الموسيقى في إيقاع الحياة لدى الشعوب الأفريقية

145 آلة موسيقية من افريقيا و الشرق في معرض بمتحف الحضارات في كندا

TT

تعد منطقة «الأوتاواي» من أكثر المناطق تعبيرا عن الصراع الخفي والدفين من جهة، التعايش السهل والسلس من جهة أخرى بين الفرنسية والانجليزية في كندا. فهذه المنطقة البعيدة نسبيا عن ثلوج الشمال، تشمل المدن والتجمعات السكانية الواقعة على طرفي الحدود بين مقاطعة «كيبك» التي يطالب بعض احزابها بالاستقلال عن كندا ومقاطعة «اوبنياريو» التي تضم مدينة «أوتاوا» وهي العاصمة الفيدرالية للدولة الكندية. غير ان ما يلفت الانتباه ازاء هذه العاصمة الجميلة والهادئة (يسمونها المدينة المبيت) هو انها تقع بدورها على الحد الفاصل (نظريا) بين المقاطعتين المذكورتين، وذلك قبالة مدينة أخرى وهي مدينة «هال» الناطقة من حيث المبدأ باللغة الفرنسية والتي لا يكلف الوصول اليها غير بضع دقائق مشيا على الاقدام عبر أحد الجسور الرابطة بين المقاطعتين. ولذلك فإن منطق التعايش يفترض (ولا يفرض) الحديث باللغة الفرنسية من هذه الناحية من الجسر وبالانجليزية من الناحية الأخرى. لكن منطق الواقع يقول شيئا آخر، فسكان «هال» يتكلمون غالبا باللغتين في حين يكتفي أهل «أوتاوا» في أغلب الاحيان بالانجليزية. غير أن ذلك لم يمنع هذه المدينة من أن تحتضن مع جارتها «هال» كما أشرنا، أكبر مهرجان عالمي للفرنسية. ونعني هنا ألعاب الفرانكفونية التي تجري فعالياتها بهذه الجهة خلال هذه الايام والتي تحتضن أنشطة رياضية وثقافية كثيرة يدور بعضها بمتحف الحضارات الذي يمثل مؤسسة فيدرالية ضخمة تقع بناياتها في مدينة «هال» وتفتح نوافذها على مدينة «أوتاوا».

ويعتبر معرض «رنين» المقام باحدى القاعات الكبرى من هذا المتحف، من اهم الانشطة التي لا تستقطب اهتمام الفرانكفونيين فحسب، وإنما مختلف الزوار الوافدين على هذه المنطقة السياحية في مثل هذا الموسم.

ويقدم المعرض 145 آلة موسيقية تم جلبها من 18 بلدا ينتمي جلها الى منظمة الدول الفرانكفونية، ولذلك فإننا نجد أن الآلات الموسيقية الافريقية هي الاكثر عددا في هذا المعرض باعتبار ان أغلب الدول المكونة لهذه المنظمة من افريقيا، لكن هناك عاملا آخر يجعل من هذه التظاهرة وكأنها معزوفة افريقية موشاة ببعض الترانيم الهاييتية والفيتنامية والكندية والكمبودية والعربية (نجد في هذه التظاهرة العود التونسي والدربوكة المغربية) ونقصد بهذا العامل توفر المعرض على خلفية فكرية اعدتها مديرته ومصممته كارمال بيجان رئيسة قسم الدراسات الثقافية بالمتحف والمختصة في موسيقى الشعوب، وتستند هذه الخلفية الى الفكرة القائلة بأهمية الآلة الموسيقية لا كأداة للعزف فحسب وإنما كعلامة ودلالة ثقافية واجتماعية تشرح وتفسر مدى التصاق الموسيقى بحياة الناس ومدى تغلغلها في معيشهم اليومي، ثم انها تؤشر ايضا على هوية أولئك الناس ومدى تماهيهم أو تمايزهم ابداعا وجمالية عن الآخرين.

وبعيدا عن النظرة السياحية والفلكلورية السائدة عن افريقيا، ترى كارمال بيجان أن طغيان الظاهرة الموسيقية لدى شعوب هذه القارة لا يمكن تفسيره إلا عبر الاستشهاد بتلك الفكرة البسيطة في شكلها والعميقة في معناها والتي تقول بأن الموسيقى هي الحياة. وعندما تخوض هذه الباحثة في الشأن الموسيقي الافريقي فهي لا تفعل ذلك من فراغ وإنما انطلاقا من تجاربها وأبحاثها الميدانية التي مهدت لانجاز هذا المعرض، فقد ظلت هذه العازفة الماهرة للبيانو تتردد على بعض الدول الافريقية مثل النيجر ومالي وبوركينافاسو وغينيا، طيلة سنتين، وهو ما مكنها من الاطلاع عن كثب على فحوى وسر ذلك السحر الموسيقي في القارة السمراء، كما مكنها ذلك من توثيق ما اطلعت عليه من أشرطة تسجيلية سمعية وبصرية وهو ما جعل المعرض لا يقدم محتوياته بشكل جاف وجامد وإنما باعتماد تجهيزات تكنولوجية متطورة ودقيقة تجعل الزائر لا يكتفي بمشاهدة الآلة الموسيقية عبر الإطار البلوري فحسب، بل يشاهد ايضا شريطا مرئيا يعرف بكيفية صنعها وطريقة العزف عليها وهويتها الاجتماعية والثقافية وما الى ذلك. كما يرافق هذا الشريط تسجيل سمعي يقدم أهم الوصلات المعزوفة عبر هذه الآلة. ولذلك فقد أضحى المعرض بفضل هذه الامكانيات وكأنه حفل، حيث ترى الزوار وهم يضعون خوذات الاستماع على رؤوسهم يتمايلون ويرقصون على انغام موسيقى هاييتية أو افريقية أو فيتنامية أو عربية، كما يمكن ان تراهم ايضا يتابعون بانتباه عبر أحد الاشرطة بعض الطقوس الموسيقية الخاصة بسلطان قبائل الدامافارام في النيجر، ثم تجدهم عبر شريط آخر يتابعون بعض مناهج تعليم النقر على الآلات الايقاعية في بوركينافاسو، حيث يتدرب الاطفال في البداية على النقر على علب معجون الطماطم قبل الشروع في الضرب على «التام تام» أو ما شابه ذلك.

وضمن باب سمي بالجغرافيا الموسيقية أعد المعرض جانبا خاصا بالآلات الموسيقية من مختلف أنحاء العالم وهو ما جعل هذه التظاهرة لا تحتفي بالتراث الموسيقي للفرانكفونية فحسب (تبعا لما تقوله بعض عناوينها) وإنما بموسيقى العالم كله وهي اللغة التي لا تحتاج الى شرح ولا الى ترجمة كما تبين لي من خلال مشاهدتي لتفاعل الزوار مع مختلف الآلات في هذا المعرض الذي سيستمر لمدة سنتين.