أمين الجميل يهوى الطيران ويتمنى لو اختار حياة الفن والكتابة

رئيس الجمهورية اللبناني السابق أمين الجميل: الحب عجل بزواجي من رفيقة العمر جويس وموت خالي عجل بدخولي السياسة * علاقتي بالسيارات عادية جدا.. فأنا لا أهتم بالمظاهر * حين أشعر أن هناك ما يستفزني أنغلق على نفسي * لدي وقت لأحفادي أكثر مما لدي لأولادي

TT

يحرص رئيس الجمهورية اللبناني السابق امين الجميل على اداء متحفظ مترفع، ويذكر محاوره بأن لكل مقام مقال وهو يعبر بين المواضيع الساخنة التي ميزت مرحلة وجوده على رأس هرم السلطة في لبنان. أنيق بعفوية، مستفز بتلقائية، لكنه لا يقع في ردة الفعل، وانما يتلفق الكلام ليعيده الى مرمى السائل او يصوبه حيث يشاء، متجنباً بلياقة الرؤساء الانزلاق الى هاوية الكلام المتفجر عن الحرب التي عاشها وكان احد الفاعلين فيها شعبياً ورئاسياً.. سناء الجاك تكشف في هذا الحوار عن جانب آخر في حياته.

لا يسهل اختصار المحطات اللافتة في مسيرة امين الجميل ضمن صفحة من جريدة، فالرجل ذاق طعم السلطة باكراً وعرف الحب والزواج باكراً وكان من اصغر رؤساء الجمهورية في العالم. كذلك واجه الموت مرات ومرات.

ولم يتخل عن عناده في الدفاع عن مبادئه وقيمه. لكن ما يغزي الرئيس الذي غادر قصر الرئاسة الى منفى قسري استمر اكثر من عشرة أعوام هو ان التاريخ ايضاً انصفه باكراً، وان تجربته في الوطن والغربة كانت جد مفيدة وغنية، لكنه يشير الى انه وقع في شرك السياسة من غير ان يرغب، فقد كان يتمنى لو اتيحت له الفرصة ليختار مسيرة حياة يغلب عليها الفكر والفن والكتابة. لكن السياسة هي قدر آل الجميل، سبقه اليها والده الشيخ بيار وخاله الشيخ موريس، وبعده ابنه بيار الذي دخل باكراً الى الندوة البرلمانية.

* يروي رفاقك في مدرسة الجمهور انك صعدت يوماً فوق باص والقيت خطاباً بهم. اين هو الرئيس امين الجميل بعد رحلة مميزة في الحياة السياسية من اليافع الذي تسلق الباص؟

ـ لم يتغير امين الجميل، لا يزال كما كان. الا ان منصب الرئاسة والبروتوكول المألوف كانا يفرضان عليَّ منهجاً آخر يتصف بالتحفظ. فتفاجأ البعض عندما شاهدني اخيراً اشارك في بعض المناسبات الجماهيرية واتوجه الى الناس بحماس واندفاع. واليوم لم ازل اتجاوب مع القواعد الشعبية واحاول ان اعبر عن تطلعاتها وهواجسها.

* كأنك ما زلت تحمل نبض هذه القاعدة الشعبية؟

ـ بالفعل فقد استرجعت بعد عودتي في اغسطس (آب) الماضي ايام الستينات والسعبينات حيث كان موقعي الاساسي من جهة الشعب وليس من جهة الحكم والسلطة.

* خلال توليك رئاسة الجمهورية اللبنانية ألم تكن في موقعك الاساسي مع الشعب؟

ـ المؤسف ان الرئاسة تفرض بعض القيود ويضطر الرئيس ان يتحصن ببروتوكول المركز. مما يوّلد بعض المسافة بينه وبين الشعب. حتى ان البعض اعتبر ان شخصيتي تغيرت او اني صاحب شخصيتين. انا لم اتغير لكن الظروف ونوعية المسؤولية هي التي اجبرتني على التأقلم وفق متطلبات المركز والمرحلة. حين تكون في حزب سياحي سياسي جماهيري، تتفاعل مع قواعد الحزب، اما بعد الانتقال الى موقع رئاسة الجمهورية. لا يعود الانسان ملك قاعدته الشعبية التقليدية. فعليه ان ينظر بمنظار وطني اكثر شمولي. فهو رئيس كل لبنان وعليه ان يتعاطى مع كل الاحزاب والفئات والطوائف. وان يتوجه بخطاب جامع يأخذ بالاعتبار كل الحساسيات الوطنية. بينما النشاط الحزبي يفرض خطاباً حماسياً وتعبوياً.

* انتهت مرحلة الرئاسة وانتهت متطلباتها، هل انتهت قيودها البروتوكولية بالنسبة اليك؟

ـ بالطبع، وقد فوجئ من شاهدني اتفاعل بحماس مع القاعدة الشعبية. فانا انقطعت عنها فترة طويلة، اي منذ عام 1982. نسي الناس امين الجميل الشعبي. حين عدت من المنفى فوجئت بالجماهير الغفيرة، وبعشرات الالوف، تتوافد الى بلدتي بكفيا (في جبل لبنان)، وكأنها تناشدني من جديد وتدفعني الى لعب الدور الشعبي الذي كان دوري قبل الرئاسة. وكأن الزمن عاد بي الى الوراء الى مرحلة ما قبل 82 مما حرك لدي مشاعر وذكريات وربما مواهب كنت نسيتها.

* الملاحظ انك تطوي المراحل ثم تعود اليها. ما علاقتك بالعمر؟

ـ بالنسبة للعمر، كانت لي فرصة لم تتح للكثير من الناس. انتخبت رئيساً في سن الاربعين وانتهت ولايتي وانا في السادسة والاربعين، حيث يبدأ الانسان اجمالاً عمله السياسي، اقله على الصعيد الرسمي. اني اشعر ان امامي مرحلة جديدة ومسؤوليات متجددة. كما اشعر ان بامكاني توظيف طاقاتي وتجربتي في الشأن الوطني وفق تطلعاتي الوطنية.

يترك الأمور إلى اللحظة الأخيرة

* المعروف ان امين الجميل يترك الامور الى اللحظة الاخيرة ويجيد الاحتفاظ بأوراقه ومفاجأة الآخرين؟

ـ معك حق، والسبب ان السياسة اللبنانية معقدة، ومرتبطة بمجموعة عوامل، منها داخلية وأخرى خارجية، يصعب التعامل معها بالسهولة والوسائل التقليدية. على الصعيد الداخلي، يتكون المجتمع اللبناني من 18 طائفة، لكل منها تقاليدها وقوانينها المتعلقة بالأحوال الشخصية. هناك العشرات من الاحزاب والتجمعات السياسية. وهذا فريد من نوعه في العالم. ان لبنان موزاييك (فسيفساء) نادرة يصعب التحكم بها. التعاطي معها يفترض أسلوباً مركّباً ومعقّداً لا يعرفه الا اهل البيت. وأي أسلوب آخر متسرّع يؤدي الى تعقيد الامور ولربما الى حروب.

* لكن الملاحظة التي وجهت اليكم تتعلّق برؤيتكم السياسية اكثر مما ترتبط بمواقع البلد؟

ـ هذا غير صحيح. منذ انتخابي نائباً في البرلمان اللبناني سنة 1970 بقيت مواقفي هي هي، لم تتغيّر. وفي احلك الظروف. حتى يوم كان الشارع المسيحي في حيرة من امره، تتجاذبه رهانات مختلفة ومتناقضة احياناً، تمسكت بموقفي ودفعت غالياً ثمن ذلك. ان رهاني الاساسي لم يتغيّر، يقوم على المبادئ التالية: وحدة لبنان، سيادة لبنان، عروبة لبنان، والنظام الديمقراطي الذي يضمن المساواة والحريات العامة للجميع.

كل هذه المبادئ التي اعتبرتها شخصياً، جوهرية، كانت معرّضة في ظروف شتّى من فترة الحرب اللبنانية للنكسات والخضّات والتحديات. وقد قامت ضدي الانتفاضات والانقلابات بسبب تمسكّي بهذه المسلمات. ولم أحد عنها رغم المصاعب والتهديدات احياناً. لربما أنني كنت أغيّر في الاسلوب، انما الاهداف الاستراتيجية لم أحد عنها. فكثير من السياسيين غيّر مواقفه وبعض الذين يتغنّون اليوم بصداقتهم لدمشق، كانوا في فترة الحرب، اعداء شرسين لها. اما انا، كنت دائماً انادي بالعلاقة الاخوية الكريمة بين لبنان وسورية تحفظ سيادة وخصوصية كل بلد.

* خاض ابنك بيار المعترك السياسي وقدمت له دعماً معنوياً مع المحافظة على دورك. فأنت لم تعتزل السياسة. كيف تمكّنت من ارساء هذه الظاهرة الجديدة في ادبياتنا السياسية؟

ـ هذه ليست ظاهرة جديدة. كلانا اعضاء في حزب سياسي جماهيري يحفظ لكل انسان دوره وموقعه. فلنتذكّر انه في الستينات شارك والدي الشيخ بيار وخالي الشيخ موريس في برلمان واحد وفي حكومة واحدة. كما شاركت، في السبعينات، مع والدي في برلمان واحد ايضاً. وفي الثمانينات كان والدي وزيراً في الحكومة اثناء ولايتي. اما على صعيد النضال الحزبي، تحمّلنا، والدي وشقيقي بشير وانا المسؤوليات الجسام في حزب الكتائب. لربما ان الاطار الحزبي الذي يتّسع للجميع هو الذي اتاح لنا، كل في اطار اهتماماته ومسؤولياته، الانخراط بالعمل الوطني.

اما في ما يتعلّق بنجلي بيار، فبسبب غربتي القسرية عن البلاد وبقاء بيار في لبنان، لم نكن نستطيع ان نتقابل الا بصعوبة والاتصالات الهاتفية بيننا كانت مراقبة، فاضطر ان يتحمل مسؤوليته بمعزل عني، وهذا امر مهم ساعده على صقل شخصيته بشكل مميّز. ففي احلك الظروف صمد بيار في لبنان وواجه حملة شرسة شنت على آل الجميل من قبل الدولة والأحزاب، ومن قبل حزب الكتائب تحديداً إبان صراعاته الداخلية. وقد وجد نفسه في جو عدائي ونادراً ما توفر له من يسقيه كوب ماء او يمنحه الدعم اللازم. وكان بيار يواجه كل هذه التحديات بجدارة، بحكمة، بصلابة وجأش وإيمان. وكان الرابط الروحي هو صلة الوصل الوحيدة بيننا، ونجاحه في المعركة الانتخابية التي خاضها منفرداً بمواجهة السلطة وكل القوى، اعطاه صكاً شرعياً بثقة الناس فيه.

وبعد عودتي الى الوطن، حاولنا، بالتعاون مع مجموعة كبيرة من الرفاق الكتائبيين الاوفياء والمخلصين لخط الشيخ بيار مؤسس الحزب، ان ننهض بالحزب ونعمل في سبيل انقاذ لبنان من الدوامة التي يتخبّط بها.

* كيف دافعت عن نفسك حيال الاتهامات التي وجهت اليك، ومنها تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية والانهيار الاقتصادي وفراغ السلطة واتهامات اهل البيت الكتائبي؟

ـ عندما كان اصدقائي يطالبونني بالرد على حملات الافتراء والتجريح، كنت اقول لهم: انني اترك للتاريخ ان يحكم معي او ضدي. لكن التاريخ فاجأني وأنصفني باكراً وبأسرع مما كنت اتصور. اعرف انني دفعت ثمناً باهظاً وكنت احسب ان الانصاف سيستغرق وقتاً اطول لأن الوضع الذي رفضته وحاربته وواجهته لم يتغيّر. اين صارت الليرة اللبنانية اليوم؟ ومديونية الدولة؟ كانت الليرة في ايامي تساوي 350 ل.ل. للدولار الواحد، وصلت بعد عهدي الى 3000، ثم استقرت على 1500. لم يزل الفارق كبيراً، اما المديونية، لم تتجاوز في عهدي 750 مليون دولار، معظمه دين داخلي، فأصبحت الآن قريبة الثلاثين مليار دولار، أكثر من الثلث منها دين خارجي، أعتقد ان هذه الارقام بليغة بالتعبير. ثم ان اعدائي ما زالوا متجذّرين، الطاقم السياسي ما زال على حاله والوضع الاقليمي ايضاً ما زال على حاله، والحملات المغرضة ايضاً على حالها. انما بالنهاية لا يصح الا الصحيح واضحت الناس تترحّم على ايام عهدي. حيث لم تعرف البلاد هذا النوع من الازمة الاقتصادية والاجتماعية التي يتخبّط بها البلد ويعاني منها الناس. فأنا ضميري مرتاح انام على وسادتي وأنا أعرف تماماً ان هذه الافتراءات والاتهامات باطلة.

* يتهمك البعض أنك كنت في الفترة الاولى من رئاستك رئيساً لكل لبنان. بعد ذلك صرت رئيساً للمسيحيين ثم رئيساً لفئة من المسيحيين؟

ـ انت اسيرة دعاية مغرضة ونوع من المناخ السيكولوجي الذي اشاع في البلد ان امين الجميل رئيس فئوي. ارفض هذا الكلام. وكأننا نتجاهل حجم المؤامرة التي واجهها لبنان ولم يزل والتي تهدف الى تفتيت منطق الوفاق الوطني. يوم توليت مسؤولية الرئاسة، كانت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الاميركية قد انتقلت الى ساحتنا اللبنانية، واصبح لبنان ساحة حرب الآخرين على ارضه. في ذاك الوقت، تشكل حلف رباعي ضمّ الاتحاد السوفياتي وسورية وايران وليبيا بمواجهة الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل. وكان بعض الافرقاء اللبنانيين ادوات طيّعة في يد المؤامرة او ضحية صراع الجبارين العالميين على ارضنا. وعلى الرغم من هذه التحديات وانطلاقا من احساسي بالمسؤولية ورغبتي الصادقة ان أكون فعلاً رئىساً لكل لبنان، اصبح همي الحفاظ على المؤسسات اللبنانية حتى تصل البلاد الى مرحلة تستقر فيها الامور لنتمكن من اعادة البناء. وهذا الرهان كان بحد ذاته مهمة شاقة وشبه مستحيلة في الظروف الراهنة محلياً وإقليمياً. واعتقد انني تمكنت من النجاح واستشهد بما قاله رئيس الحكومة الراحل رشيد كرامي عام 1985 في حديث لمجلة «الحوادث» من «ان امين الجميل احسن رئىس جمهورية تعاملت معه على رغم الظروف». وبعد اغتيال الرئيس كرامة واستحالة تأليف حكومة جديدة في ظل الاجواء السائدة آنذاك، تمكنت، بالتعاون مع الرئيس سليم الحص الذي كان يتفهم ايضاً خطورة المرحلة، ان نحفظ البلد ونجنّبه فراغاً دستورياً وسياسياً. وحدّت جهودنا للحؤول دون انهيار البلاد ومن تحاشي الفراغ الوطني ويجب ان نقيم الفترة التي توليت خلالها الرئاسة بالحد الادنى من الموضوعية والشفافية. وهنا اتساءل: هل ان الشعب اللبناني مطمئن اليوم بشأن مستقبل البلاد اكثر من ايام عهدي؟ لا اعتقد، والدليل النقمة الشعبية العارمة وهجرة الشباب.

* الى اي حد شكلت الطائفة عقبة وعرقلة لمسؤولياتك وتوجهاتك؟

ـ الى حد كبير لا شك في ذلك. فقد قام حزب «القوات اللبنانية» (بقيادة سمير جعجع) بانتفاضة ضد امين الجميل تحت شعار «امن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار» وكأنني كنت افرط بأمن هذا المجتمع، او انني اساير على حساب مصلحة الوطن. وانتجت هذه الانتفاضة كوارث على الصعيد الوطني والشعبي تسببت بالخراب والتهجير. الا ان ذلك لم يمنع الدكتور جعجع في ما بعد، من الاعتراف بخطئه، ووجه لي رسالة بتاريخ 7 مايو (ايار) 1985 أكد فيها على سلامة طروحاتي وتوجهات عهدي، وكأني به يعتذر. كنت اعرف ان الكثير من القادة والمسؤولين من المسلمين كانوا موافقين على طروحاتي ومؤيدين لها. لكنهم لم يستطيعوا الاقرار بذلك ومعظمهم مغلوب على امره. واذكر ان وليد جنبلاط وبعد توقيعه على الاتفاق الثلاثي في 17 سبتمبر (ايلول) 1985 مع الرئيس نبيه بري والياس حبيقة من جهة والقيادة السورية من جهة اخرى، صرح لوكالة الصحافة الفرنسية للاخبار انه يتكل على وطنية امين الجميل لافشال هذا الاتفاق، كونه لا يخدم مصالح جميع اللبنانيين. كانت القيادات من كل الطوائف تعيش في جو من الضغط او التهديد، كما من القلق والحيرة. وكان من واجبي احيانآً ان انقذهم غصباً عنهم.

* الم يكن بامكانك تجنيب لبنان كل هذه المآسي التي شهدها عهدك؟

ـ وهل بدأت هذه المآسي مع عهدي وانتهت معه؟ لا اظن ذلك. لا ننسى بأي حالة استلمت الرئاسة. كان شارون وجيشه على ابواب قصر بعبدا. هل نسينا ما حصل سنة 1969 حين اضطر الرئيس حلو ان يوقع اتفاقية القاهرة مع المقاومة لوقف الحرب على ارض لبنان؟ وسنة 1973 حين اضطر الرئيس فرنجية الى استعمال الطيران الحربي ضد المخيمات الفلسطينية؟ وفي كلتا الحالتين، دخول سورية على الخط وتهديد الرئيسين بالتدخل العسكري ضد لبنان؟ فأقفلت سورية الحدود مع لبنان مرتين لمدة اشهر عديدة. لا اريد هنا ان استعرض كل مآسي لبنان من الستينات حتى اليوم.

بالنسبة لي، حرصت على ان تبقى سياستي لبنانية وطنية تلتقي مع مشاعر وتطلعات الشعب اللبناني الى اي فئة انتمى. انما في ذلك الطرف كان العمل لمصلحة الوطن ممنوعاً وكان العمل ضمن اطار الميثاق الوطني ممنوعاً على اللبنانيين. وعندما كان اثنان منهم يرغبان باللقاء، كان عليهما الذهاب الى دمشق فيما كان عبور منطقة المتحف بين غرب بيروت وشرقها ممنوعاً. فكل العراقيل كانت متاحة لنسف المساعي اللبنانية لانهاء الحرب. ولم تكن الامور ناضجة لانهائها. كنا آنذاك ضحية المثل القائل: «فرّق تسد».

مشاعر متضاربة الآن، لقد سكت المدفع، وفتحت الطرقات، انما هل السلام اللبناني الحقيقي تحقق؟ هل الوفاق الوطني المبني على المصالحة، تحقق؟ هل الناس مطمئنة لمستقبل اولادها؟ هل السيادة ناجزة؟ فبأي ثمن نحقق هذا الهدوء النسبي؟

* بعد هذه التجربة، هل تعتقد انك لو عدت رئيساً للجمهورية تستطيع جمع الافرقاء تحت راية الرئاسة لانجاز الوفاق الذي لم ينجز واقعاً حتى يومنا هذا؟

ـ لست ادري اذا كانت الامور ناضجة لتحقيق ذلك. يبقى ان على رئيس الجمهورية ان يسعى لان مسؤوليته خطيرة. ولا عذر لديه ليتهرب منها. فقد ذهبت الى دمشق عدة مرات لبحث امور وطنية وكان الرئيس الراحل حافظ الاسد يطرح عليَّ بعض القضايا، واذا لم اقتنع لا امشي بها بل نستمر بالحوار. رئيس الجمهورية هو ضمير الامة. واذا اصبح شهيداً لا مشكلة. انما لا عذر لديه لعدم السعي. ربما لا ينجح في سعيه كما حصل معي، لكن عليه ان يضع مصلحة وطنه قبل اي مصلحة اخرى. وكلنا بجانب الرئيس اميل لحود اذا اراد ان ينطلق بورشة الحوار والاصلاح والانقاذ.

* كيف تستعيد الحرب اللبنانية؟

ـ قبل الرئاسة خاطرت كثيراً بحياتي وعشت لحظات محفوفة بالخطر. فقد كنا في وضع يفرض علينا تنظيم امور مناطقنا وتأمين الحماية للناس بعد استقالة الدولة من واجباتها وصلاحياتها. والانسان قد يخاطر بحياته لايمانه بقضيته، لكن عندما يطاول الخطر العائلة والاولاد القاصرين، تكون المهمة اصعب ويترك ذلك مشاعر يصعب وصفها. يشك الانسان احياناً بنفسه، ويشك بنجاحه وبصوابية نضاله، لا سيما في ظل حملة نفسية مخيفة شنت علينا لنشعر اننا نخوض معركة يائسة، فاشلة وباطلة وغير محقة. مما خلف عندنا مزيجاً من المشاعر المعقدة والمتضاربة. لكن في المحطات الكبرى وبمواجهة الموت، تصبح الحسابات الاخرى الصغيرة هامشية. فمن يخاطر بحياته لا يفعل ذلك لاهداف ضيقة او دنيئة. واشدد على اننا لم نخض المعارك سعياً الى لذة القتال، بل فرضت الحرب علينا. فقد كانت المصالحة في ذهننا وكان لدينا الدافع الدائم للحوار على رغم مرارة المعركة.

* المعروف انك بقيت على علاقة طيبة مع القادة الفلسطينيين حتى في اعنف المعارك؟

ـ كنا شرسين في معركتنا ضد تجاوزات الفلسطينيين حين حاولوا انشاء سيادة فلسطينية على حساب السيادة اللبنانية والمصالح الوطنية. الا اننا بقينا مع القضية الفلسطينية كقضية حق.

واثناء الحصار الاسرائيلي لبيروت عام 1982 زرت المنطقة المحاصرة مرتين. وفوجئ الاسرائيليون بي. فلم يعرفوا ان كان يتوجب عليهم منعي او السماح لي بالدخول. كنت مقتنعاً ان من واجبي ان اتضامن مع الشعب الفلسطيني حين يواجه اي خطر. وكنت دائماً اميز بين قدسية القضية الفلسطينية. وهي قضية العرب الاولى، وبين تجاوزات بعض الفصائل الفلسطينية على الساحة اللبنانية. وفي رسالة مؤثرة وجهها لي القائد الفلسطيني الراحل ابو اياد من خندقه في بيروت الغربية اثناء الحصار، وصف فيها نوعية علاقتي الفريدة مع المقاومة، كما جاء في الرسالة.

* اسمك الحركي في الحزب «عنيد» هل انت عنيد فعلاً؟

ـ جداً، بعد كل هذه الفترة والمعاناة التي مررنا بها وكل هذا التشكيك الذي واجهناه، ما زلت على مواقفي وقناعاتي، واتمسك بوحدة لبنان وعروبته، واعمل في سبيل استعادة سيادته ونظامه الديمقراطي الحر.

* هل تستفز بسهولة؟

ـ احاول ان اتجنب الانفعال. حين اشعر ان هناك ما يستفزني أنغلق على نفسي واحاول بهذه الطريقة ضبط النفس. فأقفل وجهي. وقد ينتقدني بعض الذين يفضلون ان اكون عفوياً الى حد الانفعال، لكن الظروف تفرض عليَّ هذا الموقف لأن اي موقف آخر يكون خطراً ومدمراً.

* هل تلجأ الى العنف؟

ـ فقط للدفاع عن النفس، يجب ان يكون الانسان شجاعاً حين تفرض الامور ذلك. وان لا يتهرب امام التعدي او الاستقالة من الواجبات الوطنية. انا لا اهوى العنف اطلاقا، وعلى مدى عملي السياسي كرهت العنف وعملت من اجل وقفه.

* هل ترفض الاستسلام الى واقع الحال وكأنك ثائرا دائماً؟

ـ بالطبع، الواقع الذي يعيشه الوطن وتواجهه معي عائلتي يفرض علينا اليقظة الدائمة. كان والدي يقول: «اننا ارتضينا ان نعيش في منطقة بركانية محفوفة بالمخاطر والتحديات. فعلينا اذا ان نواجه باستمرار هذا التحدي. واصبح قدرنا ان نبقى يقظين مدى الحياة». بالتالي نرفض ان نبقى اسرى منطق التفاؤل والتشاؤم. وهذا منطق يدعو للاستسلام للقدر فقط. اني استعيض عنه بمنطق التصميم والتشبّث بالارض والحق. ومن احب هذا البلد، يرفض الاستسلام والتهور.

* كيف تقيّم تجربتك الجامعية وماذا اضافت الى شخصيتك؟

ـ عشت مرحلتين جامعيتين. الاولى كطالب في كلية الحقوق، والثانية كباحث واستاذ محاضر في الجامعات الاميركية والاوروبية. وفي المرحلتين كانت لي تجربة لا شك انها صقلت شخصيتي وأغنتني علماً وتجربة وعلاقات انسانية على جميع المستويات.

في المرحلة الاولى، تعرفت على لبنان بكل خصائصه وتشعّباته، وتفتّحت على العمل السياسي من الباب الواسع. تعرّفت منذ ذاك الوقت على بعض رفاقي في الكتائب، منهم الدكتور ايلي كرامه الذي ترأس الحزب بعد وفاة والدي. كما تعرفت في هذه المرحلة، أثناء النضال الطلابي المشترك، الى رئيس مجلس النواب الحالي الاستاذ نبيه بري، وغيرهما.. وفي مرحلة دراسة الحقوق، توظفت في مجلس تنفيذ المشاريع الكبرى، وتعرفت هنا على كل لبنان، كل مناطقه وطوائفه، وربطتني علاقة وطيدة مع كل اللبنانيين. مما غيّر نظرتي للوطن فأصبحت اكثر شمولية.

في المرحلة الثانية، التحقت بعد الرئاسة، في التسعينات، ببعض الجامعات الاميركية، فكانت لي تجربة جديدة فريدة من نوعها. اعطتني استقراراً نفسياً ووسعت من ثقافتي الفكرية والسياسية. وتمكنت هناك ان اقوم بالمراجعة السياسية والوجدانية على اثر عشرين سنة من العمل السياسي، كنائب، ثم كرئيس للجمهورية... وكانت هذه المراجعة مفيدة جداً لي. كما تعرّفت على عالم آخر، لربما مختلف بالجنسية. فوجئت ان هذا الوسط الغريب عن منطقتنا وعن منطقنا، يعاني الى حد بعيد نفس المعاناة والهموم. كانت لي في جامعة هارفرد الاميركية مثلاً، تجربة خاصة وفريدة. كانت اتصالاتي هناك مع الاساتذة والطلاب غنية من كل النواحي. وانهيت اقامتي فيها بوضع كتاب حول تجربتي نشرته دار نشر الجامعة.

سيارة المرسيديس البيضاء

* يذكر البعض سيارتك المرسيدس البيضاء التي دخلت بها الى القصر الجمهوري لدى تسلّمك الرئاسة، هل انت هاو للسيارات؟

ـ لا اذكر انني دخلت القصر بهذه الطريقة. لم اكن املك في حينه هكذا سيارة. علاقتي بالسيرات عادية جداً. فأنا لا اهتم بالمظاهر. حتى انني انزعج من المظاهر المبالغ بها وهذا ورثته عن والدي الشيخ بيار الجميل. فقد اهداه مرة احد المسؤولين الخليجيين سيارة كاديلاك فخمة، فأحرج الوالد لأن المسؤول كان صديقاً كبيراً له. لكنه رفض قبوله مبرراً ذلك بأنه لا يستطيع ان يقود كاديلاك والناس لا تتمكن من تأمين رغيف الخبز الا بعرق الجبين. تربّينا في بيتنا على الحياة البسيطة والبعيدة عن المظاهر والبزخ.

* لكنك هاوٍ قيادة الطائرات؟

نعم، فقد نلت شهادة في قيادة الطائرات عام 1964. ثم تدربت على قيادة الطائرات المروحية. وتعرضت مرتين الى حوادث خطيرة تمكنت من تجنبها بأعجوبة. وقد توقفت عن ممارسة هذه الهواية.

* يذكر في هذا الاطار ان هواية الطيران كانت موضوعاً مشتركاً مع الرئيس الراحل حافظ الاسد؟

ـ صحيح، ولربما ان هواية الطيران قربت في ما بيننا. في الحقيقة، حاولت دائماً ان اتعاطى مع الرئيس الاسد بشفافية. وحوارنا كان حميماً على رغم اننا لم نكن نتوصل دائماً الى نتائج عملية. لكن ذلك لم يحل دون طرحنا قضايا خاصة واستمرت علاقة الصداقة حتى بعد نهاية ولايتي. فأنا طيار وهو ايضاً. وكان يسألني عن تفاصيل الحوادث التي تعرضت لها وكيفية سيطرتي على طائرتي. كذلك كان يسألني عن عائلتي وعن امور لا تتعلق بالسياسة. وكان يجمعنا مناخ ودي حتى آخر يوم من ولايتي. حيث استقبلني وودعني على المطار على رغم عدم توصلنا لحل مشكلة الانتخابات الرئاسية في لبنان، موضوع الزيارة الاخيرة لدمشق.

* كأن الحياة السياسية كانت قاسية عليك. هل كنت تتمنى لو انك اخترت لحياتك وجهة غير سياسية؟

ـ كنت فضلت لو بقيت في «بيت المستقبل» وهو مركز حضاري وفكري وفني، انشأته سنة 1976. وكنت اتمنى لو اتيح لي الاهتمام بالدراسات الاستراتيجية والبحوث، اي بكل ما له علاقة بالثقافة ويساهم في نمو الفكر والمشاعر الانسانية. لو خيرت، لما اخترت السياسة، لكنني «علقت» فيها. فحاولت ان اقوم بواجباتي بشرف وان اتمم رسالتي بشكل يرضي ضميري تجاه الشعب والتاريخ.

* ألم تنصح ابنك بعد تجربتك هذه بالابتعاد عن المجال السياسي؟

ـ لم استطع بسبب بعدي عنه، لو كنت قريباً لنصحته بذلك. انما هذا هو قدر العائلة، ولم يوفر احداً.

* في اي مجال تتصور نفسك بعيداً عن السياسة؟

ـ ربما كنت نجحت في مجال الكتابة والادب والموسيقى. واليوم اشعر ان دخولي المعترك السياسي كان لصالح حزب الكتائب اكثر ما كان لمصلحتي الخاصة. وكنت افضل ان انعم بالحياة العائلية واكسب خبرة مهنية كمحام واحضر نفسي للعمل السياسي في وقت لاحق. لكن بسبب بعض الظروف، غطست في هذا المغطس باكراً وهكذا كان.

* تزوجت باكراً، ودخلت السياسة باكراً، لم كنت مستعجلاً الى هذا الحد؟

ـ القدر اراد ذلك. اعني، الحب والموت. الحب عجل بزواجي من رفيقة عمري، جويس، وموت خالي الشيخ موريس الجميل عجل في دخولي السياسة الفعلية. اعرف انني انجزت الامور في حياتي في سن مبكرة. فقد تعرفت على زوجتي وانا في التاسعة عشر من عمري، وبقينا طوال فترة الدراسة سوية. حين تخرجنا اعلنا خطوبتنا وبالكاد فتحت مكتب المحاماة حتى تزوجنا. اما قربي من والدي ومن خالي ادخلني السياسة ولم ازل اسيرها.

* المراحل المضطربة التي عبرتها لم تترك بصماتها على مظهرك. فأنت دائماً انيق. هل تبذل جهداً خاصاً لذلك؟

ـ ابداً، فانا لا ابذل اي مجهود. احياناً تختار لي زوجتي او ابنتي ملابسي من دون ان اعرف وغالباً ما تناسبني.

* تحيط بك هالة مصدرها وسامتك التي تجذب الجنس اللطيف. هل تسبب لك الامر بإحراج ما على الصعيد العائلي؟

ـ أي زواج يكون دائماً محفوف بالصعاب، مر على زواجنا 35 سنة والحمد لله لم تقو عليه غيوم الصيف، التي سرعان ما كانت تتبدد، وكأننا في السنوات الاولى من هذا الزواج. على كل حال لعبت زوجتي جويس دوراً اساسياً في حياتي، ولم تزل.

* كيف هي علاقتك باحفادك؟

ـ لدي وقت لاحفادي اكثر مما كان لدي لاولادي. وابنتي نيكول تذكرني دائماً وبشيء من اللوم، بأني لم اكن اعطيها واخويها الوقت الكافي في فترة طفولتهم. لذلك اسعى الى التعويض عبر اولادهم، احفادي. بالواقع، اسعى ان اعطيهم، كما اولادي، من وقتي ومحبتي ما يعوض عن غيابي القسري في الماضي.