الأردن: مرتكب جرائم الشرف مجرم «خمسة نجوم»

تأتيه الوفود لتهنئته ومساندته كما يحتفل به عند الإفراج عنه ويلقى تعاطفا واسعا

TT

يقتل سنويا في الأردن ما لا يقل عن 25 امرأة أردنية في حوادث «لغسل العار» وهي حالة منتشرة في معظم المجتمعات العربية. وتلك الإحصائية عن الأردن تشكل واحدة من أعلى إحصائيات «جرائم الشرف» في العالم. ومؤخرا سلطت الأضواء وبشدة على الأردن من دون غيرها من الدول التي ترتفع فيها أيضا معدلات هذه الجرائم. وتعد جرائم الشرف موضوعا حساسا يمس اسم الضحية ويمس عائلته ويزعج المجتمع الأردني بشكل عام. كفاية أولير سجلت تحقيقا عن هذا الموضوع في عمان عززته بحوارات ومعلومات جديدة! لكون الصحيفة التي اكتب لها هذا التحقيق تعتمد الرجوع الى المصادر الأساسية والموثقة للخوض في موضوع على درجة عالية من الحساسية والأهمية، فقد بدأت رحلتي للتقصي بالمحامية أسماء خضر في مكتبها في العاصمة الأردنية عمان وهي الناشطة في التصدي لجرائم الشرف، وكانت بمثابة القوة الدافعة والمنظمة للمسيرة التي اجتاحت عمان منذ أكثر من عام تقريبا بقيادة الأمير علي بن الحسين وبعض أفراد الأسرة الهاشمية وخمسة آلاف مواطن أردني ضد جرائم الشرف في الأردن. بدأت حديثي بسؤال المحامية الناشطة أسماء خضر: عن تقييمها لتلك المسيرة فاجابت:

ـ أعتبر هذا التحرك ضد جرائم الشرف تحركا اجتماعيا عاما، تحرك وراءه كل المؤمنين بمبدأ التساوي أمام القانون، واحترام حقوق الانسان والعدالة وهي من أسس حضارتنا وثقافتنا وتراثنا العربي والاسلامي وتنسجم مع قواعد حقوق الانسان بشكل عام. كما أن التحرك لمواجهة مختلف أشكال التمييز والعنف ضد المرأة تحرك قديم، ليس وليد السنة، وليس من مظاهره تلك المسيرة التي سارت في شوارع عمان منادية بتعديل قانون العقوبات للحد بما يسمى جرائم الشرف. ولا أرى تلك التسمية مناسبة. كما أن هذا النوع من الجرائم يرتكب في مختلف الطبقات والأصول الدينية وهي جرائم لا ترتكب في الدول العربية والأردن فقط وانما في دول عديدة مثل البرازيل والاكوادور، وحتى أوروبا والولايات المتحدة. والعنف ضد النساء في المجتمعات الغربية معدلاته مذهلة، وبالتالي لا يمكننا القول ان الأردن فقط يختص بهذا النوع من الجرائم من دون غيره من الدول. ولا يمكننا القول ان تلك الجرائم هي عربية واسلامية فقط أو لها علاقة بدول العالم الثالث.

* أين ترتفع معدلات جرائم الشرف في الأردن؟

ـ ترتفع معدلات ذلك النوع من الجرائم في أوساط الفئات الأفقر والأكثر جهلا من الناحية الثقافية، لأن خياراتهم لمواجهة مشاكلهم تكون أقل، وبالتالي حل مشاكلهم عن طريق ارتكاب الجرائم والعنف يكون منتشرا أكثر.

* في اعتقادك ما الذي يدفع الأخ أو الأب أو أحد أفراد العائلة لارتكاب ذلك النوع من الجرائم؟

ـ ترتكب هذه الجريمة بفعل الضغوط الاجتماعية لأنه اذا حدث خرق ما لقواعد السلوك الاجتماعي المتعارف عليه فالعائلات في الغالب تفضل أن تتمكن من مداراة الأمر، ولكن ان لم تتمكن تلك العائلات من ذلك وافتضح «الأمر» اما عن طريق الشائعات أو عن طريق ظهور علامات الحمل على الأنثي، فعندئذ الخيار يكون محدودا بفعل ضغط المجتمع فتحدث الجريمة، وبالطبع هذا الضغط الاجتماعي ناتج عن تقاليد وقيم اجتماعية لم تعد مقبولة. وغضب الرجال ضد شقيقاتهم أو زوجاتهم أحيانا يبدأ بسماع عبارات تشعر هذا الشاب أو العائلة بأكملها بالعار بسبب وقوع أحدى فتياتهم في علاقة حب مع شاب مثلا، أو أحيانا بسبب تعرض احداهن لحادثة اغتصاب، وبالتالي ينتج فقدها لعذريتها وحملها. والمجتمع لا يرحم العائلة ويبدأ في اتهام تلك الفتاة بسوء السلوك وسوء الخلق.. الى آخره. وأيضا يمارس المجتمع نوعا من الضغط، فكان لا بد من حملة توعية اجتماعية تنص على أن أي سلوك غير سوي هو بحاجة الى تقويم وليس بحاجة الى جريمة.

* كيف تحاولين من خلال نضالك ضد جرائم الشرف معالجة تلك المشكلة ؟

ـ أعتقد بأنه ليس من العدل أن يكون مصير بعض الفتيات بفعل الضغوط الاجتماعية القتل فيما عشرات الفتيات الأخريات لأسباب اقتصادية أو ثقافية، أو لكونهن ينتمين لعائلات أخرى لها خيارات متعددة، و«يقمن بنفس الفعل المخل بالشرف» ولكن لا يتعرضن لنفس النتيجة ـ القتل. اضافة الى ان هناك الكثير من الجرائم التي تقع باسم الشرف. وعندما أقول «باسم الشرف» لا أعني بذلك الأحكام القضائية النهائية. فقد تجد المحكمة بأن القضية ليس لها علاقة بالشرف لكنها جريمة في الأصل أرتكبت واستعمل الجاني هذا الدفاع أي أنه قتل بدافع غسل العار لكي يدافع عن نفسه وموقفه في المحكمة.

* سفاح ذوي القربى

* هل ثمة شيء استرعى انتباهك في مثل هذه الجرائم، مثلا الاعتداءات التي يقوم بها أقرباء؟

ـ من خلال بحثي في جرائم الشرف استوقفتني بعض القصص المؤثرة التي تغتصب فيها الفتاة من قبل أبيها أو أخيها أو ابن عمها وعندما تظهر عليها بوادر الحمل تقتل بحجة غسل العار والشرف حتى لا يفتضح أمر الجاني. وقصص من هذا النوع كانت وراء اهتمامي بهذا الموضوع. فمنذ 20 سنة تقريبا حيث كنت في بداية ممارستي للمحاماة زارتني سيدة.. كان قد صدر في ذلك اليوم حكم على زوجها بالسجن لمدة ستة أشهر فقط، فطلبت مني تزويدها بعنوان مكتبي، وحضرت لزيارتي مباشرة بعد انتهاء جلسة المحكمة.. بدأت تلك المرأة بالبكاء وقالت: أنا لا أستطيع الاستمرار بالعيش مع ذلك الرجل (وتقصد زوجها). فسألتها عن سبب ادانة المحكمة لزوجها بالسجن ستة أشهر؟ فردت قائلة: زوجي قتل ابنتي التي تبلغ من العمر 15 عاما، فسألتها عن سبب قتل زوجها ابنتهما فعلمت من الأم أن ابنتها كانت حاملا وغير متزوجة. فأخذت أهون على الأم بكلامي وقلت لها: أنت تعرفين أن المجتمع لا يقبل بهذا النوع من المسلكيات. فردت قائلة: أنت لا تعرفين حقيقة ما حدث لقد كانت ابنتي حاملا من والدها، هو الذي اغتصبها وعندما أخذت بوادر الحمل تظهر عليها، اتقاء للفضيحة وحتى يحمي نفسه، قتلها بذريعة غسل العار والشرف.

وتابعت أسماء خضر القول: لو أكتشف أمر هذا الأب لقيامه بجرم، نسميه سفاح ذوي القربى، سيحكم عليه بالسجن المؤبد وخصوصا اذا كانت الفتاة أقل من 15سنة وتلك القصة حدثت منذ 20 عاما، الآن الأحكام تغيرت وجريمة سفاح ذوي القربى تصل الآن الى الاعدام، وأعترف في ذلك الوقت بأنني كنت محامية مبتدئة لم يكن لدي خبرة في التعامل مع ذلك النوع من القضايا فأصابتني الحيرة وقتها لم أعرف بالضبط ماذا سأقول لتلك السيدة، ولكن بعد تفكير طويل قلت لها : لا تعودي الى زوجك واقترحت عليها الذهاب لبيت أهلها، ولكنها رفضت قائلة: لا أستطيع الذهاب لبيت أهلي فأنا لدي أربع بنات وصبي ولا أستطيع أن أتركهم مع والدهم لوحدهم، فقلت لها خذي أولادك معك، فأجابتني بأن عائلتها لا تستطيع ماديا رعايتها وأبناءها فهي من عائلة فقيرة جدا.. وقتها بالفعل شعرت بأنني لا أملك حلا لمشكلة تلك السيدة، وفي نهاية مقابلتنا قلت لها عودي لرؤيتي بعد يوم أو يومين حتى أفكر في طريقة لمساعدتك، وكنت بصراحة عازمة على الاتصال بوزارة التنمية الاجتماعية والعمل، أو حتى البحث عن صندوق زكاة لمساعدة تلك السيدة التي خرجت من مكتبي ولم تعد اليه أبدا. من حينها شعرت بالمسؤولية تجاه تلك السيدة وعائلتها وتجاه حالات مأساوية كثيرة مشابهة.

* ما هي القوانين التي تطالبون بتعديلها في ما يختص بعقوبة مرتكب جريمة الشرف؟

ـ قانون المواد التي نطالب بتعديلها تنص على العذر المحل للرجل وليس للمرأة في نفس الظروف، وأقصد بالعذر المحل الاعفاء التام من العقاب اذا وقعت جريمة القتل أو الايذاء في حالة تلبس بالزنا، فيعني ذلك اذا الزوجة أو الأم أو الأخت فاجأت ابنها أو زوجها في حالة تلبس بالزنا وقامت بجرحه أو بايذائه مع شريكته تحاكم وتعاقب، ولكن اذا ما فوجئ الرجل بأحد محارمه في حالة تلبس بالزنا عندئذ يعفى من العقاب، فهذا التمييز أولا غير دستوري وغير ديني وغير شرعي. فالله عز وجل قال «الزانية والزاني» وحكمهما في الشريعة الاسلامية بالضبط حكم واحد، ففي سورة النور قال تعالى «فالزاني والزانية فأجلدوهما مائة جلدة» صدق الله العظيم.

* ماذا كان عنوان حملتكم في مواجهة جرائم الشرف؟

ـ عنوان الحملة يتمثل في اعطاء «القيمة الكافية للحياة الانسانية سواء للمرأة أو للرجل» والحد من غلواء الانفعال الذي يودي بحياة فتيات وأودى بحياة الكثير من الفتيات ومنهن من تبين في ما بعد عذريتهن.

* اذا أنتم تنادون بالمساواة في تطبيق الأحكام القضائية على الرجل والمرأة على حد سواء.. ما هي أوجه تلك المساواة؟

ـ عندما ننادي بالمساواة بين الرجل والمرأة في مسألة التلبس بالزنا يخرج أحدهم بالقول ربما كانت المرأة التي كانت ترتكب الزنا مع هذا الرجل زوجته فالرجل يحق له تعدد الزوجات، ونحن نضع نفس الفرضية أمام هؤلاء، فربما تكون الفتاة المختلية بالرجل زوجته في السر.. الاحتمال وارد، أو ربما تكون واقعة تحت تأثير مخدر أو تحت تهديد، اذا بدأنا بالتبرير للرجل فالتبرير موجود للمرأة أيضا، لذلك نحن نقول سلطة القضاء وحكم القانون والحق في محاكمة عادلة والحق في الدفاع عن النفس كل هذه الأمور يجب أن تراعى وأن تكون محل احترام في كل نظام قانوني. كما أن هذا هو اتجاه الشريعة الاسلامية وهو توفير المحاكمة العادلة فالأدلة المقبولة في الشريعة الاسلامية للادانة هي أكثر بكثير مما جاء في القوانين الوضعية الحالية. حتى بالنسبة لجريمة الزنا في قانون العقوبات الحالي في الأردن تثبت بالاعتراف أو بالأدلة الكتابية كوجود رسائل متبادلة بين الفتاة والشاب، أما في الشريعة الاسلامية فلابد من وجود أربعة شهود ثقاة أو اعتراف متكرر لا يتراجع عنه المعترف لآخر لحظة، ويسأل مرة أولى وثانية وثالثة وأخيرة.

* كيف يعامل مرتكب جريمة الشرف أثناء التحقيق معه؟

ـ لن أنسى حتى يومنا هذا أحد الضباط وقبل عشر سنوات عندما قال جملة معينة وهي: (مع أن ذلك غير قانوني ولكن دعنا نعترف أننا نشأنا بطريقة تجعلنا عندما يأتي رجل للاعتراف بقتله دفاعا عن الشرف نعامله بشكل مختلف عن أي مجرم آخر مرتكب لجرائم أخرى، فنقوم باجلاس هذا المجرم، ونطلب منه أن يرتاح بعض الشيء ونعرض عليه سيجارة ليدخنها ونحاول تهدئته لأن المجتمع يتعاطف مع هذا القاتل)، حتى المجرم العادي تمتنع عائلته وأهله عن التعامل معه، ولكن مجرم جرائم الشرف ربما تأتي الوفود لتهنئته ولمساندته كما يحتفل به عند الافراج عنه، وبالتالي الموقف الاجتماعي يؤثر على موقف الجاني وموقف عائلته، فهذا الجاني يتعاطف الجميع معه وهذا في حد ذاته خطير جدا، فالناس تنفعل وتغضب لأسباب عديدة، اذا هل سنسمح لانسان جائع مثلا بالقتل. ما أريد قوله انه يمكن للغضب أن يوصل الجائع للقتل فهل سنقبل بعذر الغضب؟ أنا شخصيا لا أقبل بأن يكون عذر الغضب والانفعال ذريعة لارتكاب الجرائم، المبدأ أن لا ينفعل الانسان وأن لا ينساق وراء عواطفه، وأن يترك تطبيق القانون للمحاكم وللجهات القضائية. ولن نصل الى تحقيق هذا المبدأ ما دمنا نحرض الانسان على أن يكون الحاكم والجلاد في آن واحد.

* عقوبة جريمة الشرف

* اختتمت المحامية اسماء خضر حديثها بقولها: أعتقد أننا يجب أن لا نقبل بفكرة العذر المحل على الاطلاق، أنا أقبل فكرة حالة الغضب وأقبل أن يخفف العقاب للرجل وللمرأة في حالة الغضب الشديد الناتج عن فعل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه، ولكن علينا أن نرفع الحد الأدنى من العقوبة، بحيث تكون خمس سنوات كحد أدنى في كل الأحوال، وأن لا يسقط الحق الشخصي ان كان الجاني والمجني عليها من نفس العائلة، كما أنه يجب أن لا نقبل موقف العائلة الذي يخفف العقاب عن الجاني كون الجاني والمجني عليها من نفس العائلة، وليس فقط في جرائم الشرف ولكن في كل الجرائم. كذلك نحن في حاجة الى برامج توعية وتوجيه تبين أن الدين الاسلامي يوجب التوجيه ويوجب قبول التوبة وتقويم السلوك والارشاد ويفضله على أي تصرف أو اجراء آخر.

وتساءلت أسماء بانفعال حقيقي: لماذا جميع ضحايا جرائم الشرف من الفتيات، فتلك الجرائم فيها شريك وهو الشاب فلماذا اذا لا يتم قتل الشريك؟ أتعرفين لماذا ؟ أن هناك عائلة وراءه ستطالب بدمه. وهذا أعتبره جبن. كيف أكون في حالة غضب وانفعال شديدين وفي نفس الوقت أقتل الفتاة دون الشاب؟ معنى ذلك أن الجاني فكر وخطط واختار قتل من لن ينشأ عن قتله عقوبات شديدة، لأن من ينشأ عن قتله عقوبة شديدة ترك وشأنه، وللأسف العقل المجتمعي بدأ يبرر هذا الفعل بالقول أن «الشاب ليس عليه عار»، ولكن في نظري عليه عار وعليه عار أكثر من الفتاة لأن الشاب هو الحر وهو الذي يمتلك حق المبادرة.

وأضافت: وأشدد هنا أننا لسنا بصدد أي صدام مع أي قوي في المجتمع وقد تكون حملتنا ورسالتنا فهمت خطأ وقد تكون أستغلت خطأ من خلال وسائل الاعلام، ولكن مع ذلك أنا أعتقد أن المعالجة ليست عن طريق وسائل الاعلام التي سلطت الضوء على تلك القضية ولكن المعالجة تكمن في وجوب تصدينا لهذه المشكلة وحلها، وأنا أقول أن هناك العشرات من القضايا في مكتبي يصل بعضها الى أن الزوج يطالب زوجته باعطائه راتبها كاملا وعندما ترفض يهددها بالجلوس بالبيت «لاقامتها علاقة غير سوية مع أحد زملائها في العمل». وتابعت المحامية أسماء قولها بغضب: أصبح هذا الموضوع يستغل من أجل ممارسة ضغوط غير مشروعة على النساء، والنساء عندما يخضعن لتلك الضغوط ويسلمن بكل شيء، حتى خوفا من قتل عائلاتهن لهن اذا ما اتهمن من قبل أزواجهن، فتجد المرأة تنصاع على الفور وتسلم بكل حقوقها للرجل، هذا الكلام لا يقبله قانون ولا يقبله دين ولا تقبله مبادئ حقوق الانسان ولا تقبل به شريعة ولا عقل.

* تسمية جرائم الشرف

* ولمزيد من مناقشة تلك القضية ولتتبع خيوط الحملة الموجهة ضد جرائم الشرف التقيت بالدكتور مؤمن الحديدي رئيس المركز الوطني للطب الشرعي ورئيس اختصاص الطب الشرعي في وزارة الصحة والأستاذ في المعهد القضائي الأردني وسألته:

* ما هي نظرتكم لمصطلح جريمة الشرف؟

ـ جريمة الشرف كمصطلح تعني اعطاء العذر لأي شخص يرتكب الجريمة وكأنما نفترض ابتداء بأن القاتل كان محقا في ارتكابه هذه الجريمة دفاعا عن الشرف، لذلك نحتاج لأعادة النظر في هذه التسمية. موضوع جرائم الشرف يعود تاريخه لسنوات طويلة. وأذكر أنه في عام 1993 بدأنا في اعداد أبحاث في المركز الوطني للطب الشرعي حول الجرائم الواقعة على النساء بشكل عام، ولاحظنا من خلال تلك الأبحاث أن بعض الأسماء تتكرر في عيادات الطب الشرعي عند فحص قضايا الاعتداءات الجنسية في سجلات الوفيات التي نشاهدها في صالات التشريح، وبدأنا نبحث عن أسباب تكرار أسماء الفتيات اللاتي نقوم بتشريحهن، ووجدنا أن الكثير من الحالات التي نشرحها سبق فحصها في قضايا تتعلق بالتأكد من عذريتهن واحتمالات حملهن. فبدأ الحديث من هنا عن جرائم الشرف، ولم نستسغ هذه التسمية حقيقة لسبب بسيط وهو أن كلمة «شرف» وصف لحالة جيدة وجريمة هي وصف حالة سيئة للشخص وبالتالي هذا التناقض كأنما يعطي عذرا للقاتل لارتكاب جريمته، وبدأنا من ثم التفكير في هذه الحالات، ووجدنا أن هناك ما بين 16 الى 25 ضحية سنويا ما بين عام 1993 الى عام 1996 وقمنا من خلال هذا التعداد بعمل أبحاث حول طبيعة وأنماط الاصابات، كما أصبح لنا أيضا مساهمات مع المجتمع المحلي في اعطاء مصداقية لما يقولون. فمثلا المحامية أسماء خضر من الناشطين في قضايا حقوق الانسان لم يكن كلامها ليجد صدى لولا أن هذا الصدى له أيضا رديف يعطيه مصداقية من خلال الجانب العلمي والمتمثل في المركز الوطني للطب الشرعي.

* ولكن الظاهر أن المجتمع الأردني فهم رسالتكم بشكل خاطئ؟

ـ المشكلة التي نواجهها الآن أن المجتمع الأردني نتيجة اعطائه جرعة اعلامية زائدة بدأ يفهم الحديث عن جرائم الشرف وكأنه دفاع عن المجني عليها. وبدأ المجتمع يرفض الكثير من الأمور التي تنطوي تحت هذا العنوان، ليس لقبوله القتل بحد ذاته ولكن لاقتران موضوع الدفاع عن الشرف بكونه متعلقا بموضوع الزنا وبالتالي بدأنا نفكر بتغيير تلك التسمية. دعيني أعطيك مثالا عندما كان العالم يتحدث عن قضية منع الحمل بدأ المجتمع يرفض الحديث عن هذا الموضوع «لتعارضه مع الدين» لكن عندما استخدم مصطلح آخر للتسمية كتباعد الأحمال استقبل المجتمع تلك التسمية بنفسية أصفى من مصطلح منع الحمل وبالتالي بدأت أعتقد بضرورة تغيير تسمية جرائم الشرف.

* من خلال طبيعة عملك، كم تتراوح أعمار الفتيات القتيلات في جرائم الشرف؟

ـ اذا تحدثنا عن تلك الجرائم نجد أن معظم الفتيات القتيلات هن فتيات في المرحلة الانجابية من العمر أي ما بين 16 الى 40 عاما، ومعظم جرائم القتل تكون عنيفة وتستخدم فيها المقذوفات النارية أو السلاح الأبيض والمقصود به هنا السكاكين، كما أن هناك حالات بشعة جدا مثل قطع الرأس مثلا. وكان لتلك الجرائم وقع شديد علينا نحن كأطباء شرعيين خاصة، كما سبق وذكرت لك بأن بعض تلك الحالات يتم فحصها في عياداتنا فتبقى الذاكرة عالقة في نظرة الخوف والرعب التي كانت تبدو على وجه تلك الفتاه أثناء فحصها ومن ثم رؤيتها مرة أخرى على طاولة التشريح بعد عدة أشهر وأحيانا بعد بضعة أيام.

* ما هي الحالة التي كان لها الأثر الأكبر على نفسك في صالة التشريح؟

ـ هي مشاهدة جثة فتاة كانت قد تزوجت من شاب بدون موافقة ذويها، وزواجها كان على سنة الله ورسوله الا أن تلك الفتاة هربت مع زوجها الى منطقة خارج المنطقة التي يسكن فيها ذووها، وأعيدت بواسطة الحاكم الاداري الى ذويها، ووقع ذووها على جميع الضمانات للحفاظ على حياتها. والمفاجأة كانت بعد بضعة أشهر عندما أحضرت تلك الفتاة الى طاولة التشريح ولكن هذه المرة كانت مصابة بحروق شديدة. كان التحقيق الأولي يفيد بأن تلك الفتاة حرقت نفسها أو انتحرت، وسوف يتفهمني الأطباء الشرعيين حين أتحدث عن مدى صعوبة التمييز في هذه الحالة ـ أي بين القتل العمد أو التعذيب وبين الدوافع الانتحارية التي أدت لتلك الوفاة ـ وأحيانا التمييز يكون أشد صعوبة ان دفع شخص ما مثلا شخص آخر للانتحار وبالتالي كان قبول المجتمع الأردني لانتحار مثل هذه الفتاة سهلا جدا، وبالتالي كان ذلك دافعا أقوى لي لأعلن بصوت عال بأنه لا يجب السكوت على تلك الجرائم، ويجب الحديث عنها بصوت مرتفع، وكان مثالنا في ذلك قائد الوطن الملك حسين رحمه الله الذي قال إن الحديث عن مشاكل المرض هو الخطوة الأولى نحو العلاج.

* هل من مرة رأيت احدى أمهات هؤلاء الفتيات في مسرح الجريمة، وكيف تستقبل هؤلاء الأمهات مقتل فتياتهن؟ ـ أحيانا عندما أذهب لمسرح الجريمة أشاهد الأم وأحيانا أجدها شريكة في محاولة اخفاء معالم الجريمة، وكأنها تحاول أن تتعامل في ذلك الوقت مع ما تبقى لها من أسرتها وهو ابنها لأنه غالبا ما يكون القاتل في تلك الجرائم هو الأخ، وبالتالي هي تحمي ابنها. وقد أبدوا أنني أقول كلاما متناقضا ولكن دعيني أعلن بصراحة أن القاتل في كثير من الحالات هو ضحية أيضا لضغط المجتمع وتحريضه بحيث يجبره ويدفعه لارتكابه مثل هذه الجرائم. يجب أن لا ننسى بأن «هذا الشخص» عاش فترة من حياته كأخ مع أخته في أسرة واحدة، ونشأ الاثنان سويا من دون وجود ضغائن بينهما، ومع ذلك يجد «هذا الأخ» نفسه في موقف يضطر فيه أن يقتل «هذه الأخت» تحت مفاهيم اجتماعية وتحت ضغط مجتمعي، لذلك أنا أعتقد أن هذا الأمر يتطلب البحث والتمحيص والتطور نحو الأفضل مع الحفاظ على الأخلاق والقيم الدينية والعرقية التي نعيش بها.

* عينة مما يحدث

* ما زالت المحاكم الأردنية تعج بقضايا جرائم الشرف التي تنشرها صحيفة «التايمز» الأردنية، ويعامل مرتكبها كما لو أنه مجرم من «خمسة نجوم» حيث تمثلت الجريمة الأولى في كل من المتهمين الزوج ص. أ الذي يبلغ من العمر 37 سنة وزوجته أ 33 سنة.. متهمان بقتل أخت الزوج الحامل سفاحا ن. أ البالغة من العمر 24 سنة في منطقة دير الله وذلك بتوجيه ركلات متتالية الى رحمها وهي حامل في شهرها الخامس مما أدى الى اصابتها بنزيف داخلي أسفر عن ازهاق روحها وروح جنينها. وذكرت هيئة المحكمة أن سبب قتلهما للضحية يعود الى «حملها بدون علاقة زوجية». وتم تخفيض الحكم الصادر بحق كل من المتهمين ص. أ وأ من السجن 6 أشهر الى السجن لمدة شهرين فقط لأنهما ارتكبا جريمتهما أثناء ثورة غضب وانفعال أصابتهما عندما أخبرت المجني عليها زوجة أخيها بأمر حملها مما حدا بالأخيرة الى ضرب وركل المجني عليها، وانضم الزوج لزوجته في توجيه المزيد من الركلات المبرحة والضرب لشقيقته. ويعود أيضا تخفيض عقوبتهما بالسجن الى تنازل أهل الضحية أي باقي العائلة عن حقهم الشخصي ضد شقيق القتيلة وزوجته. وعللت المحكمة في حيثيات حكمها أسباب تخفيض أحكامها في حق المتهمين كون المتهمين كانا في ثورة غضب وانفعال بعد اعتراف القتيلة بحملها سفاحا وأن الجانيين لم يقصدا قتل الضحية.

ومن قصة الى قصة أخرى بطلها ص البالغ من العمر 25 سنة. حكمت المحكمة عليه بالسجن لستة أشهر لاطلاقه الرصاص في الشارع على شقيقته المتزوجة التي تبلغ من العمر 27 سنة. ولقد خفضت المحكمة حكمها الى نصف المدة بعدما تنازل زوج المجني عليها وباقي عائلة الضحية عن حقهم الشخصي. كما مثل سائق سيارة الأجرة الذي اتهم من قبل الشقيق باقامته علاقة غير شرعية مع شقيقته الضحية، ومثل هذا الرجل أمام المحكمة بتهمة الدخول في علاقة غير مشروعة مع امرأة متزوجة، ولكن سرعان ما سقطت تلك التهمة عن ذلك الرجل لسبب بسيط وهو أن المحكمة تشترط وجود طرفي العلاقة غير المشروعة. وبما أن الضحية ميتة فذلك يهز أركان القضية وتبعا لذلك سقط الاتهام عن هذا الرجل وغادر طليقا....