السؤال حول حادثة مطعم «رنوش» في سيهات التي تبعد عن القطيف مسافة خمس دقائق، هل كانت حادثة عابرة أم أحد مظاهر تفتحٍ اجتماعيٍّ؟

تقول شادية البيات، احدى مرشحات الانتخابات البلدية التي لم تقر فيها مشاركة المرأة، «قبل الخوض في رمزية حادثة المطعم، من المهم الاشارة الى أن هناك فتيات كثيرات ينتظرن اتاحة الفرصة وفتح مجال أوسع أمام عملهن في مختلف الاماكن».

وتضيف «الدافع الحقيقي وراء هذه المبادرات هو دخل الفرد المنخفض، مما يجعل المرأة أكثر جرأة في اقتحام الأعمال الجديدة. حادثة مطعم «رنوش» انعكاس حقيقي لهذه الرغبة والحاجة».

وعلى نفس النسق يقول محفوظ «غالبية مجتمع القطيف تنتمي للطبقة الوسطى، وهذا الانتماء جعل قوته في الأيدي العاملة. من هنا يمكن النظر للقضية بزاوية مختلفة، فغالبية الايدي العاملة في هذه العوائل محدودة الدخل هن من الفتيات. ومن هنا تظهر أن الحاجة هي الدافع الحقيقي وراء هذه المبادرات. فضلاً عن التعليم الذي أنار عقل المرأة وأحدث تحولات كبيرة في طريقة تعاطيها مع محيطها. ولكن هذه التحولات لا زالت مبهمة وغير واضحة تماماً. وفي ظني لو وجدت تشريعات سياسية تحمي الفتيات سيظهر الكثير مما يثير الدهشة في المجتمع».

وفي ذات السياق تذكر لينا الخنيزي، وهي في عقدها الثالث اليوم، أن هناك حادثة سابقة أوائل الثمانينات حينما قامت سيدة وزوجها بافتتاح معرض لبيع الملابس. وكانت الزوجة هي المسؤولة عن البيع والشراء في المحل، ولم يكن هناك أي رفض اجتماعي للممارسة. ولكن هذه التجربة عادت وانتكست بعد تصدير ايران لثورتها ذات الأفكار المحافظة. وأغلق المحل واندثرت التجربة».

وتضيف لينا الخنيزي «كانت القطيف تعيش مفهوما حقيقيا للتسامح المدني، خصوصاً فيما يخص المرأة ولكنه تراجع اليوم من الناحية الاجتماعية».

محمد باقر النمر، رئيس تحرير مجلة «الواحة» المعنية بالتراث يلفت الانتباه الى ان القطيف كانت من اوائل المناطق السعودية التي سمحت بتعليم الفتيات وعملهن في أرامكو، الشركة البترولية الشهيرة، والتي تتخذ من المنطقة الشرقية مقراً لها.

وأما تأثير أرامكو على حياة المجتمع القطيفي، فيبدو أنها قصة لا بد من روايتها. فالمهتمون بشؤون المنطقة يؤكدون أنها أثرت بنحو لافت في بعدين رئيسيين تلخصا في الجانب السياسي والثقافي.

يقول النمر «ارامكو اثرت سياسياً باحتضانها عمالا عربا كانوا من اصحاب الرؤى الثورية، واسهموا كثيراً في نشر الثقافة السياسية، خصوصاً ما يتعلق منها بالقومية العربية. أما بعدها الثقافي، فيكفي أننا لم نعرف السينما إلا من خلالها، ومجلة «القافلة» كانت تقوم بدور تنويري حقيقي، اضافة الى تلفزيون ارامكو الخاص، والذي أيضاً ساهم بشكل كبير في توعية المجتمع الشرقاوي، اضافة الى اسهامها المدني في انشاء المدارس بالمنطقة ودعم نشر التعليم.. وربما من المحزن أن هذا الدور التنويري تراجع كثيراً اليوم عما سبقه». القطيف رغم صغر حجمها إلا انها مدينة معقدة بامتياز. تتداخل في التيارات الثقافية والفكرية ولكن بلا عداءات ظاهرة. صراع تعيشه النخب الدينية ضد النخب الليبرالية لكن بلا صخب وضجة ونوايا مسبقة.

يصفها الشبيب بأنها «صراعات لا تبرز على السطح». ويضيف «شكل الصراع لا يتخذ الحدية ذاتها بين رجال الدين والمثقفين الليبراليين في المدن السعودية الاخرى. وهو صراع لا يستطيع أن يقرأه من هو خارج البيئة. وبصراحة غدا الليبراليون الشيعة أقل جرأة في طرح آرائهم التي لا تحظى بنفس القبول اجتماعيا، عندما تطرح من قبل رجال الدين. وأنا أراه شكلا من أشكال التعقل السياسي للحفاظ على وجودهم على الأقل في المظاهر الثقافية». فيما ترى نجاة الشافعي، الناشطة اجتماعياً، أن «المدينة عاشت حالة مد وجزر فيما يخص الانفتاح على الآخر سواء الخارجي أو الداخلي. ولكنه اليوم بدأ في العودة للانفتاح، مع تقبل وجهات النظر. اضافة الى الحضور الجيد للمرأة في المنتديات الثقافية التي تقام بمدينة القطيف ومشاركتها بشكل فاعل في هذه الحوارات».

القطيف او ساحل الذهب الأسود، كما يروق لمؤرخيها تسميتها، تعيش واقعاً ربما يتشابه في شكله العام مع واقع مدن سعودية أخرى، ولكن الأكيد أنها تختلف في التفاصيل، وهي التفاصيل التي لا يراها كثيرون من الخارج إما لكثرة مزارع النخيل التي تحيطها أو لحواجز أخرى.