صبية فلسطينية تجد نفسها فجأة أما لأربعة أطفال بسبب حاجز إسرائيلي

* أمل تقول لـ«الشرق الأوسط» إنهم لم يقتلوا أمها فقط بل قتلوا معها أحلامها بالغد والمستقبل * والدها عاطل عن العمل منذ أكثر من عام ولا يستطيع توفير لقمة الخبز لأبنائه * جدتها تقول إن الإسرائيليين لم يغتالوا الأم فقط بل اغتالوا أطفالها الخمسة ايضا

TT

وجدت أمل الصبية ذات الخمسة عشر ربيعا نفسها مسؤولة عن أربعة أطفال، أكبرهم صبي في الثالثة عشرة من عمره وأصغرهم طفلة عمرها 3 أشهر فقط، بعد وفاة والدتها إثر منع الجنود الإسرائيليين على إحدى الحواجز مرورها للذهاب الى المستشفى رغم أن حالتها الصحية كانت سيئة جدا (مصابة بالانيميا الحادة)، فلم تتحمل الأم حينها شدة الألم فماتت. وعلى الفور وبلا مقدمات وجدت الصبية أمل نفسها أمام خيار واحد هو تجسيد دور الأم ودور البطولة في أحداث القصة الواقعية الذي تعيشها هذه الأسرة الفلسطينية، لهذا قبلت أن تكون أما لهؤلاء الأطفال، رغم أنها في المقابل تعي جيدا أن الأمومة ليست سهلة وانها حالة دائمة من التضحيات. وتعرف أيضا أن والدها عاطل عن العمل لا يستطيع إشباع جوع أطفاله ولو بكسرة خبز. هديل وهدان قامت بزيارة «الأم» أمل التي غادرت براءة طفولتها مبكرا لتجدها منكبة على تربية أطفالها حتى لا يشعروا بفقدان حنان امهم الحقيقية كما تؤكد لـ«الشرق الأوسط»:.

أول ما سمعت عن حكاية أمل بدأت اهيئ نفسي للتوجه الى قريتها «عرابة» قرب جنين. وحين التقيتها هناك سألتها عن رحيل والدتها واحساسها وتساؤلات عديدة وكأنني أريد من هذه الصبية الصغيرة أن تتحدث عن كل شيء وهي التي التي اتخذت قرارها بشجاعة لتكون أما لأربعة أطفال مضحية بطفولتها ومراهقتها وما فيها من احلام. «ماذا عساي أقول» بينما العبرات تخنق صوتها الخفيض، «ليست أمي وحدها التي ماتت، لقد ماتت معها أحلام كبيرة بالغد والمستقبل لطالما عشناها معاً ورأيتها تتحقق في عيني أمي بينما ترقبني في المدرسة والبيت أدرس وأتفوق». وكانت والدة امل معلمة في ذات المدرسة التي تدرس فيها ابنتها، تتابع بفخر عبارات المديح التي تتلقاها امل لقاء تفوقها. «كل هذا الآن أصبح بلا معنى، هناك أشياء أكثر أهمية» قالت أمل بينما تداعب بيدها شعر شقيقتها، وتمسح باليد الأخرى دمعة انحدرت على وجنتها خشية سقوطها على وجه الصغيرة فتوقظها من نومها. والدة أمل، عائشة نصار (42 عاما)، ماتت عندما منعها جنود إسرائيليون من عبور حاجز عسكري أقاموه على مدخل القرية منذ أكثر من سنة، وكانت تعاني من أنيميا حادة، وتوفيت بينما كانت تنتظر الإذن للمرور إلى مستشفى جنين الحكومي الذي يبعد مسافة خمسة عشر دقيقة عن بيتها في عرابة. «أنا الآن أم لهذه الطفلة»، أعادتها أمل على مسامعي مرات ومرات متجاهلة بذلك سؤالي لها عن مدرستها التي تركتها رغم تفوقها وتأبى العودة إليها حتى بعد أربعين يوماً على رحيل والدتها. «من سيعتني بهؤلاء؟» قالت مشيرة لأخويها اللذين دفعهما فضول الأطفال لمعرفة ما تفعله هذه الغريبة (أنا) في منزلهم. «أم هل تعتقدين انني سأرمي بإخوتي إلى الشارع ليرعاهم الغرباء؟». شعرت حينها أني أرى الغضب في بريق عينيها الباكيتين، لم تكن الدموع فقط وراء هذا البريق، كان كل شيء فيها يقول انها تكاد تنفجر من الغضب «لن أرد جميل أمي وطيبتها بأن أرمي أبناءها للمجهول بينما أسعى أنا وراء أحلام زائفة».

* حصار الدبابات وحصار الأسئلة

* لم يكن الحصار حول قرى جنين سوى حلقة صغيرة ضمن حلقات تكبر وتتسع لتحيط بكل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية منذ أكثر من 17 شهراً هي عمر انتفاضة الأقصى الفلسطينية. كما أن أمل وعائلتها قصة من بين أكثر من ثلاثة ملايين قصة هو عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة الذين يقتلهم الحصار كل يوم مرات ويرفضون أن يعاملوا بلغة الأرقام والإحصاءات، فلكل واحد منهم قصته الخاصة والمميزة. «هؤلاء هم الضحية» قالت الحاجة نعمة نصار، مشيرة إلى أولاد أخيها، وهي وحدها التي أخذت على عاتقها مسؤولية أخذ القرار عندما تابعت قائلة «لطالما تعاملوا معنا كأرقام تقل بسقوط شهيد جديد. الإسرائيليون يدركون تماماً أنهم لم يقتلوا عائشة فحسب، لكنهم قتلوا معها أطفالها الخمسة الذين لم يعد لديهم من يرعاهم، وزوجها الذي أصبح حائراً لا يدري ما يفعل».

* لا يسمحون لنا بالحياة

* والد أمل، الأرمل الجديد، عاطل عن العمل منذ حوالي العام ونصف العام، وحسبما يقول هو «يعيش على التساهيل»، لكنه في المقابل يشاهد ويقارن: أقل من 200 ألف مستوطن إسرائيلي يتحركون بحرية في كل الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما تزودهم الشاحنات الإسرائيلية بالطعام والوقود وكل ما يحتاجونه لحياة سهلة ومرفهة، وفي الجهة المقابلة يقبع أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني خلف الحواجز العسكرية والسواتر الترابية غير قادرين على مغادرة بيوتهم وقراهم ومدنهم للحصول على الرزق أو الرعاية الصحية. «هل تعرفين كيف يختنق الإنسان.. يغرق دون أن يكون قادرا حتى على الصراخ؟ هذا أنا» قال والد أمل، محمد ناصر (48 عاما)، بينما كان ينفخ الدخان من سيجارته المعدة يدوياً بعصبية واضحة «أنا عاطل عن العمل منذ أكثر من سنة، غير قادر حتى على توفير لقمة الخبز لأولادي، وموت زوجتي جعل الأمر الآن أكثر صعوبة، من سيعتني بهم؟» قال مشيراً لطفليه اللذين لازماني طول فترة بقائي عندهم، «لا أدري لم يسمحون لنا بالعيش؟» قال ناصر بنبرة مليئة بالإحباط واليأس «هل يفترض بنا الوقوف مكتوفي الأيدي بينما يقتل أحبتنا ويشرد أطفالنا وتستباح كرامتنا وإنسانيتنا؟».

* 191حاجزا عسكريا

* عرابة، مثلها مثل باقي المدن والقرى الفلسطينية، بدت وكأن زلزالاً ضربها، الطرق التي ترتفع وتتلوى لتصل إلى التلة حيث تقبع عرابة كلها مدمرة من دون ان يكون للطبيعة يد في هذا الدمار، فقد حفر الجنود الإسرائيليون أنفاقا عميقة وبعرض اربعة أمتار لمنع مرور السيارات وحتى البشر، لا سيما في الجو الماطر، وكانت هذه طريقة ناجعة لمنع أكثر من ألفي قروي من مغادرة القرية لأي سبب كان. «لا تصلح للاستخدام البشري» كما وصف أحد سائقي سيارات الأجرة هناك الطريق إلى القرية عندما توقفت بسيارتي أسأله أن يدلني على الطريق، وبسذاجة سألته عن الحل فقال «إما أن تستأجري حماراً أو تسلكي طريقاً ترابياً أطول وربما تكون هناك دورية إسرائيلية تنتظرك في الجانب الآخر من الطريق». فضلت وقتها المغامرة مع الطريق الترابي فضلاً عن حمار لا أتقن قيادته، وبصراحة أكبر، أخاف ركوبه. اليوم، الضفة الغربية وحدها مقسمة لأكثر من 73 قسما عبر 191 حاجزا عسكريا جديدا أضيفوا إلى تلك التي كانت موجودة أصلاً قبل الثامن والعشرين من سبتمبر (أيلول) 2000، هذا إضافة إلى عدد لا يحصى من السواتر الترابية والإسمنتية التي تسد الطرق والمداخل الفرعية للمدن والقرى الفلسطينية، كل هذا تحت مسمى «الأمن الإسرائيلي» وتحت هذا المسمى أيضاً لن يستغرب الفلسطينيون على ما يبدو إذا ما فصلت الحواجز بين الجيران أو حتى أفراد العائلة الواحدة.

* أطفال بلا حليب

* وفي عرابة أيضا الرازحة تحت حصار الدبابات والجنود المدججين بالسلاح، بات الطعام والوقود وغيره ومن مستلزمات الحياة الأساسية من المواد الشحيحة إن لم تكن النادرة أحياناً. «بالأمس نفد حليب الأطفال من القرية» قال أبو فادي السعدي، صاحب البقالة الوحيدة في القرية، «كان الحل الوحيد ونحن ممنوعون من مغادرة القرية أن نطلب مساعدة الصليب الأحمر حيث نقل لنا الحليب والخبز في سيارات الإسعاف إلى مدخل القرية، هناك جرى تفتيشه من قبل الجنود ثم نقلناه على ظهورنا إلى القرية» تحدث أبو فادي بينما بدا مختالاً فخوراً بما قدم لأهل القرية. استمعت لأبي فادي بينما ذهني ما زال يستعرض شريطاً من أحداث ومواقف عشتها لحظات وجودي في بيت أمل: قطع بسكويت محلاة حملتها في حقيبتي لتعينني على طول الطريق، كانت كافية حتى يتخلص الطفلان ـ إخوة أمل ـ وإن بشكل مؤقت، من ريبتهما في ونظرات الشك التي لاحقاني بها طوال فترة زيارتي للعائلة، أحدهم تقدم نحوي وهمس «عندي كمان أخو برة» في محاولة للحصول على نصيب اكبر من البسكويت، فصاحت به أمل ولم تفلح كل محاولاتي في ما بعد لإقناعه بأخذ علبة البسكويت كاملة. هذا البيت الذي تضم جدرانه اليوم ستة أنفار ـ في السابق كانوا سبعة ـ لا تتجاوز مساحته العشرين مترا مربعا. غرفة واحدة متعددة الوظائف، ففي النهار هي غرفة استقبال، وبمجرد هبوط الليل تتحول لغرفة نوم، هذا إضافة لمطبخ صغير يبدو وكأنه جزء اقتطع من الغرفة، بينما الحمام خارجي وغرفة أخرى بدت وكأنها للخزين، وكان أول ما قفز إلى ذهني من أسئلة هو كيف نجح الزوجان في إنجاب كل هؤلاء الأطفال في هذه الغرفة؟ تقافزت الأسئلة إلى ذهني دفعة واحدة لم أعد معها قادرة على التركيز أكثر: كيف يعقل أن تتحمل طفلة كل هذا؟ ولماذا عليها أو على أي شخص آخر أن يفعل؟ هل هو القدر فعلاً من يدفع بها إلى مثل هذه الحياة؟ وكم من الوقت سأحتمل أنا لو كنت مكانها قبل أن أقرر التخلص من هذه الحياة؟

* الطريق الى رام الله

* بدأت رحلة عودتي إلى رام الله بينما تتزاحم هذه الأفكار والخواطر في عقلي، غطت على وحشة الطريق الترابية التي بدأت أقطعها، وكنت اقود مسرعة ربما بسبب وحشة الطريق ورهبة الصمت، وتسببت السرعة في انفجار عجلة السيارة.. انها مغامرة أخرى. ولم أكد أشرع في تبديل الإطار حتى وجدت ثلاثة من الجنود الإسرائيليين ـ دورية عسكرية كان من المفترض أن ألتقيها معترضة طريقي في رحلة الذهاب لا العودة ـ يتقدمون نحوي بينما يتهامسون ضاحكين «شو بيسوي هون» قال أحدهم بلغة عربية ركيكة، «كما ترى» قلت له بالإنجليزية، طلب رؤية أوراقي الثبوتية ودار دورة حول السيارة ثم عرض المساعدة. لحظات عصيبة تلت عرضه، ومرة أخرى مر علي شريط أحداث اليوم بدءا بلحظة مغادرتي لرام الله في الصباح الباكر، مروراً بمغامرة الطريق وانتهاء بأمل وعائلتها «كل ما أنا فيه الآن هو بسببكم» قلت في نفسي موجهة كلامي الصامت للجنود الاسرائيليين، وشعرت بدمي يغلي في عروقي رغم برودة الجو. لم أعد أرى الجنود، كان كل ما أراه هو ذلك البريق الغاضب في عيني أمل ونظرات أخيها إلي بينما أعرض عليه الحلوى ويرفض رغم رغبته الشديدة فيها، وذلك الإحباط والحنق على وجه والدها.

وجوه الجنود الساخرة عادت فقط لحظة تكلم أحدهم بعربية ركيكة «لازم دير بالك هون في إرهابيين»، قالها ثم مضوا جميعاً ساخرين من رفضي لعرضهم. إرهابيون فعلاً.. لكن من يقصدون؟ هل يقصدون هؤلاء الذين تسببوا في مقتل ما يزيد عن ألفي فلسطيني وجرح 400 ألف والتسبب بإعاقة أكثر من ثلث هذا العدد وهدم البيوت وتشريد العائلات والتهرب من الاتفاقيات والإلتزامات ناهيك من عائلات دمرت وأحلام عاثوا فيها فساداً؟

=